من كتاب إشراقات قرآنية بعنوان:
(سورة المدَّثِّر)
الحلقة السابعة والثمانون
بقلم: د. سلمان بن فهد العودة
رجب 1442 هــ/ فبراير 2021
* {كَلاَّ إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا}:
{كَلاَّ} أي: لن أزيده، وقد كان طمعه في الدنيا في المجد والملك، وطمعه في الآخرة أن يقول: إذا بُعثت فسوف أكون أكثر الناس مالًا وولدًا، كما قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَدًا} [مريم: 77]، فأخبر سبحانه أنه لن يزيده، ثم علَّل ذلك بقوله: {إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا}، وهذا متضمن لكفرانه للنعم، فلم يكن كفره بسبب الجهل أو عدم بلوغ الرسالة أو نقص العقل والفهم، كلا، كان العناد والإصرار هو السبب في رفض الدعوة وجحد الآيات، وعبر بالجمع، فلم تكن آية واحدة، بل آيات كثيرة، وكما قال سبحانه عن آل فرعون: {وَمَا نُرِيهِم مِّنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا} [الزخرف: 48].
ويشمل هذا الآيات القرآنية التي تلاها عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، واعترف هو ومَن معه بصِدْقِها وقوتها وعظمتها، ثم تحايلوا كيف يصرفون الناس عنها.
ومنها الآيات القدرية والأحداث التي تجري، وفيها حِكَم وأسرار، ثم يعرضون عنها ولا يعتبرون.
ولذا كان الله تعالى يُبَيِّن أن العقاب والعذاب على مَن عَلِمُوا ثم عاندوا وجحدوا: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} [الإسراء: 15].
* إن شكر النعمة هو سبب المزيد، يقول تعالى: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيد} [إبراهيم: 7]، وهذا كَفَر؛ ولهذا فالعذاب ينتظره، ولا شك أنه بعد نزول هذه الآية كان في انحدار وتسفل، ينقص ماله وولده، وتكثر همومه وغمومه، فإذا توقف العطاء عن المزيد بدأ النقص والتراجع؛ ولذا جاء الوعيد بعدها مباشرة، {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا}:
توعَّده بالإرهاق والتعب في الدنيا والآخرة، والإرهاق: الإتعاب، كما قال تعالى: {وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} [الكهف: 73]، أي: لا تحمِّلني ما لا أطيقه، والمعنى: سأكلِّفه وأُجهده وأُتعبه.
والصَّعود: صعود الإنسان لجبل وَعْر، كما قال تعالى: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء} [الأنعام: 125]، ومنه العقبة التي في الجبل، فإن صعودها مرهق، والناس يسمونها: صَعْدة، كما سميت بذلك بعض المدن؛ لوعورتها، وهذه العقبة الشديدة التي توعَّدها الله تعالى للوليد بن المغيرة لم يسمها: صَعْدة، بل: {صَعُودًا}، على صيغة المبالغة؛ لشدتها وكلفتها؛ لأنه كَفَرَ ورمى النبيَّ صلى الله عليه وسلم بالسحر، فالله سوف يرهقه صَعُودًا، وهذا عقاب دنيوي، فتكون الأمور صعبة عليه مشدَّدة، كلما جاء إلى طريق وجده مغلقًا، وهذا مقدمة لعذابه في الآخرة.
وقد نُقل عن ابن عباس وأبي سعيد الخُدْري رضي الله عنهما وغيرهما أن {صَعُودًا}: جبل في النار.
وهذا لا يُعارض ما نُقل عن جماعة من السلف من أن المقصود: العذاب، فيشمل العذاب في الدنيا قبل العذاب في الآخرة: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ} [السجدة: 21].
فالعذاب الدنيوي هنا من نقص الولد والمال وتعسر الأمور بسبب عدم الشكر لنعمة الله عليه بالمال والولد وكان عنيدًا.
* {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّر}:
أي: أعمل فِكْره وعقله، والتفكير بحد ذاته ليس أمرًا معيبًا، بل هو مطلوب، وهو من المساءلة والمسؤولية والمؤاخذة لهذا ولغيره أن يستخدموا ما أعطاهم الله من الفكر والعقل في العناد وجحد الحق، وإلا فالله تعالى وعَظَهم بأن يتفكروا، وقال لهم: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا } [سـبأ: 46]، والعقل الصحيح الرشيد لا يخطئ، والفكر الصحيح الرشيد لا يخطئ، وإنما يخطئ إذا تلبَّسه الهوى.
هذا الوحيد المغرور قد فكَّر وقلَّب الأمور على وجوهها؛ لينظر أنسب وصف يمكن أن يصف به النبيَّ صلى الله عليه وسلم؛ ليصرف الناسَ عنه، وعَقَدَ حلقة نقاشية استمع فيها لآراء القوم، لينتهي إلى اختيار أقروه كلهم واعتمدوه، أن يقولوا: إن النبي ساحر، ويعتمدوا في هذا على ما يجري حين يسلم بعض الشباب، فيثور عليهم ذووهم وأهلوهم، ويكون ذلك سببًا في مفارقة الزوج لزوجته وكذا العكس، ومفارقة القبيلة، فهذا إذًا يفرِّق بين الناس بدعوته.
ومع التفكير فهو قد قدَّر وحسب حساباته فيما كان له من الجاه والمكانة، وماذا سوف يقول الناس عنه، وماذا سوف يخسر إذا لم يقل هذا.
التفكير هنا ليس حرًّا ولا متجرِّدًا، ولا إعمالًا للعقل السليم، بل هو تفكير مبني على التقدير.
* ويحتمل كلمة: «قدَّر»- والله تعالى أعلم-: التقدير، بمعنى: التضييق، أي: أنه لم يُفكِّر في الأمر تفكير الباحث عن الحق، وإنما ضيَّق على نفسه، فقصر تفكيره على ما يمكن أن يجيب به عن القرآن فقط، وحصر نفسه بين خيارات ثلاثة: إما سحر أو شعر أو كهانة، وحينئذ اختار واحدًا منها، ولو أنه وسَّع إطاره وفكَّر تفكيرًا حرًّا متجرِّدًا، فإن الله تعالى سيهديه إلى الصواب، والله سبحانه هنا لم يعبه بالتفكير، وإنما عاب عليه التقدير، فقال: ﴿فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ﴾ [المدثر: 19-20] وهو دعاء عليه بالهلاك، وهذا جارٍ في لغة العرب مثل قولهم: ثكلته أمه، أي: هلك أو قتل، كما قال الله تعالى: {قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَه} [عبس: 17]، وقوله: {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُون} [المنافقون: 4]، فهذا دعاء عليهم.
وفيه معنى العتب وتعييب على فعلهم، فطريقته في التقدير كانت هوى وضلالًا.
وقوله: {ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّر} فيه تكرار، ولكن التكرار في القرآن يحمل على التوكيد، أو يحمل كل لفظ على أمر مختلف عن الآخر.
فالأولى: دعاء عليه بالهلاك؛ كيف كان تقديره وتفكيره حين قرَّر اختيار المال والجاه والدنيا على الدعوة والإيمان.
والثانية: دعاء عليه بخصوص الموقف حين قدَّر وقرَّر أن يقول: إن القرآن سحر والنبي ساحر، ويختار أمر التفريق بين الأحبة، وهو يعلم في قرارة نفسه أن هذا الإفك لا ينطلي إلا على الجهلة الأغرار، ولكن التكرار والنقل يجعله سائغًا، خاصَّة عند القادمين لمكة لفترة محدودة، ومصالحهم مرتبطة بتجار قريش وسادتها.
* ثم ذكر تعالى تفصيل ما جرى، وكأنك تراه: {ثُمَّ نَظَر}:
والمقصود بـ{نَظَر}: نظر العين، وليس نظر العقل فقط؛ ليكون زائدًا على ما أفاده {فَكَّرَ وَقَدَّر}. و{نَظَر} معناه: أنه كان يُقلِّب عينيه في الحضور، والإنسان الذي يتظاهر بأنه حَصِيف وعاقل وصاحب تفكير بعيد وتحليل عميق، يسكت ثم يُجيل نظره في الحاضرين، ويتأمَّل، فهذا يعطيه هَيْبة، ويعطيه فرصة لاستجماع فكره وصياغة كلامه، ويهيِّئ الحاضرين لاستماع ما يقوله.
* {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَر}:
أي: طأطأ رأسه وقطَّب جبينه؛ إشارةً إلى صعوبة الأمر، وأنه يحتاج إلى إعمال الفِكْر والذهن.
* {ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَر}:
هذه هي النتيجة، والإدبار قد يكون إدبارًا حسيًّا، بمعنى: أنه قام من المجلس منصرفًا، وقد يكون معنويًّا؛ بأن قرَّر بعد هذا التفكير المجْهِد والتقدير والنظر والعُبوس والبُسور، أن يُعْرِض عن الإسلام، وأن يستكبر، وأن يختار طريق الكفر والضلال.
* وهذا هو الذي كان منه ولُعن بسببه، ثم قرَّر تبعًا لهذا أن يفتري الفرية التي عنها يصدرون: {فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَر}:
أي: هذا الذي جاء به محمد {سِحْرٌ} أخذه عن غيره؛ يُفرِّق به بين المرء وزوجه، وبين المرء وأخيه، ويؤثِّر في نفوس مستمعيه، ويشلّ قدرتهم على التفكير؛ فما هو إلا أن يسمع أحدهم كلام محمد حتى يزول عقله ويتغير مزاجه.
وهذا الذي قاله مخالف للواقع الذي يشهد أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا أحسن الناس برًّا بآبائهم وأمهاتهم، حتى في حال الكفر، كما علَّمهم ربهم فقال: {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15]. وكانوا أحسن القوم عقولًا وأسلمهم نفوسًا وأصبرهم على الحق وأطوعهم للحجة.
وادَّعى أنه {سِحْرٌ} قوي يغيِّر الناس بقوله وليس بنفثه وعقده، وأن محمدًا يأخذه عن أناس سابقين، فهو يقول: هو نوع خاص من السحر يعرفه أهل الصناعة والتخصص.
وكم تنطلي مثل هذه التعبيرات على الجاهلين أو المتعالمين! وقال هذا لأن نصوصه فيها إعجاز وبلاغة، والعرب يعرفون ذلك، فخرج من هذا المأزق بقوله: إنه ساحر، أخذًا عن بعض مَن سبقوه.
* {إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَر}:
أي: هذا من كلام الناس، وهذا ما تفتق عنه ذهنه الفاسد!
* وبعد أن وصف الله تعالى موقف الوليد بن المغيرة من القرآن، وتزعمه للحرب الضَّروس الشرسة على نبي الإسلام، ذكر العقاب الذي توعَّده به في الآخرة: {سَأُصْلِيهِ سَقَر}:
والصِّلِي هنا معناه: أن يدخل فيها كله، كما قال الله: {ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا} [مريم: 70]، وكما في قوله: {لاَ يَصْلاَهَا إِلاَّ الأَشْقَى} [الليل: 15]، وقوله: {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا} [إبراهيم: 29].
فالمقصود: المَصْلِيّ التام الذي يُشوى كل جزء من جسده، وهو كان صاحب سفر وعزٍّ وجاه، يُوقد النيران في الشتاء ويصطلي بها من البرد، ويختار المكان الذي يريده قربًا أو بعدًا من النار، أما هنا فالأمر ليس بيده، بل بيد الله يُصليه هذا السعير.
و{سَقَر} أحد أسماء النار، وقيل: هو اسم لإحدى دَرَكاتها، قيل: الدَّرَك السادس.
وهو أول موضع ذُكر فيه هذا الاسم لها، فكل مَن سمعها سوف يسأل: ما
{سَقَر}؟ فالجواب: أن لا أحد يدركها، فأمرها أعظم من أن يُحيط به عقل، أو يحدّه ذهن، أو يفهمه سمع، أو تدركه لغة، أو يلحقه خيال.
سلسلة كتب:
إشراقات قرآنية (4 أجزاء)
للدكتور سلمان العودة
متوفرة الآن على موقع الدكتور علي محمَّد الصَّلابي: