إشراقات قرآنية: سورة الإخلاص
الحلقة 182
بقلم: د. سلمان بن فهد العودة
صفر 1442 هــ / سبتمبر 2021
* {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد}:
استفتحت السورة بـ{قُلْ}، وقد خُوطب النبي صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ في ثلاثمئة وعشرين موضعًا من القرآن الكريم، هذا أحدها.
ويتبين بالاستقراء أن عددًا غير قليل من هذه المواضع كان النبي صلى الله عليه وسلم يتلقَّى فيها أسئلة الناس ثم يجيب الله تعالى عنها، ويُوجِّه الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم فيقول: «قل لهم..».
وقد تكون هذه الإجابات لأسئلة المسلمين، كما في قوله سبحانه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189]، وقوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ} [البقرة: 220].
وقد تكون لأسئلة غير المسلمين طُرحت على سبيل الاستشكال، أو التعنُّت، أو الإحراج للنبي صلى الله عليه وسلم، أو السخرية.
فمن ذلك: سؤال الوثنيين النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن ينسب لهم ربه؛ لأنهم كانوا يعرفون الأصنام التي يرونها بأعينهم عند الكعبة، وعند الصفا والمروة، وفي الطائف، وكانت مصنوعة من حجارة أو خشب على شكل إنسان، وأصبح المعنى العظيم للألوهية مرتبطًا عندهم بالأوثان التي تعوَّدوا على رؤيتها، فلما عرفوا اسم الله العظيم، كان فيه شيء من الدهشة عندهم، كما قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} [الفرقان: 60]، وقالوا: لا نعرف إلا رحمان اليمامة، فلهذا جاء بعض المشركين إلى النبي صلى الله عليه وسلم قائلين له: انسُب إلهك: أحجر هو؟ أحديد هو؟ كما تقدم.
سألوا هذا على وفق ما كانوا يعتقدون، وما كان في عقولهم السخيفة في الجاهلية من تصور الآلهة بطريقة ساذجة مادية.
ومن ذلك: سؤال اليهود والنصارى النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن الله، وهي أسئلة خُبث، فكان سؤالهم على سبيل التحدِّي والإحراج، وأحيانًا على سبيل التظاهر بالعلم؛ لأن عندهم علم من الكتاب، فهم يفتخرون به.
ومن أسئلتهم: سؤالهم النبي صلى الله عليه وسلم عن الولد، كيف ينزع إلى أبيه أو أمه؟ وسؤاله عن أول طعام يأكله أهل الجنة؟.
وفي قوله تعالى: {قُلْ} إشارة إلى أن العقيدة تُتَلقَّى من عند الله، وأما البشر فإنهم لا يستطيعون أن يحيطوا به تعالى علمًا، ولا أن يعرفوا العقيدة لو لم يعلِّمهم ويعرِّفهم بها، والله تعالى يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52]، وليست العقائد مما يُدرك بالعقل المجرد.
ولو نظرت إلى أكابر الفلاسفة من أمثال سُقراط، وأفلاطون، وأرسطو، وإلى كلام أهل العلم في كل مجالات الحياة، لوجدت الكلام الذي يقولونه عن الله مضطربًا ضعيفًا، لا يزرع هيبة في القلوب، ولا يجيب على أسئلة العقول، ولا يزيل شبهة، ومع ذلك فهو مقصور على الباحثين والمتخصِّصين، ولا يصل إلى العامة وسائر المكلَّفين.
فالنبوة هي التي تعرِّف الناس بربهم حق المعرفة بواسطة الوحي المنـزَّل من حكيم حميد.
ونحن نؤمن بأن الفطرة السليمة مثل الورقة البيضاء التي تقبل الكتابة عليها، وتستجيب لها، وتفرح بالهداية إذا وصلت إليها، وتنسجم معها.
ونؤمن بأن العقل السليم يتقبل المعاني الصحيحة، كما قال ابن تيمية: «إن الأنبياء هم أكمل الناس كشفًا، وهم يخبرون بما يعجز عقول الناس عن معرفته، لا بما يُعرف في عقولهم أنه باطل، فيخبرون بمحارات العقول لا بمحالات العقول».
ومعنى هذا أنه لا يوجد في الشريعة شيء يناقض العقل، ولكن يوجد في الشريعة أشياء تتحيَّر فيها العقول؛ لأنها أكبر من العقول، كما قال القائل:
فيك يا أُعجوبـةَ الكَـوْ * نِ غدا الفِكْرُ كلـيـلَا
أنت حيَّرْتَ ذوي اللُّبْـ * ـبِ وبَلْبَلْتَ العقولَا
كلـمـا أَقْــدَمَ فـكـري * فيك شبرًا فَـرَّ مـيـلَا
ناكصًـا يخـبـطُ في عَمْـ * ـياءَ لا يُهْدَى السبيلَا
والإجابات الصحيحة عن الله تعالى وعن عالم الغيب لا يمكن الحصول عليها بواسطة العقل، ولا بواسطة الفطرة السليمة فقط، ولا بواسطة النظر البشري، بل عن طريق الوحي الذي تتقبَّله الفطرة ويصدِّقه العقل.
فإن قيل: إن الفطرة قد تهدي الإنسان إلى الإيمان بوجود الله تعالى؛ إذ إن من جملة الأدلة على وجود الله تعالى أدلة الفطرة!
فهذا صحيح، لكن لو أن إنسانًا اهتدى بفطرته إلى معرفة وجود الله تعالى، فإنه لن يهتدي إلى معرفة التفاصيل عن أسماء الله تعالى، وعن صفاته، وعما يجب له من ألوان العبادات.
سلسلة كتب:
إشراقات قرآنية (4 أجزاء)
للدكتور سلمان العودة
متوفرة الآن على موقع الدكتور علي محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/books/7