من كتاب إشراقات قرآنية بعنوان:
سورة الماعون
الحلقة 165
بقلم: د. سلمان بن فهد العودة
محرم 1443 هــ / أغسطس 2021
* {الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُون}:
السهو: الغفلة والنسيان، وقال هنا: {عَن صَلاَتِهِمْ}، ولم يقل: «في صلاتهم»، وبينهما فرق كبير؛ فالسهو في الصلاة، هو ما يقع فيها من شرود ذهني أو خطأ، يجبره سجود السهو، أما السهو عن الصلاة، فهو تأخير الصلاة عن وقتها، أو تعمُّد ترك بعض الفرائض أو كلها من أجل شواغل الدنيا، أو لقلة الاهتمام، أو لعدم الاعتياد.
وقال قتادة: «لا يبالي أصلَّى، أم لم يصلِّ!».
وقال الشيخ محمد عبده: «فأولئك الذين يصلُّون ولا يأتون من الأعمال إلا ما يُرى للناس، مما لا يكلِّفهم بذل شيء من مالهم، ولا يخشون منه ضررًا يلحق بأبدانهم، أو نقصًا يلم بجاههم، ثم يمنعون ماعونهم، ولا ينهضون بباعث الرحمة إلى سد حاجة المعوزين، وتوفير ما يكفل لهم راحتهم، وأمنهم وطمأنينتهم؛ فهؤلاء لا تنفعهم صلاتهم، ولا تخرجهم عن حد المكذِّبين بالدين، ولا فرق بين مَن وسموا أنفسهم بسمة الإسلام أو غيره، فإن حكم الله واحد، لا محاباة فيه للأسماء المنتحلة... إلخ».
وفي كلامه رحمه الله شدة وغلظة ومبالغة مفرطة، وقد وجدتُ له نظيرًا في كتبه، ففي أكثر من موضع يأتي في «تفسيره» بعبارات شديدة في حق العصاة والمخالفين، ومثل هذا الكلام موجود في كتابات بعض الدُّعاة، كالأستاذ سيد قطب، وبعض الناس يظنون أن هذا يدل على تكفيرهم للناس، وفي نظري أن هذه ليست أحكامًا، بل مواعظ يقصد بها الزجر والتحذير والتأثير.
ويُعرف من سير هؤلاء المصلحين أنهم لم يكونوا يكفِّرون المسلمين، بل يمقتون ما هم عليه من التناقض بين الدين الذي ينتسبون إليه، وما يقتضي منهم من مكارم الأخلاق؛ وبين واقعهم الرديء.
* {الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُون}:
قال بعض المفسرين، كالزمخشري: «إن الرياء لا يكون في صلاة الفريضة، وإنما يكون في النافلة».
وهذا غير مسلَّم، وظاهر الآية يدل على أن رياءهم في صلاة الفريضة، ولعلهم منافقون لم يكونوا ينوون الصلاة أصلًا.
والضابط الذي يميِّز الرياء عن غيره: أن المكلَّف إذا كان سيقوم بالعمل، سواء وُجد الناس أم لم يوجدوا، فهو مخلص، ولو طرأ عليه رياء؛ لأن النية استقلت بإحداث العمل، أما إذا كان لن يعمل العمل ما دام الناس غير موجودين، فهذا يدل أنه فعله رياءً ولا يعتدُّ به.
وعلى المصلِّي أن يحذر من الوسوسة والمبالغة والتنطّع، وأن يقطع نظره عن الناس لا تركًا من أجلهم، ولا فعلًا من أجلهم، وكما قال البعض: «لا تتركها حياءً، ولا تفعلها رياءً».
وبعض طلبة العلم يعانون في هذا الباب، ويفتقدون الاعتدال في مراعاة الناس، وهذا يحتاج إلى تربية عظيمة، في كيفية التعامل مع الناس، حتى لا يبالغ في الاهتمام بهم والعمل من أجلهم، ولا يبالغ في إقصائهم خشية الرِّياء {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67].
وفي الحديث: «مَن سمَّعَ سمَّعَ اللهُ به، ومَن راءى راءى اللهُ به».
فالرِّياء يكون بالعمل الذي يراه الناس، مثل: الرِّياء في الصلاة، والتسميع يكون بالقول، مثل: قراءة القرآن أو الذكر أو الكلام الذي يسمعه الناس.
أو السُّمعة لقصد الشهرة، وقد يصلِّي الإنسان رِياءً وسُمعة، من أجل أن يراه الناس، ولتكون سمعته عند الناس حسنة؛ وليكون كلام الناس فيه حسنًا.
* {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُون}:
قيل: الماعون هو: الزكاة، كما ذكره جماعة من الصحابة والسلف والأئمة.
وقيل: الماعون المنتفع به في البيوت، مثل القِدْر والفأس والدلو والإبرة والغربال، وكل ما يحتاجه الناس ويتعارفون على إعارته واستعارته.
ولهذا قال العلماء: من الفضل أن يستكثر الإنسان في منزله مما يحتاجه الجيران، ومثله: طالب العلم يأخذ معه الممحاة والمبراة وقلم الرصاص والحبر، وإن لم يكن يحتاج هذا كله، لكن لينتفع به الآخرون.
وهؤلاء الذين توعَّدهم الله جعلوا ما لله مقصودًا به الناس، ولهذا جاءهم الوعيد المذكور، والوعيد ينبغي أن يكون على مجمل الخصال، يعني: لـمَن وُجدت فيه كلها، وفيه مع ذلك تنفير من أفراد هذه الخصال.
وسياق الآيات يبعث في المؤمن الرغبة في عمل الخير، والحرص على أَلَّا يقع في واحدة من الصفات المرذولة التي حذَّر الله تعالى منها، وذكر أنها مَن صفات مَن يكذِّب بيوم الدين، والله أعلم.
سلسلة كتب:
إشراقات قرآنية (4 أجزاء)
للدكتور سلمان العودة
متوفرة الآن على موقع الدكتور علي محمَّد الصَّلابي: