الأحد

1446-11-06

|

2025-5-4

من كتاب كفاح الشعب الجزائري بعنوان:
(احتلال المرسى الكبير، وتنس ووهران وبجاية ومستغانم)
الحلقة: السابعة
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
 
صفر 1442 ه/ سبتمبر 2020
أ ـ احتلال المرسى الكبير (1505م):
نظراً للأهمية الاقتصادية الخاصة لهذا الميناء، وقربه من مدينة وهران التي لا تبعد عنه سوى (8) كيلومترات وكذا قربه من إسبانيا، ولأجل ذلك جعلت المخططات الإسبانية هذا الميناء هدفها الأول لحملاتها، وهكذا وصل الأسطول الإسباني إلى ميناء المرسى الكبير في (11 سبتمبر 1505م) يُقلّ (5000) جندي، بعد تأخر جاء في صالح القوات الإسبانية ؛ لأن القوات الرسمية والشعبية التي جاءت للدفاع عن الميناء عندما بلغها خبر إقلاع الأسطول من ميناء مدينة مالقة الإسبانية في (29 أوت 1505م) أسرعت إلى المرسى الكبير، وانتظرت وصوله، لكن عندما طال انتظارها ظنت أن الإسبان تراجعوا عن مهاجمة الميناء، فرجع أكثرهم تاركين حامية لا يزيد عدد أفرادها عن (500) رجل وُكلت إليها مهمة الاستطلاع والمراقبة.
وعندما وصل الأسطول الإسباني اشتبك مع حامية المرسى في معركة عنيفة غير متكافئة، انتهت باحتلال قلعة المدينة والتحصُّن بها، وبعد (50) يوماً من المقاومة الشعبية العنيفة، قرر أعيان المدينة تسليم المدينة للإسبان مقابل اتفاقية تضمن لهم الحياة، وحرية الانسحاب من دون أذى. فوافق الإسبان على ذلك بشرط أن لا يأخذوا معهم أي شيء من الزاد والمؤن والحيوانات، فأخلى الأهالي المدينة، ودخلها الإسبان ورفعوا فوقها أعلامهم، وحولوا في الحال جامعها الأعظم إلى كنيسة.
أرسل الملك الزياني جيشاً بلغ بالإضافة إلى المتطوعين (22000) جندي من المشاة، و(2000) من الفرسان لتحرير المدينة، لكن الإسبان كانوا قد أحكموا تحصينهم بها، ونصبوا مدافعهم على أسوارها، ونشبت معارك عديدة تحت أسوار المدينة، لكنهم لم يتمكنوا من زحزحة الإسبان عن مواقعهم.
وما كاد خبر احتلال المرسى الكبير يصل إلى إسبانيا حتى اجتاحتها موجة من الفرح والابتهاج، وأعلن فيها العيد لمدة أسبوع، وعملت الحامية الإسبانية من جهتها على فتح سوق تجاري إلى جانب المدينة بهدف تأمين متطلبات الحامية، وإقامة علاقات مع السكان، كما أغدقت الحامية الذهب والفضة على المتعاونين معها من التجار، غير أن الأهالي اعتبروا المتعاونين مع الإسبان خونة مارقين من الدين، وعاملتهم معاملة الأعداء، وأخذت توالي الغارات عليهم.
وهكذا فإنه بسقوط هذا الميناء تبدأ مرحلة طويلة من الصراع الدامي بين الجزائر وإسبانيا دام (300) سنة، وهي الفترة التي استغرقها الوجود العثماني في الجزائر.
ب ـ خضوع مدينة تنس (1507م):
أدرك الإسبان بسرعة أن استغلال التناقضات الداخلية، والاستعانة بالخونة لتثبيت وجودهم أمر بالغ الأهمية، ومن ثم فقد شرعوا منذ احتلالهم للمرسى الكبير في توطيد علاقاتهم بالأعراب المحيطين بالمرسى الكبير واستمالتهم إليهم، واستعمالهم كأعوان لهم لتثبيت وجودهم، كما راحوا يبثون الشقاق بين أفراد البيت الزياني المتصارع على العرش بغية إنهاكه وإلهىء ه عن التصدي للاحتلال ؛ فقد سبقت الإشارة إلى أن أبا زيان الثالث الملقب بالمسعود جلس على العرش الزياني سنة (1503م)، خلفاً لأبيه أبي عبد الله محمد الثالث الذي كان قد توفي في تلك السنة، فثار عليه عمه أبو حمو الثالث واغتصب منه العرش، وسجن السلطان الشرعي المسعود، بينما فرَّ أخوه المدعو يحيى الثابتي إلى فاس طالباً مساعدتهم له ضد عمه أبي حمو مغتصب العرش، فلم يلبث الثابتي إلا أن استدعاه أهالي تنس وعينوه ملكاً عليهم.
في هذه الفترة المتسمة بالفوضى السياسية وعدم الاستقرار، نجد الإسبان ينتهزون الفرصة فيقومون ببسط حمايتهم على الأمير الثىء ر يحيى الثابتي ضد عمه السلطان المغتصب أبي حمو الثالث، عقاباً له على إرساله جيشاً كبيراً لصدهم عن المرسى الكبير.
وهكذا أصبحت تنس تابعة للإسبان بدون مقاومة تذكر، فقد جعل أمراء البيت الزياني المتصارعين على العرش الانتصار الشخصي على غرمىء هم ومنافسيهم فوق كل اعتبار، وراحوا يضحون بمدنهم ورعاياهم مقابل بقىء هم متربعين على عرش متهالك.
ج ـ احتلال وهران (1509م):
في (20 أوت 1508م) عين الملك الإسباني فرديناند الكاردينال خيمينيس قىء داً عاماً على الحملة الموجهة لاحتلال مدينة وهران، إحدى أكبر المدن الواقعة غرب الجزائر، وثاني أهم ميناء ومنفذ تجاري بعد ميناء المرسى الكبير، فقام هذا الأخير بإكمال إعداد الحملة، وأبحر الأسطول الإسباني من ميناء قرطاجنة الإسباني يوم (7 ماي 1509م) وكان مكوناً من (15000) جندي، فأقلته (33) باخرة حربية (51) زورقاً صغيراً إلى سواحل وهران، فنزلت هذه القوات إلى البر دون عىء ق بعد أن التحقت بها قوات الأسطول الإسباني الذي كان مرابطاً في المرسى الكبير، كان المسلمون قد استعدوا لمواجهة الإسبان، ولذلك فقد خرجوا للقىء هم خارج المدينة واشتبكوا معهم في معارك شرسة على مشارف المدينة، إلا أنه في الوقت الذي كانت فيه المعركة على أشدها قام حاكم المرسى الكبير بشراء ذمة أحد يهود الأندلس اللاجئين إلى وهران يدعى شطورا، الذي كان يعمل قابضاً عاماً للضرىء ب بالمدينة، واتفقا على أن يقوم اليهودي المذكور وأعوانه بفتح أحد أبواب المدينة المحاصرة للجنود الإسبان. وبالفعل بينما كان المدافعون المسلمون يأخذون أهبتهم للدفاع عن المدينة، إذ قام اليهودي شطورا بفتح باب المدينة المتفق عليه، وتدفق الجنود الإسبان كالسيل الجارف داخل المدينة يقتلون كل من يقف أمامهم.
فذهل المسلمون لهول المفاجأة، وارتد المدافعون عن الأسوار والحصون إلى داخل المدينة للدفاع عن ديارهم وحريمهم، فاقتحم الإسبان بقية الأبواب، ودخلوا المدينة في كل الجهات يقتلون ويحرقون، فالتجأ جموع الناجين إلى حرم الجامع الأعظم، وتحصنوا به وبمن حوله من الدور للمقاومة، واستمروا في دفاع يىء س خمسة أيام، إلى أن انقشعت غيوم المعركة عن مقتل (4000) جزائري، وأسر أكثر من (8000) أخذوا جميعاً إلى إسباينا، وقد قدرت غنىء م الإسبان بأكثر من (24) مليون دينار ذهبي. وغادر خمينيس وهران بعد أن حول مساجدها إلى كنائس، وترك بها حامية تتولى حمايتها وحماية المرسى الكبير ومملكة تلمسان التي صارت تابعة لهم فيما بعد.
ويمكننا أن نوجزها فيما يلي:
ـ قام الإسبان بعد سقوط وهران بشن غارات على القبىء ل المحيطة بالمدينة، فتمكنوا من إخضاعها، وصارت هذه القبىء ل كما يقول الآغا ابن عودة الزواوي:... شيعتهم الذين يعتمدون عليهم في جلب الأخبار، والمسير بهم في الطريق في الليل والنهار، واتخذوا منهم الجواسيس، واشتدت قوتهم، وتعددت غزواتهم.
ـ دفع سقوط وهران الملك الزياني أبا حمو الثالث إلى إعلان تبعيته إلى الإسبان، وتعهد لهم بأن يدفع لهم جزية سنوية قدرت بـ (12000) دوقة ذهبية و(12) فرساً من جياد الخيل، و(6) من طيور الباز الجارحة.
ـ تمكن الإسبان من بسط نفوذهم على سىء ر الغرب الجزائري، حيث سارعت مدن أخرى إلى إعلان تبعيتها للإسبان خوفاً من بطشهم، وذلك بعد أن تأكد لها عجزها عن المقاومة، ومن هذه المدن: دلس، ومستغانم وشرشال.
ومن ناحية أخرى فإن الإسبان أدركوا الأهمية الاستراتيجية لمدينة وهران، فراحوا يقومون بتحصينها تحصيناً محكماً مكنها من الثبات أمام جميع محاولات تحريرها، إلى أن تمكن باشا الجزائر عثمان باشا الكبير من طرد الإسبان منها بشكل نهىء ي سنة (1792م).
د ـ احتلال بجاية (1510م):
وصل الأسطول الإسباني المكون من (20) سفينة تحمل (10000) مقاتل بجاية يوم (5) جانفي (1510م)، والتحمت المعركة بين المسلمين والإسبان الذين أخذوا يتسلقون المرتفعات المحيطة بالمدينة من أسفلها ـ أي ـ من جهة الساحل ـ ووصلت إلى المنطقة التي تم إخلاؤها من الأطفال والنساء، والتقى الفيلقان الإسبانيان في وسط المدينة، وكان المدافعون عن المدينة قد اعتصموا بالبيوت، لكن سرعان ما رأوا ضرورة الانسحاب وراء بجاية من أجل استمرار المقاومة وعرقلة الإسبان عن التوغل في داخل البلاد، وهكذا غادروا المدينة بعد معركة لم يكتب لها النجاح، وكان على رأس المنسحبين: الملك عبد الرحمن الحفصي.
وعندما دخل الإسبان أعملوا السيف في رقاب من وجدوه من أهلها، والمدافعين عنها، وأسرفوا في القتل كما أسرفوا في وهران، وانجلت المعركة عن مقتل قتيل، كما أمعنوا في نهب المدينة، ونقلوا كنوزها ونفىء سها إلى إسبانيا في (30) سفينة، وبعد أن أثبت الإسبان وجودهم في بجاية أذنوا لأهالي المدينة في العودة إلى منازلهم، فرجع كثير منهم، لكن خارج المدينة رفض رجال القبىء ل الاعتراف بسلطة الملك عبد الرحمن عليهم، وبايعوا الأمير أبا بكر الذي كان يحكم قسنطينة باسم الحفصيين أميراً عليهم، والتف حوله الثوار الذين أخذوا يناوشون الإسبان تحت قيادته.
ه ـ خضوع مدينة الجزائر (1511م):
كانت مدينة الجزائر مستقلة تابعة نظرياً لمملكة بجاية، يتولى إدارتها الشيخ سالم التومي، شيخ قبيلة الثعالبة ؛ التي كانت مستوطنة في سهول متيجة ومدينة الجزائر، وعندما سقطت بجاية خشي أهلها أن يصيبهم ما أصاب أهالي وهران وبجاية، لأنهم كانوا يعلمون أنهم سيكونون الهدف المقبل للإسبان، فاجتمع أعيانها وتشاوروا في الأمر، وفي النهاية استقر رأيهم على إرسال وفد منهم إلى بجاية، للتفاوض مع الإسبان للوصول إلى اتفاق يحفظ لهم حياتهم ومدينتهم.
وبعد أيام من سقوط بجاية توجه وفد مدينة الجزائر يرأسه الشيخ سالم للاجتماع بقىء د الحملة الإسبانية بيدرو نافارو. حيث اتفق الطرفان على:
ـ عقد سلام بين مدينة بجاية والإسبان.
ـ تعهد الجزائريين بإطلاق سراح من بأيديهم من الأسرى المسيحيين.
ـ عدم التعرض للسفن الإسبانية بسوء.
ـ يسافر وفد منهم إلى إسبانيا لعقد اتفاق نهىء ي مع الملك.
ـ أن يدفع الجزائريون لحاكم بجاية الإسباني نفس المقدار من المال الذي كانوا يدفعونه إلى ملك بجاية اعترافاً بالتبعية، ومقابل ذلك: لا يتعرض الإسبان لمدينة الجزائر بسوء.
وفي سنة (1511م) سافر الوفد الجزائري إلى إسبانيا حيث اتفق الطرفان على أن يسلم الجزائريون أكبر جزرهم الصخرية للإسبان ؛ لكي يقيموا عليها قلعة تحرس سفنهم التجارية، وتضمن حرية مواصلاتهم البحرية، وتجعل في نفس الوقت مدينة الجزائر تحت مراقبتهم.
وهكذا فبمجرد توقيع الاتفاق قام الإسبان ببناء القلعة البحرية في الجزيرة المحاذية، لمدينة الجزائر، والتي صارت تعرف من ذلك الحين بصخرة الجزائر، أو قلعة الجزائر.
و ـ خضوع مدينة مستغانم (1511م):
اتصل أهالي مستغانم بالإسبان، كما اتصل بهم أهالي مدينة الجزائر من قبل إثر احتلال بجاية وعنابة، عارضين تبعيتهم لهم مقابل التزامات مالية وأدبية، بناءً على اتفاقيات عقدت بينهما، حفظ التاريخ لنا نصها في الأرشيف الإسباني. هذا ملخص ما جاء فيها:
ـ إعلان تبعية جميع أهالي مستغانم لإسبانيا.
ـ دفع الرسوم والضرىء ب والإتاوات التي كانوا يدفعونها من قبل إلى ملك تلمسان إلى إسبانيا.
ـ إطلاق جميع الأسرى المسيحيين الذين بأيديهم.
ـ يحق للقىء د العام الإسباني بتلمسان احتلال قلاع وحصون المدينة إذا طلب منه صاحب الجلالة ذلك دون أي اعتراض من الأهالي.
ـ يلتزم أهالي المدينة بتسليم القىء د الإسباني كل ما يحتاج إليه من حيوانات نقل، ومواد بناء بأسعار محدودة.
ـ يلتزم أهالي المدينة بتموين مدينتي وهران والمرسى الكبير، ولا يسمحون مطلقاً بتعمير أو تفريغ أي سفينة بمرسى مستغانم إلا بإذن من الملكين.
ـ على سكان المدينة إعلام القىء د العام بكل ما يهم جلالتيهما الاطلاع عليه، وبكل ما يتعلق بسلامة وهران والمرسى الكبير، وعليهم الامتثال لكل أمر يوجّه إليهم من أجل الحرب أو السلام.
ـ لا يُلزم أهل المدينة على اعتناق الدين المسيحي، وسمح لهم الملكان بأن يستمروا في حكم أنفسهم حسب شريعتهم وتبقى لهم ديارهم وممتلكاتهم.
ولم تأت سنة (1512م) حتى كانت معظم مدن الساحل الجزائري قد وقعت تحت الاحتلال الإسباني إما عن طريق استعمال القوة العسكرية، كما حدث في المرسى الكبير ووهران وبجاية وعنابة، أو عن طريق إعلان الخضوع والتبعية للإسبان، عندما تبين للزعماء المحليين عجزهم عن المقاومة، كما حدث في تنس والجزائر ومستغانم وشرشال ودلس وغيرها.
 
يمكنكم تحميل كتب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي
الجزء الأول: تاريخ الجزائر إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى
من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي:


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022