من كفاح الشعب الجزائري بعنوان
(أسباب الاحتلال الإسباني لسواحل الجزائر)
الحلقة: الثامنة
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
صفر 1442 ه/ سبتمبر 2020
هناك عدة أسباب أدت بالإسبان إلى شن تلك الحملات العنيفة والبغيضة لاحتلال سواحل الجزائر وغيرها من مدن ساحل الشمال الإفريقي ؛ ترمي إلى تحقيق أهداف استرتيجية من أهمها:
أ ـ الأسباب الدينية:
كانت الحملات الإسبانية ذات صبغة دينية، لأن الدولة الإسبانية ذاتها قامت على أسس دينية صرفة، ونمت وترعرت بين جدران الكنيسة، فالرهبان والقساوسة كانت لهم الكلمة الأولى في توجيه سياسة الدولة نحو المسلمين، سواء كان ذلك في الأندلس أو في الشمال الإفريقي، فهم الذين كانوا يلهبون الحماس الديني في الجموع الإسبانية، ويثيرون بواعث الكراهية والتعصب ضد المسلمين، كما أن البابا لعب دوراً كبيراً في تسخير جميع الإمكانيات المادية والبشرية لطرد المسلمين من الأندلس أولاً، ثم إخضاع الشمال الإفريقي لإسبانيا تمهيداً لتنصيره ثانياً، ولتحقيق هذين الهدفين الخطيرين أصدر البابا أمره بضرورة الاستمرار في دفع الضريبة الصليبية لملوك إسبانيا باعتبارهم حماة المسيحية، كما أن القساوسة والرهبان أنفقوا أموالاً باهظة لتحقيق هذه الغاية، ولم يترددوا في بيع أموال الكنيسة لتزويد الجيوش المسيحية المغيرة على سواحل الجزائر.
أما الملكة الإسبانية إيزابيلا، فإنها قد بذلت جهوداً كبيرة لطرد المسلمين من الأندلس، وملاحقتهم في مدن الشمال الإفريقي التي لجؤوا إليها فراراً بدينهم، فشرعت في تجهيز حملة كبيرة لغزو تلمسان لولا أن الأجل كان قد وافاها قبل تحقيق بغيتها، وبعد وفاتها تركت وصية لمن يتولون الحكم بعدها تطلب فيها منهم أن يحققوا أمنيتها الغالية التي كانت تتمنى تحقيقها بنفسها، ألا وهي فتح إفريقيا وعدم الكف عن القتال في سبيل الدين ضد الكفار.
ومما يؤيد الطابع الديني للحملات الإسبانية ؛ أن الإسبان قاموا عند احتلالهم لمدينة وهران بتحويل الجامع الأعظم إلى كنيسة أطلقوا عليها اسم كنيسة «القديس ميكىء يل»، ونفس الأمر كانوا قد فعلوه عند احتلالهم للمرسى الكبير، وفعلوه أيضاً في بجاية، وفي كل مدينة تمكنوا من احتلالها.
لقد كان تنصير المسلمين يعتبر الهدف الاسمى في هذه الحملات، فقد صرح الباحث الفرنسي بيير شونو بأن تعميد المسلمين أو الهنود الأمريكيين كان يشكل أهم المهام وأنبلها للكنيسة، بل إن إسبانيا وضعت تنصير العالم في نفس مرتبة اكتشاف الذهب، وهكذا كان أمل الإسبان في تحويل بلدان شمال إفريقيا إلى إفريقيا لاتينية على غرار ما فعلوه في أمريكا اللاتينية، يمثل أعظم أهدافهم التي يصبون إليها.
لقد أصدر البابا قراراً يعلن فيه الحروب الصليبية على الممالك الإسلامية في شمال إفريقيا سنة (1518م)، وأمر ملوك أوربا بعقد هدنة لمدة خمس سنوات، لكي تتمكن فيها إسبانيا من التفرغ لاحتلال ما تبقى من مدنها وسواحلها، ولم تكتف الكنيسة بذلك، بل جندت كل إمكانيات العالم المسيحي لغزو الجزائر بقيادة إسبانيا، وأصدرت فتوى دينية تضمنت الوعد بالغفران لكل من يساهم في دعم حملات غزو الجزائر بنفسه، وفرضت ضريبة صليبية على كل مسيحي للمساهمة في غزو الجزائر.
ب ـ الأسباب الأمنية:
كان مسلمو الأندلس كلما اشتد عليهم الأمر، وضايقهم النصارى لجؤوا إلى ملوك المغرب طالبين منهم العون والمدد، سواء كان ذلك في عصر المرابطين أو الموحدين أو المرينيين قبل أن تضعف شوكتهم ويصيبهم الهوان فيشتغلون ببعضهم عن عدوهم. وعلى هذا النهج سار ملوك بني زيان وبني حفص، الذين لم يترددوا في تقديم مختلف أشكال الدعم المادي والمعنوي إلى أن ضعف أمرهم، وأصبحوا عاجزين حتى عن حماية ممالكهم. وبعد سقوط غرناطة تعرّض الأندلسيون لشتى صنوف الاضطهاد والتنكيل الأمر الذي دفع الالاف منهم إلى الهجرة إلى بلدان شمال إفريقيا، وكان الجزائر الحظ الأوفر من هذه الهجرة، فقد استقبلت أعداداً هىء لة من هؤلاء المهاجرين لاعتبارات الأخوة والجوار، وحمل هؤلاء المهاجرون معهم قصص التعذيب والاضطهاد الذي لاقوه ويلاقيه إخوانهم الذين لم يتمكنوا من الهجرة، كما راحوا يحرضونهم على نجدة إخوانهم وبذل ما يقدرون عليه لإنقاذهم مما هم فيه من ظلم واضطهاد .
وهكذا انطلق المهاجرون الأندلسيون بمساندة إخوانهم من مسلمي الشمال الإفريقي ؛ يشنون الغارات المتتالية على السفن والسواحل الإسبانية أو المتحالفة معها يحرقون وينهبون ويخربون ويأسرون، انتقاماً لأنفسهم ولإخوانهم المضطهدين في الأندلس من الإسبان، الذين أخرجوهم من بلادهم واذوهم في أنفسهم وأهليهم وأموالهم وأكرهوهم على التنصر، أو مغادرة بلادهم إلى الأبد.
فوجد الإسبان في هذه الغارات ذريعة يتعللون بها لغزو المدن الساحلية لبلدان شمال إفريقيا واحتلالها، هذا وقد ذكر الوزان أن أهالي مدينة بجاية كانوا يسلحون مراكب وسفناً حربية، ويرسلونها لغزو سواحل إسبانيا، وهو ما حفز الإسبان إلى غزوها واحتلالها. وأما أهالي وهران، فقد كان التجار منهم يجهزون مراكب وسفناً صغيرة مسلحة يغزون بها سواحل قطالونيا وجزر يبيزا ومينورقة حتى صارت المدينة تغصّ بالرقيق النصارى، ونفس الشيء كان يفعله أهالي مدينة الجزائر. وعلى هذا فإن الغارات التي كان يقوم بها البحارة المسلمون انطلاقاً من سواحل الجزائر على إسبانيا وكل من يلوذ بها ؛ إنما كان يندرج ضمن واجب الدفاع عن المستضعفين من المسلمين في الأندلس، والضغط على السلطات الإسبانية لإجبارها على تخفيف قبضة الاضطهاد الذي تقوم به ضد المسلمين، ولم يكن القادرون من أهالي هذه الموانىء يترددون في الاشتراك فيها رغبة في الجهاد وطلباً للغنيمة، وهو ما حدا بالكثيرين من البحارة الأتراك أن يولوا وجوههم شطر السواحل الغربية للبحر المتوسط للغرض ذاته، والذين كان من أشهرهم الإخوة بربروس، الذين سنفصل الحديث عنهم بإذن الله لاحقاً.
يقول المؤرخ الفرنسي شارل أندري جوليان ملخصاً نشاطات هذه الموانىء بقوله:.. وأقامت المراسي في جربة إلى المغرب الأقصى أنواعاً من الجمهوريات، وأعدت العدة لممارسة القرصنة، فسلحت تونس وبنزرت وبجاية ومدينة الجزائر ووهران وهنِّين، وشكَّلت لحسابها سفناً شراعية تجوب البحر المتوسط.
ومن خلال ما سلف، يتضح لنا بأن أهم الأسباب الأمنية التي دفعت الإسبان إلى احتلال سواحل شمال إفريقيا عامة والجزائر خاصة، هو شلُّ حركة الجهاد البحري التي كانت تنطلق من هذه الموانىء.
وإضافة إلى ما سبق، فإن الإسبان كانوا يدركون بأن بلدان شمال إفريقيا تمر بمرحلة ضعف صعبة، ملؤها الفتن والحروب الأهلية وانعدام الاستقرار، كما كانوا يعلمون أن هذه الحروب يؤجج أوارها أصحاب السلطان، من الطامعين في العرش والمنازعين فيه، بحق أو بغير حق. لكنهم كانوا يدركون أيضاً أن هذا الوضع لن يستمر إلى الأبد، من ثم فهم كانوا يخشون أن يتغلب أهل المغرب على مشاكلهم، فتجتمع كلمتهم تحت سلطان قوي، فيعيدون عليهم الكرة، ويمدون المقاومة الإسلامية في الأندلس بالدعم المادي والعسكري، ومن ثمّ يتمكنون من استعادة الأندلس مرة أخرى، ولذلك كان احتلال سواحل شمال إفريقيا يمثل صمام الأمان الذي يمكنه أن يحول دون التفكير في إعادة فتح الأندلس من جديد.
ج ـ الأسباب الاقتصادية:
لقد دفعت التغيرات السياسية والاقتصادية، التي حدثت في أوروبا، في مطلع القرن السادس عشر كلاًّ من إسبانيا والبرتغال إلى أن تبحثا عن موارد مالية أخرى، خارج حدودهما السياسية المعروفة، وهكذا شرع البرتغال منذ (15م) في احتلال المراكز التجارية المطلة على المحيط الأطلسي في المغرب، لتنطلق منها عبر السواحل الإفريقية الغربية، ومروراً بالمحيط الهندي وصولاً إلى الشرق الأقصى، حيث مصدر تجارة التوابل والحرير.
وأما إسبانيا فإنها بالإضافة إلى سيطرتها على مناطق الذهب في القارة الأمريكية المكتشفة حديثاً ؛ فإنها شرعت تبحث لنفسها عن أسواق جديدة لترويج منتجاتها، وموارد مالية لتمويل حروبها في أوربا، وتحقيق طموحاتها التوسعية في شمال إفريقيا، كما أن اكتشاف القارة الأمريكية جعل إسبانيا في حاجة إلى موانىء ساحلية متعددة، لحماية أساطيلها المثقلة بالبضىء ع من غارات البحارة الذين جعلوا موانىء شمال إفريقيا قواعد انطلاق لهم، ولذلك كان احتلال هذه السواحل يعتبر ضرورة اقتصادية لتأمين تجارتها في البحر المتوسط.
ومن جهة أخرى كان احتلال سواحل شمال إفريقية يهدف إلى التحكم في التجارة الإفريقية، ذلك لأنه من المعلوم أن الموانىء الجزائرية على وجه الخصوص كانت تقوم بدور الوسيط التجاري بين إفريقيا وأوربا.
وعليه فإن السيطرة على الموانىء الجزائرية سيمكِّنها من إزاحة الوسطاء الجزائريين، والتحكم في التجارة الإفريقية القادمة من الصحراء متجهة إلى أوربا عبر هذه الموانىء.
د ـ الأسباب السياسية:
كانت الرغبة في التوسع وبسط النفوذ خارج الحدود التقليدية لدى إسبانيا، لبناء إمبراطورية مترامية الأطراف ؛ حلماً يراود الملك فرديناند وملكة إسبانيا، منذ أن تحقق الزواج السياسي بين مملكتي قشتالة وأراغون وتوحيدهما تحت راية واحدة. فتمكنا خلال فترة قصيرة من القضاء على الوجود الإسلامي في الأندلس، قبل أن تمتد أطماعهما إلى احتلال الجزائر، يؤيد ذلك الخطوات التي قامت بها الملكة إيزابيلا لاحتلال تلمسان، ثم وصيتها لمن يتولى الحكم بعدها أن لا يتوقف عن تجهيز الجيوش لمحاربة الكفار.
كانت إسبانيا في هذه الفترة تملك الساحل الجنوبي من إيطاليا، والجزر القريبة منه مثل: صقلية وبيزا وسردينيا وكوريسكا، بالإضافة إلى الجزر الخاضعة لها في غرب البحر المتوسط كجزر الباليار ومايورقه ومينورقة وغيرها. ولذلك فإنه من الطبيعي أن احتلال سواحل الجزائر وغيرها من سواحل شمال إفريقيا سوف يشكل لها وحدة جغرافية لممتلكاتها، وييسر لها سبل الاتصال المباشر بين جنوب غرب البحر المتوسط وشماله، ولاشك أن سيادة الإسبان على غرب المتوسط لا يمكن أن تتحقق ما لم يتم احتلال سواحل الجزائر، كما أن احتلال السواحل الإسلامية في شمال إفريقيا من شأنه أن يساهم في ترسيخ زعامة إسبانيا السياسية للعالم المسيحي الكاثوليكي، تلك الزعامة التي ما فتئت إسبانيا تفتقر إليها منذ أن بدأت الوحدة الدينية والمذهبية لأوربا المسيحية تتعرض للاهتزاز، وانعدام الثقة بسبب ظهور حركة الإصلاح الديني.
أضف إلى ذلك كله: المصاعب الاجتماعية والأمنية والاقتصادية ؛ التي كانت تعيشها إسبانيا منذ ما كان يسمى بحروب الاسترداد ؛ التي توّجت باحتلال غرناطة، هذه المصاعب التي كانت نتيجة طبيعية للتغيرات السياسية والاجتماعية والدينية ؛ التي كانت تمر بها الدولة والشعب الإسبانيان. الأمر الذي دفع ملوك إسبانيا إلى البحث عن حلول خارج الحدود الجغرافية لبلادهم، فقد ذكر شكيب أرسلان أن إسبانيا في ذلك العهد كانت مليئة باللصوص وقطاع الطرق، حتى إنه قلما تخلو محلة من عبثهم وفسادهم.
فالمصاعب الاقتصادية الناتجة عن هجرة الصناع والحرفيين والتجار والمزارعين المسلمين واليهود أصاب الاقتصاد الإسباني بالركود، وكذلك سيطرة الدولة على الموارد المالية لتغطية نفقات حروبها في أوربا وشمال إفريقيا، وأجواء الحرب الأهلية ضد بقايا المسلمين في إسبانيا، وثورات البروتستانت في ألمانيا وسويسرا، وغير ذلك من الأحداث السياسية ؛ التي كانت تعج بها أوربا عامة، وإسبانيا على وجه الخصوص، جعلت الناس يشعرون بالتذمر وعدم الاستقرار.
مما حدا بالدولة إلى البحث عن سبل لإلهاء الشعب، وتأجيج نار التعصب الديني والمذهبي، وإثارة بواعث الرعب من الخطر الإسلامي القادم من الجنوب، وهكذا كان احتلال سواحل الجزائر إحدى المشاجب المهمة التي تعلق عليها إسبانيا مشاكلها وعجزها الداخلي.
يمكنكم تحميل كتب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي
الجزء الأول: تاريخ الجزائر إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى
من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي: