الخميس

1446-11-03

|

2025-5-1

(الدعم المالي للثورة الجزائرية بعد إسقاط الملكية بالعراق)

من كتاب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي(ج3):

الحلقة: 339

بقلم: د. علي محمد الصلابي

ربيع الأول 1444 ه/ أكتوبر 2022م

زار وفد من الحكومة المؤقتة العراق يوم الثلاثاء 21 أفريل 1959م برئاسة فرحات عباس وكان معه: أحمد توفيق المدني، وكريم بلقاسم، ومحمود الشريف، إبراهيم مزهودي، وعبد الرحمن اليعلاوي، من ضمن رحلات قاموا بها للبلاد العربية، وهذا أحمد توفيق المدني يصف لنا ماذا حدث: خرج لاستقبالنا بحر من البشر هائج مائج احتل الطرق والساحات واحتل المطار واحتل نفس مجال الطيران، فاضطربت الطائرة المقلة لنا لاختراق الصفوف المتراصة وهي تسير سير الغيلم خشية إحداث مجزرة بشرية.

بعد نصف ساعة على الأقل أسكنت الطائرة محركاتها ونزلنا فتلقفتنا أيدي الجماهير، وبعد لأي وعناء تمكن الرئيس عبد الكريم قاسم من اللحاق بنا، بينما كانت أكف نحو المائة ألف رجل تتلقف أعضاء بقية الوفد، وتسير بهم حسبما تسمح به حركة الجماهير ذات اليمين وذات الشمال، وسقط أحدنا أثناء الزحام فداسته أقدام الجماهير وسال دمه من جراحاته، وبعد ساعة أو أكثر من ساعة التحق بنا في غرفة المطار بقية رجال الوفد، وكانت المظاهرة الصاخبة قد أحيت امالهم وأنعشت أرواحهم، وكادت في نفس الوقت تقضي على أجسامهم، وقال عباس فرحات بلسان عربي قلّما نطق به: هؤلاء أحبونا ففعلوا بنا ما فعلوا، فماذا كانوا يفعلون لو أنهم يكرهوننا؟

بعد ثلاثة أيام عقد عبد الكريم قاسم مجلس الوزراء ودعانا إلى حضوره في بناية وزارة الحربية، فرحب بنا ترحيباً حاراً بليغاً، وكانت به شبه لُكنة تخالف ما اتصف به أهل العراق قاطبة من فصاحة اللسان وجزالة القول وضخامة الألفاظ، وأناط بي الأستاذ فرحات عباس مهمة الإفصاح عن رغائب الجزائر، ووضعية كفاحها وحاجتها الملحة إلى المدد السريع الفعال.

فشكرت العراق شعباً وحكومة على ما أبداه من روح ثورية عالية، ونددت بما كانت أبدته حكومة قبل الثورة من تقاعس عن المدد لا يتجانس مع روح العراق، ولا يتفق مع عاطفته الملتهبة نحو الجزائر وجهادها.

وقلت بعد أن شرحت الموقف الحربي فوق المصور الجغرافي: الان جاءت الساعة الحاسمة، ساعة بعدها النصر، أو بعدها الفناء، المال والسلاح، هذا ما نطلب من العراق. نريد المال الجزيل والسلاح الوافر، فالعرب كلهم تقدموا فيما مضى بما يستطيعون . والان جاء دوركم فانظروا ماذا أنتم فاعلون؟

قال عبد الكريم قاسم: كفاح الجزائر أمر أساسي في كفاح العرب العام، ولن ينجح العرب أصلاً في مستقبل أيامهم، ما لم تفز الجزائر باستقلالها، كلنا للجزائر، أما السلاح فسنعطيكم سريعاً ما لدينا، ومن أجود الأنواع، وأما المال فهو الان قليل بين أيدينا لكنا لا نبخل عليكم بشيء، وسنتحمل فوق ما نستطيع.

قلت: المال بالنسبة لنا اليوم كالسلاح، وقد تطورت المعركة سياسياً كما تطورت حربياً، فالسلاح للتطور الحربي، والمال للتطور السياسي.

نطق السيد حديد وزير المالية فقال: لا نجد بين أيدينا اليوم شيئاً من المال. فكيف نستطيع أن نعطي من خزينة خاوية على عروشها؟

فأجابه عبد الكريم قاسم بلهجة شديدة وقال: سواء كان لدينا المال أو لم يكن عندنا منه شيء فواجبنا إمداد الجزائر حالاً، أخِّرْ دفع مرتبات الموظفين، أخِّرْ إنجاز المشروعات التي لديك، أخرّ كل شيء إلا الجزائر، يجب أن تغاث حالاً.

ودخلنا في جدال من أجل تعيين مقدار المال، طلبت ستة مليارات من الفرنكات القديمة، فصرخ السيد حديد وكاد يلطم وجهه، لا نستطيع إطلاقاً أبداً ـ ونحن على حالنا الان ـ أن نجد أكثر من مليارين، على أن ينالنا منها ضيق شديد، قال قاسم ـ وبقية الوزراء لا يقولون كلمة ـ: إن الستة التي طلبها الأخ توفيق غير ممكنة الان، وإن المليارين اللذين قال عنهما حديد لا يكفيان، فأنا أقترح أن يكون المقدار ثلاثة مليارات، نتعهد بدفعها سنوياً ما دام الكفاح الجزائري مستمراً إلى أن يتم الاستقلال.

قلت: فلو زدت عليها ملياراً؟ قال: غير ممكن وأرجو الأخذ باقتراحي. فسكت الجميع وتلك علامة المصادقة. قلت مغتنماً: أما وقد تقرر هذا ونحن شاكرون؛ فلنعين اجال الدفع، قال حديد: إننا ندفع حسب الإمكان. قلت:

أبداً، إن تكاليفنا كثيرة ويجب أن نعرف مداخيلنا بصفة مضبوطة، فما رأيكم لو قسمناها أربعة أقساط يكون كل قسط «750» مليوناً، تدفع في اجال محددة كل 15 يناير، و15 افريل، و15 يوليو، و15 أكتوبر؟

أراد حديد أن يتكلم، فقاطعه الرئيس قاسم قائلاً: أنا قبلت هذا الاقتراح، فسجل عندك اجال الدفع، وأريد أن لا يتأخر الدفع أصلاً إطلاقاً.

وهكذا كان والله!. فمنذ تلك الساعة، إلى يوم استقلال الجزائر لم يتأخر قسط عن موعده المحدد، فحيا الله همة العراق، وحيا الله شعب العراق.(1)

 

مراجع الحلقة التاسعة والثلاثون بعد الثلاثمائة:

(1) أحمد مدني، حياة كفاح (3/627).

يمكنكم تحميل كتب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي

الجزء الأول: تاريخ الجزائر إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى

alsallabi.com/uploads/file/doc/kitab.PDF

الجزء الثاني: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي وسيرة الزعيم عبد الحميد بن باديس

alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC135.pdf

الجزء الثالث: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من الحرب العالمية الثانية إلى الاستقلال وسيرة الإمام محمد البشير الإبراهيمي

alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC136(1).pdf

كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:

http://alsallabi.com


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022