الأربعاء

1446-11-02

|

2025-4-30

(دور نور الدين في إعادة مصر إلى المعسكر السني)

من كتاب عصر الدولة الزنكية ونجاح المشروع الإسلامي بقيادة نور الدين الشهيد في مقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي

الحلقة: 108

بقلم: د.علي محمد الصلابي

شعبان 1444ه/ فبراير 2023م

 

لم يُقدَّر لنور الدين أن يحكم مصر حكماً مباشراً، ومن ثم لم تتهيأ له الفرصة ليقيم فيها مؤسسات فكرية، تعمل على تغيير الاتجاه الشيعي في هذا الإقليم، وتنتشله من مستنقع البدع والضلال، وتعيده إلى رجال السنة مرة أخرى، فالمؤسسات العقائدية السنية، التي قامت في مصر حُسِبتْ كلها في رصيد الأيوبيين، حتى ما أنشئ منها في حياة نور الدين، وكان له فيها أثر غير مباشر. ذلك: أن الأيوبيين قُدّر لهم أن يستمروا في قيادة الإحياء السني في مصر بعد وفاته، فنسبت معظم الجهود ـ إن لم يكن كلها ـ إليهم.

ولكنا مع هذا لا يسعنا إلا أن نقرر الحقيقة، وهي أن الأيوبيين كانوا تلاميذ نور الدين في هذا الاتجاه، فما ينسب إليهم؛ لا بدَّ أن نلمس فيه أثره، ونلمح فيه توجيهاته، وذلك علاوة على الدور الكبير، الذي قام به في إعادة مصر إلى المعسكر السني.

والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: في أيِّ الجوانب إذاً تركَّز دور نور الدين في تحويل مصر إلى هذه الوجهة(1)؟ يذكر المقريزي: أن الخليفة لأمر الله العباسي انتهز فرصة الاضطرابات في مصر، عقب مقتل الخليفة «الظافر» في المحرم سنة 549 هـ/1154 م وتولية ابنه: «الفائز» وكان طفلاً صغيراً، فأرسل إلى نور الدين يطلب منه أن ينتهز هذه الفرصة، ويزحف على الساحل الشامي، ومصر، ويأخذها من أيدي الفاطميين، وكتب له بهما عهداً. كما ذكر هذه الرواية بشيء من التفصيل السيوطي في حسن المحاضرة(2). ويفهم من الروايتين: أن الخليفة المقتفي هو الذي وجه نظر نور الدين إلى مصر، وأنه شجعه على ذلك، وأن توجيه الخليفة كان نقطة البداية في محاولة استعادة مصر إلى المعسكر السني(3).

ولا نستطيع أن ننكر الجهود الكبيرة، التي قام بها الخليفة المقتفي، ووزيره يحيى بن هبيرة في دعم مسيرة نور الدين، إلا أن الاهتمام بمصر بالنسبة لنور الدين اختيارٌ استراتيجي في خطته لتضييق الخناق على الصليبيين في بيت المقدس، كما أدرك من قبل أهمية ضم دمشق بالنسبة لهذا الأمر الحيوي، وهذه الحقيقة عبَّر عنها نور الدين بنفسه في إحدى عباراته، عندما أرسل إليه صلاح الدين ـ من مصر ـ هدايا وتحفاً، فقال: «والله ما قصدنا بفتح مصر إلا تطهير الساحل، وقلع الكفار منه»(4) وكلمة ـ تطهير الساحل ـ لعلمه أهمية الهيمنة البحرية للمعسكر السني، لكي يطهر البيت المقدس، وبلاد الشام من الصليبيين، فحركة الإمدادات من غرب أوروبا، تحتاج لحشد قوى العالم الإسلامي، مع قطع الإمدادات، أو مضايقتها عن الصليبيين في بلاد الشام، وهذا لا يكون إلا بضم مصر، وتخليصها من أيدي الروافض الباطنيين، الذين تقلدوا أمور حكمها من قرون، كما أن نور الدين محمود زنكي رجل تركيٌّ سنيٌّ، وهو على أي حال امتداد للسلاجقة، الذين تمنَّوا فتح مصر، وإعادتها إلى دائرة النفوذ السني ؛ لذا كان من الطبيعي أن يأتي تفكيره في فتح مصر نابعاً من ذاته، ومتمشياً مع متطلبات ظروفه العسكرية من ناحية، ومحققاً لأمانيه الدينية من ناحية أخرى.

ومما يشير إلى أن فتح مصر كان هدفاً من أهداف نور الدين، التي سعى لتحقيقها قوله في الرسالة التي بعث بها إلى الخليفة المستضيء، يبشره بإقامة الخطبة له في مصر: «ما برحت هممنا إلى مصر مصروفة، وعلى افتتاحها موقوفة، وعزائمنا في إقامة الدعوة الهادية بها ماضية... حتى ظفرنا بها بعد يأس الملوك منها»(5). كما كشف في هذه الرسالة عن موقفه العقائدي من الفاطميين بقوله عن مصر: «... وبقيت مئتين وثمانين سنة ممنوعة بدعوة المبطلين، مملوءة بحزب الشياطين؛ حتى أذن الله لغمتها بالانفراج، وأقدمنا على ما كنا نؤمله من إزالة الإلحاد والرفض، وتقدمنا إلى من استنبناه أن يستفتح باب السعادة، ويقيم الدعوة العباسية هنالك، ويورد الأدعياء ودعاة الإلحاد بها المهالك»(6).

ولهذا كله كان من الطبيعي أن ينتهز نور الدين الفرصة، التي سنحت له للتدخل في شؤون مصر عندما اضطربت أحوالها الداخلية بسبب التنافس بين الوزراء، وطمع الصليبيين فيها، فثابر على إرسال جيشه إليها كلما دعت الضرورة إلى ذلك، حتى تمَّ الاستقرار لهذا الجيش بها في المرة الثالثة، وذلك في ربيع الاخر سنة 564 هـ / 1169 م ووزر قائده أسد الدين شيركوه للخليفة العاضد في مصر، لكنه ما لبث أن توفي، وخلفه في منصبه ابن أخيه صلاح الدين الذي كـان عليه أن يبدأ بتنفيذ خطة نور الدين لإعادة مصر إلى حظيرة السنة، ثم يتابع المسيرة بعد وفـاة أستاذه العظيم(7).

 

مراجع الحلقة الثامنة بعد المائة:

(1) التاريخ السياسي والفكري للمذهب السني ص 218.

(2) حسن المحاضرة (2/3) اتعاظ الحنفا (3/223).

(3) التاريخ السياسي والفكري للمذهب السني ص 219.

(4) مراة الزمان نقلاً عن التاريخ السياسي والفكري ص 219.

(5) كتاب الروضتين نقلاً عن التاريخ السياسي والفكري ص 220.

(6) المصدر نفسه ص 220.

(7) التاريخ السياسي والفكري للمذهب السني ص 220.

 

يمكنكم تحميل كتاب عصر الدولة الزنكية ونجاح المشروع الإسلامي بقيادة نور الدين الشهيد في مقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي

من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022