(استجابة نور الدين زنكي للقضاء)
من كتاب عصر الدولة الزنكية ونجاح المشروع الإسلامي بقيادة نور الدين الشهيد في مقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي
الحلقة: 113
بقلم: د. علي محمد الصلابي
شعبان 1444ه/ مارس 2023م
طُلِبَ مرة من قبل أحد المدعين، فما كان من أحد كبار موظفيه إلا أن دخل عليه ضاحكاً، وقال مستهزئاً: يقوم المولى إلى مجلس الحكم، فأنكر نور الدين على الرجل سخريته، وقال: تستهزئ لطلبي إلى مجلس الحكم؟ وأردف: يُحْضَرُ فرسي؛ حتى نركب إليه، السمع والطاعة، قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوۡلَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذَا دُعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ لِيَحۡكُمَ بَيۡنَهُمۡ أَن يَقُولُواْ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۚ﴾ [النور:51] .
ثم نهض، وركب؛ حتى دخل باب المدينة، واستدعى أحد أصحابه وقال له: امضِ إلى القاضي، وسلِّم عليه، وقل له: إني جئت هاهنا امتثالاً لأمر الشرع(1).
ويوماً كان يلعب الكرة ـ هوايته المفضلة ـ في دمشق، فرأى رجلاً من أتباعه، يحدِّثُ اخر، ويومئ بيده إليه، فأرسل إليه يسأله عن حاله، فأعلمه: أن له على نور الدين خصومة حول بعض الأملاك، وطلب حضوره إلى مجلس القضاء للفصل في المسألة، فتردد الغلام في عرض الموضوع على نور الدين، ولكن هذا ألح عليه، فلما تبين له الأمر ألقى العصا من يده، وخرج من الميدان، وسار إلى القاضي، كمال الدين وقال له: إنني قد جئت محاكَماً، فاسلك معي ما تسلكه مع غيري، فلما حضر المدعي ساوى كمال الدين بينه وبين خصمه، وحين لم يثبت ضدَّه شيء قال للقاضي ولكافة الحضور: هل ثبت له عندي حق؟ قالوا: لا. فقال: اشهدوا أنني قد وهبت له هذا المال الذي حاكمني عليه، وقد كنت أعلم: أنه لا حق له عندي، وإنما حضرت لئلا يظنَّ أنني ظلمته، فحيثما ظهر أنَّ الحق؛ لي وهبته إياه(2).
وتلك غاية العدل والإنصاف، بل غاية الإحسان، وهي درجة وراء العدل، فرحم الله هذه النفس الذكية الطاهرة المنقادة إلى الحق، الواقفة معه، كما علَّق ابن الأثير(3).
وفي عام 558 هـ 1162م ادَّعى رجل على نور الدين أنّ أباه (زنكي) أخذ من ماله شيئاً بغير حق، وأنه يطالب بذلك. فقال نور الدين: أنا لا أعلم شيئاً عن ذلك، فإن كان لك بَـيِّـنَـةٌ تشهد بذلك؛ فهاتها، وأنا أرد إليك ما يخصني، فإني ما ورثت جميع ماله، فقد كان هناك ورثة غيري، فمضى الرجل ليحضر البينة(4).
1 ـ لا عقوبة على الظنة والتهمة: لم يكن نور الدين يصدر العقوبة على الظنة والتهمة، بل يطلب الشهود على المتهم، فإن قامت عليه البينة الشرعية؛ عاقبه العقوبة العادلة من غير تعدٍّ(5)، فدفع الله بهذا الفعل عن الناس من الشر ما يوجد في غير ولايته مع شدة السياسة، والمبالغة في العقوبة، والأخذ بالظنة، وأمنت بلاده مع سعتها، وقلَّ المفسدون ببركة العدل، واتِّباع الشرع المطهر(6).
2 ـ من عدله بعد موته: ومن عدله أيضاً بعد موته، وهو من أعجب ما يحكى: «أنَّ إنساناً كان بدمشق، استوطنها، وأقام بها لما رأى من عدل نور الدين ـ رحمه الله ـ فلّما توفي تعدَّى بعض الجنود على هذا الرجل فشكاه، فلم يُنصف، فنزل من القلعة وهو يستغيث، ويبكي، وقد شق ثوبه وهو يقول: يا نور الدين، لو رأيتنا وما نحن فيه من الظلم؛ لرحمتنا، أين عدلك؟ وقصد تربة نور الدين، ومعه من الخلق مالا يحصى وكلّهم يبكي، ويصيح، فوصل الخبر إلى صلاح الدين، وقيل له: احفظ البلد والرعية وإلا خرج عن يدك، فأرسل إلى ذلك ـ وهو عند تربة نور الدين يبكي والناس معه ـ فطيب قلبه، ووهبه شيئاً، وأنصفه، فبكى أشد من الأول، فقال له صلاح الدين: لم تبكي؟ قال: أبكي على سلطان عدلٍ فينا بعد موته، فقال صلاح الدين: هذا هو الحق، وكل ما نحن فيه من عدل فمنه تعلَّمناه»(7).
3 ـ رقبتي دقيقة لا أطيق حملها والمخاصمة عليها بين يدي الله تعالى: قال ابن الأثير: «وحكى لي من أثق به: أنَّه دخل يوماً إلى خزانة المال، فرأى فيها مالاً أنكره، فسأله عنه: فقيل: إن القاضي كمال الدين أرسله، وهو من جهة كذا. فقال: إن هذا المال ليس لنا، ولا لبيت المال في هذه الجهة شيء، وأمر برده وإعادته إلى كمال الدين، فردَّه إلى الخزانة، وقال: إذا سألكم الملك العادل عنه؛ فقولوا له عنِّي: إنه له. فدخل نور الدين الخزانة مرّة أخرى، فرآه، فأنكر على النُّواب قال: ألم أقل لكم يعاد هذا المال إلى أصحابه، فذكروا له قول كمال الدين، فردَّه إليه وقال للرسول: قل لكمال الدين: أنت تقدر على حمل هذا المال، وأما أنا فرقبتي دقيقة لا أطيق حملها، والمخاصمة عليها بين يدي الله تعالى! يُعاد قولاً واحداً»(8).
مراجع الحلقة الثالثة عشر بعد المائة:
(1) الباهر ص 166 ـ 167.
(2) الباهر ص 166 ـ 167.
(3) الباهر ص 167 نور الدين محمود الرجل والتجربة ص 79.
(4) كتاب الروضتين نقلاً عن نور الدين محمود الرجل والتجربة ص 80.
(5) نور الدين محمود الرجل والتجربة ص 80.
(6) عيون الروضتين (1 / 364).
(7) المصدر نفسه (1 / 365).
(8) عيون الروضتين (1 / 364).
يمكنكم تحميل كتاب عصر الدولة الزنكية ونجاح المشروع الإسلامي بقيادة نور الدين الشهيد في مقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي
من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي