(نور الدين زنكي يرفع الضرائب والمكوس)
من كتاب عصر الدولة الزنكية ونجاح المشروع الإسلامي بقيادة نور الدين الشهيد في مقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي
الحلقة: 115
بقلم: د.علي محمد الصلابي
شعبان 1444ه/ مارس 2023م
لم يترك نور الدين في بلد من بلاده ضريبة، ولا مَكْسَاً، ولا عُشْراً إلا وأطلقها جميعها في بلاد الشام، والجزيرة، وديار مصر، وغيرها مما كان تحت حكمه، فقد كان المكس في مصر يؤخذ من كل مئة دينار خمسة وأربعون ديناراً؛ أي 45% وهذا منه إلغاء للمكوس، لم تتسع له نفس غيره(1). وكان رحمه الله نادماً على ما فاته في أمر المكوس، فقد روى أبو شامة: أن «الملك العادل كان يرفع يديه إلى السماء، ويبكي، ويتضرع، ويقول: اللهم ارحم العشَّار المكَّاس... وكان قد دعا أحد معاونيه ـ موفق الدين خالد ـ وقال له: اقعد واكتب بإطلاق المؤمن، والمكوس، والأعشار، واكتب للمسلمين: أني قد رفعت عنكم ما رفعه الله تعالى عنكم، وأثبت ما أثبته الله عليكم»(2).
وقد أمر بقراءة المناشير في مساجد الأقاليم جميعها على الناس. روى أبو شامة: «أن الملك العادل نور الدين لما دخل الموصل سنة 566هـ، أمر بإسقاط جميع المكوس، والضرائب، وأنشأ بذلك منشوراً يقرأ على الناس فيه: (وقد قنعنا من الأموال باليسير من الحلال، فسحقاً للسحت، ومحقـاً للحرام الحقيق بالمقت، وبعداً لما يبعد من رضا الرب، وقد استخرنا الله، وتقربنا إليه بإسقاط كل مكس وضريبة، في كلِّ ولاية لنا بعيدة، أو قريبة، ومحو كل سنة سيئة شنيعة، ونفي كل مظلمة فـظيعة، وإحيـاء كلِّ سنـة حسنـة... إيثاراً للثواب الاجل على الحطـام العاجل)(3).
وقرأ منشور آخر بإسقاط المكوس بمصر على المنبر في القاهرة عام 567هـ بعد صلاة الجمعة عند السلطان صلاح الدين في أيام نور الدين امراً له، جاء فيه: «وقد رأينا إسقاط المكوس الديوانية بمصر، والقاهرة، وأن نتجرد فيها لنلبس أثواب الأجر الفاخرة، ونطهِّر منها مكاسبنا، ونكفي الرعية ضرهم... ونضع المكوس فلا ترفعها من بعد يد حاسب، ولا قلم كاتب»(4).
وهدد من لا يطيق ذلك من المسؤولين: ومن أزالها زلَّت قدمه، ومن أحلَّها حلَّ دمه، ومن قرأه أو قرأ عليه فليتمثل ما أمرنا به، وليمضه مرضياً لربه، ممضياً لما أمر به(5).
ولم تَـرُقْ هذه الخطة في إلغاء الضرائب لرجال الدولة، فاحتج أسد الدين شيركوه بقوله: فالأجناد الذين تأتي أرزاقهم من هذه الجهات من أين تعطيهم أرزاقهم؟ أيْ: رواتبهم، فأجابه نور الدين: إن كنا نغزو من هذه الجهات أي من هذه الموارد: نتركها، ونقعد، ولا نخرج(6)! ولم يكتف نور الدين بذلك، بل أمر خطباء المساجد أن يطلبوا من الناس، أن يسامحوه فيما جبي منهم قبلاً من هذه الضرائب، وكتب إلى الخليفة كتاباً يعلمه بما أطلق، وبمقدار ما أطلق، ويسأله أن يتقدم إلى الوعَّاظ بأن يستحلوا من التُّجَّار، ومن جميع المسلمين له في حلِّ ما كان قد وصل إليه، يعني من أموالهم، فتقدَّم بذلك، وجعل الوعَّاظ على المنابر ينادون بذلك(7).
وعندما خرج لأخذ شيزر؛ خرج أبو غانم بن المنذر في صحبته، فأمره نور الدين ـ رحمه الله ـ بكتابة منشور بإطلاق المظالم بحلب، ودمشق، وحمص، وحَرَّان، وسنجار، والرحبة. وعزاز، وتل باشر، وعداد العرب، فكتب عنه توقيعاً نسخته: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما تقرب به إلى الله سبحانه وتعالى صافحاً وأطلقه سامحاً لمن علم ضعفه من الرعايا عن عمارة ما أخربته أيدي الكُفّار ـ أبادهم الله ـ عند استيلائهم على البلاد، وظهور كلمتهم في العباد، رأفة بالمسلمين المثاغرين(8)، ولطفاً بالضعفاء المرابطين، الذين خَصَّهم الله سبحانه بفضيلة الجهاد، واستمنحهم بمجاورة أهل العناد، اختباراً لصبرهم، وإعظاماً لأجرهم، فصبروا احتساباً، وأجزل الله لهم أجراً وثواباً: ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر : 10] وأعاد عليهم ما اغتصبوا عليه، من أملاكهم التي أفاء الله عليهم بها، من الفتوح العمريَّة، وأقرها من الدولة الإِسلامية بعد ما طرأ عليها من الظلمة المتقدمين، واسترجعه بسيفه من الكفرة الملاعين، فطمس عنهم بذلك معالم الجَوْر، وهدم أركان التعدِّي، وأقرَّ الحق مقرَّه، لقوله تعالى:﴿مَن جَآءَ بِٱلۡحَسَنَةِ فَلَهُۥ عَشۡرُ أَمۡثَالِهَاۖ﴾[الأنعام:160] ﴿وَٱللَّهُ يُضَٰعِفُ لِمَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة:262]. ثم لما أعانه الله بعونه وأيَّده بنصره، وقمع به عادية الكفر، وأظهر بهمته شعائر الإسلام، وأظفره بالفئة الطّاعنة، وأمكنه من ملوكها الباغية، فجعلهم بين قتيل غير مقاد، وهارب ممنوع الرُّقاد»: ﴿ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ (٣٨) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (٣٩) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (٤٠) ﴾ [ص :38 ـ 40]، علم: أن الدنيا فانية، فاستخدمها للآخرة الباقية، واستبقى ملكه الزّائل بأن قدَّمه أمامه، وجعله ذُخراً للمعاد، فالتقوى مادة دارَّة؛ إذا انقطعت المواد، وجادّة واضحة حين تلتبس الجود: ﴿ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍۢ شَيْـًٔا ۖ وَٱلْأَمْرُ يَوْمَئِذٍۢ لِّلَّهِ ﴾١٩ [الانفطار :19] فصفح لكافة المسافرين، وجميع المسلمين بالضَّرائب والمكوس، وأسقطها من دواوينه وحرَّمها عل كل متطاول إليها، ومتهافت عليها، تجنباً لإثمها، واكتساباً لثوابها، فكان مبلغ ما سامح به، وأطلقه وأنفذ الأمر فيه ـ تباعاً لكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ـ في كل سنة من العين مئة ألف وستة وخمسين ألف دينار»(9)، وكانت النتيجة الطبيعية لذلك: أَنْ نشط الناس للعمل، فأخرج التجار أموالهم، ومضوا يتاجرون، وجاءت الجبايات الشرعية بأضعاف ما كان يجبى من وجوه الحرام، بينما كان ما ألغاه من المكوس المستحدثة لا يزيد عن (165000) مئة وخمسة وستين ألف دينار(10).
يقول ابن خلدونٍ: العدوان على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها، واكتسابها لما يرونه حينئذٍ من أن غايتها ومصيرها انتهابها من أيديهم، وإذا ذهبت امالهم في اكتسابها، وتحصيلها؛ انقبضت أيديهم عن السعي في ذلك، وعلى قدر الاعتداء، ونسبته يكون انقباض أيديهم(11) عن المكاسب، فكسدت أسواقُ العمران، وانتقضت الأحوال. ويقول: العدوان على الناس في أموالهم، وحرمهم، ودمائهم، وأسرارهم، وأعراضهم... يفضي إلى الخلل، والفساد دفعةً، وتنتقص الدولة سريعاً(12).
وكانت هناك أمور عديدة ساعدت نور الدين على إلغاء المكوس، وأهمها على الإطلاق توفيق الله له، فقد رأى له وزيره موفق الدين خالد بن القيسراني الشاعر في منامه: أنه يغسل ثيابه، وقصَّ ذلك عليه، ففكر ساعة، ثم أمره بكتابة إسقاط المكوس، وقال: هذا تفسير منامك. وكان في تهجُّده يقول: ارحم العشَّار المكّاس، وبعد أن أبطل ذلك استعجل الناس في حِلّ ما أُخذ منهم، وقال: والله ما أخرجناه إلا في جهاد عدوِّ الإسلام! يعتذر بذلك إليهم عن أخذها منهم(13).
ومن الأسباب التي كانت محركة لنور الدين في إبطال تلك المظالم، والخلاص من تلك المآثم موعظة أبي عثمان المنتخب بن أبي محمد البحتري الواسطي، فقد قال قصيدة في نور الدين، وقدمها له، جاء فيها:
مثِّــــــــــــــــــــــــلْ وقوفـــــــــك أيهــــــــــا المغــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرور يــــــــــــــــــوم القيامــــــــــــةِ والسمـــــــــــــــــــــــاء تمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــور
إن قيــــــــــــــل نــــــور الديــــــن رحــــــت مسلَّمــــــــــــــــــــــــاً فـــــــاحـــــذر بــــــأن تبقــــــى ومالــــــــــك نــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــور
أَنَهَيْـــــــــــتَ عــــــن شـــــرب الخمــــور وأنـــت مــــــن كــــــأس المظـــــــــالــــــــــم طافــــــــــــــــــــــــحٌ مخمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــورُ
عطَّلْـــــــــتَ كاســـــــاتِ المـُـــــــــــــــــدامِ تعففــــــــــــــــــــــــــــــــــــاً وعليــــــكَ كاســــــــــات الحــــــــــــــــــــــــــرام تــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدورُ
مـــــــــــاذا تقـــــــول إذا نُقلـــــت إلـــى البِلـــــــــــــــــــــــــــــــــــى فـــــــــــــرداً وجـــــــــــاءك منكــــــــــــــــــــــــــــــــرٌ ونكيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــر
وتَعَلَّقــــــتْ فيــــــك الخصــــــوم وأنــــــــت فـــــــــــــــــــــــــي يـــــــــــــوم الحســـــــــاب مُسَحَّــــــــــبٌ مجــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرورُ
وتَفَرّقَـــــــــتْ عنـــــــــك الجنـــــــــــــــــــــــــــودُ وأنـــــــــــــــــــــــــــــــت فــــي ضيــــــــــــــق اللُّحـــــــــــود مُوَسَّــــــــــــــــدٌ مقبـــــــــــــــــــــــــــــــــــورُ
وَوَدِدْت أنـــــــك ماوَلِيْـــــــــــــــــــــــــــــتَ ولايــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة يوَمــــــــاً ولا قـــــــال الأنـــــــــــــــــــــــــــــــــــام أميــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرُ
وبقِيْــــــــــت بعـــــــد العـــــــــزِّ رَهْــــــــــــنَ حُفيــــــــــــــــــــــــــــــــرة فـــــي عالــــــــم الموتـــــــــــــــــــــــى وأنــــــــــــــــــت حقيــــــــــر(14)
وَحُشـــــــــرتَ عُريانــــــــــــــــاً حزينــــــــــــــــــاً باكيـــــــــــــــــــــــــــاً قَلِقــــــــــاً ومالـــــــــك فـــــــــــــي الأنــــــــــــام مُجيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــر
أَرضِيـــــــــــــــتَ أن تحيــــــــــا وقَلْبُـــــــــــــــــــــــــــــــــــك دارسٌ عافـــــــــــي الخــــــــــــــــــراب وجسمــــــــــك المعمــــــــــــــــــــــــــــــــــورُ
أرضيـــــــــــــت أن يحظــــــــــى ســـــــــواك بقُربــــــــــــــــــــــــــــــــه أبــــــــداً وأنــــــــت مُبَعَّـــــــــــــــــــــــــــــــدٌ مهجـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــور
مهِّــــــــــــد لنفســـــــــك حُجَّــــــــــةً تنجــــــــــــــو بهــــــــــــــــــــا يـــــوم المَعــــــــــــــــــــــاد لعلــــــــــــــــــــــــك المَعْــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــذُورُ
وكان هذا الرجل من الصالحين الكبار، فلما سمعها نور الدين؛ بكى وأمر بوضع المكوسات والضرائب في سائر بلاده(15).
فرحم الله الواعظ والمتعظ، ووفق من أراد الاقتداء بهم!
مراجع الحلقة الخامسة عشر بعد المائة:
(1) عيون الروضتين في أخبار الدولتين (1 / 362).
(2) كتاب الروضتين نقلاً عن الجهاد والتجديد ص 327.
(3) كتاب الروضتين نقلاً عن الجهاد والتجديد ص 328.
(4) المصدر نفسه ص 328.
(5) المصدر نفسه ص 238.
(6) كتاب الروضتين (1 / 67).
(7) كتاب الروضتين (1 /69 ).
(8) المثاغرين: سكان الثغور.
(9) كتاب الروضتين في أخبار الدولتين (1 / 70).
(10) الجهاد والتجديد ص 329.
(11) المقدمة ص 286 معوقات الجهاد (1 / 422).
(12) المقدمة ص 290.
(13) كتاب الروضتين في أخبار الدولتين (1 / 54).
(14) أخبار الروضتين (1 / 56).
(15) البداية والنهاية (16 / 489).
يمكنكم تحميل كتاب عصر الدولة الزنكية ونجاح المشروع الإسلامي بقيادة نور الدين الشهيد في مقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي
من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي