الخميس

1446-11-03

|

2025-5-1

(الحرب والحياة)

اقتباسات من كتاب "فقه الحياة" لمؤلفه الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة (فرج الله عنه)

الحلقة: الثانية

ذو الحجة 1444ه/ يونيو 2023م

الحرب الأخلاقيَّة لها أثر كبير، فمدافعة العدوِّ المحتلِّ لها أثر عظيم في الحياة، وفي التاريخ، وفي الواقع اليوميِّ، كما نشاهد؛ لكن هناك أشياء أخرى قد لا تقلُّ أهميَّة، ومع ذلك لا يتحدَّث الناس عنها، ومن ذلك: وسائل التقنية، ووسائل الإعلام، ووسائل التواصل، والتي دخَلت كلّ بيت، وأثَّرت في كلِّ شخص، وفي علاقات الناس وروابطهم، حتى أصبحت جزءًا لا يتجزَّأ من حياتهم.

وهذا يُثْبِت لنا أن الفكر والتقنية والإبداع والابتكار، تُحْدِث آثارًا هائلة وكبيرة جدًّا، وأنَّ عددًا من الأسماء التي تتردَّد على الألسنة اليوم في كلِّ مكان، وفي كلِّ بلد؛ مِن أصحاب المخترَعات وأصحاب الثراء الضخم، مثل (بيل جيتس) وغيره من أصحاب الإنتاج الهائل الذي أصبحنا -نحن المسلمين- لا نعدو أكثرَ من مُتَلَقٍّ.. يثبت أن هذا جزءٌ مِن بناء الحياة وفِقْهِها، وأننا مقصِّرون أمام الله جلَّ وعلا فيها؟!

فلو أن الحضارة كانت في أيدي المسلمين الصادقين في هذا العصر، لم نكن نواجه مشكلة كبيرة فيما يتعلَّق بالأسلحة النوويَّة الموجودة في العالم، وندقُّ ناقوس الخطر لمجرد وجود هذه الأسلحة في هذه البلاد أو تلك، وليس ذلك لأننا سنملِك هذه الأسلحة فحسب، ولكن لأننا سنوجِّه مسيرة هذه الحضارة إلى الإعمار والبناء، بدلًا من توجيهها للهدم والدمار، والقضاء على الناس.

ولو أن الحضارة بأيدي المسلمين الصادقين، لكانت حضارة أكثر أخلاقيَّة؛ لأنها تراعي مصالح الإنسان، وتراعي شريعة الله عزَّ وجلَّ، فلا تُدْخِل العلم في مضايق باعتبارها إياه نقيضًا للإيمان، فنحن نؤمِن أن العلم يدعو للإيمان، ونقرأ في كتاب ربِّنا الرحيم الرحمن في أَوَّلِ ما نزل على سيد ولد عدنان ﷺ: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإنْسَانَ مِن عَلَقٍ﴾، فالقراءة والعلم والحضارة تسير جنبًا إلى جنب مع الإيمان، فلذلك هي مِن مصلحة الإنسان، وليست للقضاء عليه.

يقول نبيُّنا ﷺ: «إِنْ قَامَتِ الساعةُ وفي يدِ أَحَدِكُمُ فَسِيلَةٌ، فإن استطاعَ أن لا تقومَ حتَّى يغرسَها فَلْيَغْرِسْهَا».

عندما تقوم الساعة.. فهذا معناه أننا أمام أزمة الأزمات وداهية الدواهي.. إنه قيام الساعة وما فيه من تَغَيُّر الكون؛ ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ﴾، ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ﴾، ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ﴾، إلى غير ذلك من التَّغَيُّرات الضخمة العظيمة.. فتخيَّل هذا كلَّه، وماذا يمكن أن يوجِّهَنا فيه النبيُّ ﷺ في مثل هذا المقام؟!

قال ﷺ: «إِنْ قَامَتِ السَّاعةُ وفي يدِ أَحَدِكُمُ فَسِيلَةٌ»، أي نخلة صغيرة، فلم يَقُلِ ﷺ: ارمها، واذهب إلى المسجد، واستقبل القبلة، ثم صلِّ. بل قال: «فإنِ استطاعَ أن لا تقومَ حتَّى يغرسَها فَلْيَغْرِسْهَا»؛ فهذا فقه الحياة باختصار شديد.

فالإنسان المرتبِك المضطرِب لا يستطيع أن يغرِس الفسيلة من الخوف، بل إن الإنسان الذي يريد أن يفتح الباب وهو مرتبك لا يستطيع أن يضع المفتاح في الباب، فهذا الحديث يقول لنا: لا تندفِعوا، ولا ترتبِكوا، فالهدوء هو مفتاح الحياة وسرُّها، والانفعال أَمْرٌ ينبغي أن يُعَالَجَ.

وقول النبيِّ ﷺ: «وَفِي يَدِ أحدكم فَسِيلَةٌ... فَلْيَغْرِسْهَا»، يحفِّزنا على بناء الحياة وعمارة الأرض، فالفسيلة ليست إلا أنموذجًا.

وقوله ﷺ: «فَلْيَغْرِسْهَا»، إشارة إلى أهميَّة الزرع للإنسان، فالذي عنده زرع يشاهِده، ويقرأ الإعجاز الربانيَّ فيه ويراقبه، وهذا يساعد على الهدوء والاستقرار.

والمقصود أنَّ علينا أنْ نفقَه جانبَ البناء، وأنَّ القوَّة ليست هي قوَّة السلاح، فلو أنَّ عندنا ألفَ طائرةٍ، وألفَ دبّابةٍ، وثلاثمائة رأسٍ نوويٍّ، فليس معنى هذا أنَّ أُمَّتنا أصبحت الأقوى، فالاتحاد السوفيتيُّ كان يملك أضعاف هذا ولكنه انهار؛ لأنه كان لا يملِك القوَّة كلَّها، وإنما مَلَك منها الجانب العسكريَّ فقط، والحياة ليست حربًا وقتالًا كلُّها، وليست جانبًا عسكريًّا فحسب، إن الحياة أوسع مِن ذلك، فهناك قوَّة المعرفة، والقوَّة لم تَعُد الآن تقاس بما تملِكه الأمم من الثروة فقط، وإنما بقدر ما تملك مِن معرفة، وبقَدْر توظيفها للمعرفة.

وكذلك قوَّة الوحدة، فأمريكا عبارة عن خمسين دولة، وأوربا تكاد تكون موحَّدة، وهي عبارة عن إمبراطوريات، والصين تزيد عن مليار ونصف مليار نسمة، ومنذ خمسة آلاف سنة وهي دولة واحدة، وكلُّ واحد منا لا يجِدُ قيمته إلا من خلال الاتحاد مع الآخرين، لا مِن خلال الاختلاف معهم، وإذا اختلفنا مع بعضنا فلا يكون اختلاف قطيعة، فهناك قواسم مُشترَكة كثيرة.. قواسم الدين، وقواسم الدنيا.

ومِن ذلك قوَّة التربية؛ تربية الأولاد والبنات، والكبار والصغار.. على الانتماء لبلدهم، وبنائه وتمثيله، غير أنَّ الكثيرين مِن شباب الإسلام لا يملِكون هذه الروح، وهذا مما يبعث الألم، وقد نشَرَت بعض وسائل الإعلام تقريرًا للأمم المتحدة عن الـمُشَرَّدِين واللاجئين في العالم، وقالت: إنَّ أكثر من سبعين بالمائة منهم من المسلمين، فلماذا الشعوب الإسلاميَّة هي التي ترزح تحت الفقر والتخلُّف والتشرُّد؟!

هذه الحلقة مقتبسة من كتاب"فقه الحياة" للشيخ سلمان العودة، صص 15-19


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022