الثلاثاء

1446-12-21

|

2025-6-17

(الحياة منحة إلهيَّة)

اقتباسات من كتاب "فقه الحياة" لمؤلفه الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة (فرج الله عنه)

الحلقة: الأولى

2 ذو الحجة 1444ه/ 20 يونيو 2023م

 

وإلهنا العظيم حينما اختارنا لنكون أحياء، ميَّزَنا عن الحيوان والنبات والجماد، وأعطانا هذه الخَصيصة الإنسانيَّة، وأشاد بها سبحانه، حتى أمر جلَّ وعلا الملائكة أن يسجدوا لآدم عليه السلام، يقول الله سبحانه: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا﴾، إيذانًا بأنَّ هذا المخلوق -وهو ابن آدم- له تلك المنزلة والمكانة العالية والسامية، ولذلك لا غرابةَ أن يكون في بني آدم الرسلُ والأنبياءُ الذين لهم المقام العالي والمنزلة الشامخة.

إن الحياة عطاء ربانيٌّ، ولك أن تسأل نفسك: كم مِنَّة لله تعالى في جسدك؟ وكم نعمة لله تغمرك وتحيط بك في مأكلك، وصحتك، وأمنك، ورزقك، ومأواك؟ ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ ‌لَا ‌تُحْصُوهَا﴾.

فانظر إلى الحياة كنعمة ومِنَّة، انظر إلى هذه الروح وهذا النَّفَس الذي يتردَّد، وكيف أنَّ ربَّنا سبحانه وتعالى يقول عن آدم: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ﴾، يعني من طين، ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾، فهذه الروح من أَمْر الله: ﴿قُلِ الرُّوحُ مِن أَمْرِ رَبِّي﴾، فالحياة وظيفة مُقَدَّسة، ولهذا جعل إلهنا العظيم العقابَ الشديدَ على مَن يعتدي على وظيفة الحياة، ويهدِم هذا البيت الذي بناه الربُّ جلَّ وعلا: ﴿أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾.

فالله عزَّ وجلَّ يُعطِي على الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، إلا في هذا الموضع فقط، وهو قوله: ﴿وَمَنْ أَحْيَاهَا﴾، أي فاستنقَذَها من الموت، أو تنازَل عن دم قد استحقَّ، فقوله: ﴿فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾، من آدم إلى قيام الساعة، وهو ما لا يحصيه إلا الله تبارك وتعالى من البَشَر، وكذلك مَن قتَلَها، فاعتدى على النفس البريئة، ﴿بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا﴾، فقَتْلُ نفْسٍ واحدة كقَتْل الناس كلِّهم، ويقول سبحانه وتعالى: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّـهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾، ويقول النبيُّ ﷺ: «لا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ».

وحين تنظر يمنة ويسرة، تجد أن أكثر ما يسيل من الدماء البريئة هو في بلاد المسلمين؛ بالتأويل والادعاء والاختلاف، والظنِّ بأنَّ السلاح هو الذي يحسِم القضايا.

إن الأرض تحتاج إلى أن تُسْقَى بالعَرَق أكثر مما تحتاج أن تُسْقَى بالدماء، فالحياة وظيفة مُقَدَّسة، والذي يعتدي على الحياة يعتدي على خصوصيَّة لله سبحانه وتعالى، ويهدِم بيتًا اللهُ بناه، وله الوعيد الشديد الذي لم يَرِد مثلُه إلا في شأن مَن كفَر بالله، وعبَدَ غير الله، ﴿فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا﴾، حتى الملائكة لما قال لهم ربُّنا: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾، عرفوا أن الله عزَّ وجلَّ يبغض سفك الدماء، والفساد في الأرض، فتعجَّبوا -لا اعتراضًا على الله- فقال عزَّ وجلَّ: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾.

فالاستقالة من هذه الحياة ممنوعة؛ «بادَرَني عبدي بنفسه حرَّمت عليه الجنةَ». إنها وظيفة عقيدتها الجنة، فكيف يستفيد الإنسان منها ويختار؟

لقد جبل الله تعالى الطير والحيوان على حبِّ الحياة؛ ولذلك تحلق الطير في السماء فرارًا من الصياد الذي يتربَّص بها، والحيوان يكره الموت، فيمضي بدافع غريزة حبِّ البقاء في طلب الماء والمرعى، والاحتماء من الأذى، وكان النبيُّ ﷺ يُلقِي خطبة الجيش على المقاتلين في قتال شرعيٍّ صحيح، يقول فيها: «يا أَيُّهَا النَّاسُ، لاَ تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، وَاسْأَلُوا اللَّـهَ الْعَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ الجَنَّةَ تَحْتَ ظِلاَلِ السُّيُوفِ».

والله تعالى يقول: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾، فتكرهه النفوس، وتنفِر منه، ولكنه حينما يكون مكتوبًا بشرع الله تعالى ووِفْقَ قانون سماويٍّ صحيح، يكون المراد حتمًا.

وحين يذهب هذا الجيش إلى القتال في سبيل الله، لم يكن جيشًا متعطِّشًا للدماء، بل كان حريصًا على حقن الدماء بكلِّ ما يُمكن، بعث النبيُّ ﷺ عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه في حصار خيبر، وقال له: «انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ، حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلاَمِ، وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِن حَقِّ اللَّـهِ فِيهِ، فَوَاللَّـهِ لأَنْ يَهْدِيَ اللَّـهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا، خَيْرٌ لَكَ مِن أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ».

فالذي يُسْلِم يدخُل في حياة جديدة، مما يعني أنه لا بد أن نستنقِذ النفوس، ونحرص على إحيائها، فهذا هو الجدير واللائق بنا.

 

هذه الحلقة مقتبسة من كتاب"فقه الحياة" للشيخ سلمان العودة، صص 281-285


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022