الأربعاء

1446-11-02

|

2025-4-30

تأملات في الآية الكريمة ﴿قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ﴾:

الحلقة: 48

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

 

وفي هذه الصيغة جماليةٌ لغويةٌ، تتمثٌل في انتخاب أفضل أسلوب لغوي، بأفضل الكلمات فيما يتناسب مع موضوع الكلام. فالكلام هنا سُرد لواقعة تتواصل فصولا مع الآيات في حديث بين عدّة أشخاص، والصيغ المطروحة عدية، كأن تقول: قال أحدهم، أو قال كبيرهم، أو قال فلان منهم. أما أن تقول: قال قائل منهم، فإن الوقع في الأذن أرقّ، والقبول في النّفوس أوفق، والتناسق محقَّق.

وفي قوله تعالى: ﴿قال قائل منهم﴾ إشارة أخرى إلى الإعجاز القرآني وتفوّقه على كلام البشر، فلو أنّ الرّسول - عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم - كان يأتي بهذا الكلام من عنده لكان اعتمد على ما فطرت النفس البشرية في خصائصها وسلوكها في تحديد الأشخاص بدقّة، كأن يقول: قال رويبل. أو قال: يهوذا. لكنّه ما هو إلّا مبلغ عن ربّه وشاء الله تعالى ألّا يذكر اسم القائل علوّا عن منهج النّاس في السرد والكلام، فبلّغ الرسول الكريم ما جاءه من ربه بالحرف.(1)

إنّ هذه الكلمة ﴿قائل منهم﴾؛ تشمل واحداً غير متعين منهم، وبالتالي حفظ مقامهم جميعاً، حيث لا يجوز لنا تخصيص واحد منهم بعينه بنيّة القتل، ووصفه بأنه مجرم بعينه، فهذا إرشاد من الله تعالى إلينا بالاستفادة من القصّة بأخذ العبرة، دون الخوض في اتهام أحد بعينه، أو كرهه، ولا سيما أنّهم جميعاً تابوا إلى الله تعالى وغفر لهم، وعفا عنهم والدهم وأخوهم يوسف. (2)

وفي قوله تعالى: ﴿قال قائل منهم﴾ التحريض على الإخلاص في دفع المفاسد ما أمكن فلم يذكر اسمه ولا صفته مع أهميّة موقفه فإذا علم الله صدقك فليس مهمّاً أن يعرف النّاس اسمك.(3)

- ﴿لا تقتلوا يوسف﴾: ففي ظاهر السّياق لا حاجة إلى ذكر يوسف لاكتمال المعنى، وقد ذُكر اسمه في الآية السّابقة إلّا أنّ إعادة اسمه يحمل فوائد عدة منها:

الأولى: لغوية، في انشراح الصدر بعد انقباضه مما ورد في الآية السّابقة على الواقع خاصة، فبعد أن سمعنا: ﴿اقتلوا يوسف﴾، سمعنا مباشرة: ﴿لا تقتلوا يوسف﴾.

الثانية: معنوية، فإن تكرار ذكر اسم يوسف أمام الإخوة، يحملهم على استذكار كلّ ما يحمله الاسم من النواحي الإيجابيّة في نفوسهم حياله، وقد التصق اسمه في أذهانهم بمواصفاته أنّه أخوهم وصغير فيهم.

الثالثة: رمزية، فكما أنّنا لاحظنا أنّ المتكلم الأوّل في الآية السّابقة، أبعد عن نفسه شخصيّاً مسألة قتل يوسف، أو الاشتراك القولي في قوله: ﴿اقتلوا يوسف﴾، فها هو الأخ الثاني الّذي ينتهج المنهج ذاته في إبعاد نفسه قوليّاً عن الاشتراك في التفكير في قتل يوسف عليه السلام. فقال: ﴿لا تقلتوا يوسف﴾.

وفي قوله: ﴿لا تقتلوا يوسف﴾ دروس، منها:

- إن لم تستطع إزالة الشرّ فخففه ما استطعت.

- محزن أن تبدو الرحمة في شكل رفض القتل، حتّى يظهر أنّ أكثر الموجودين حناناً ورحمة هو ذلك الّذي يرفض القتل ويرضى بما دونه من التعذيب والتنكيل. ولا شكّ أنّ الألطاف الربانيّة كانت تحوط بيوسف فمن بين مكائد إخوته ارتفع صوت: ﴿لا تقتلوا يوسف﴾. ومن عمق البئر جاءته صرخة: ﴿يا بشرى﴾. وفي أولى خطوته في القصر سمع همسة: ﴿أكرمي مثواه﴾، ولحظة إلصاق التهمة به في بيت العزيز ارتفعت شهادة: ﴿وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين﴾، وقبيل خروجه من السجن جاءته رسالة: ﴿ائتوني به أستخلصه لنفسي﴾.(4)

- ﴿لا تقتلوا يوسف﴾، كان مجرد اقتراح، لكنّه أنقذ مصر والشام من المجاعة وغيّر مسار التاريخ فلا تحقرنّ فكرة أو رأياً. وسبحان الله! حتّى أصحاب النيّات السّيّئة تتفاوت نواياهم في السوء والشرّ والعداوة مراتب ودرجات، والخصوم يتفاوتون ضراوة ونكاية وقد يدفع الله ببعضهم شرَّ بعض.(5)

 

مراجع الحلقة الثامنة والأربعون:

1 لطائف التفسير، د. فؤاد العريسي، دار المعرفة، بيروت- لبنان، الطبعة الأولى، 1425ه/2005م، ص 46.

2 لطائف التفسير في سورة يوسف، المرجع السابق، ص 46.

3 لطائف التفسير في سورة يوسف، المرجع نفسه، ص 46 - 47.

4 يوسفيات، علي جابر الفيفي، ص 39.

5 يوسف أيها الصديق، محمّد خيري، ص 33.

 

يمكنكم تحميل كتاب النبي الوزير يوسف الصديق عليه السلام

من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي

http://www.alsalabi.com/salabibooksOnePage/668


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022