تأملات في الآية الكريمة
﴿وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ﴾
الحلقة: 57
بقلم: د. علي محمد الصلابي
جاء إخوة يوسف عشاء، حتّى لا تظهر ملامح وجوههم، عند بكائهم لدى والدهم، فيتبين له أنّ بكاءهم، أو بكاء بعضهم ليس حقيقة، وهو ذو فراسة وبصيرة؛ لأنّ من المعلوم أنّ النائحة المستأجرة ليست كالثكلى، بالإضافة إلى إشعار والدهم بأنهم تأخروا للاهتمام بالحادثة.(1)
- يقول الشيخ محمّد متولي الشعراوي - رحمه الله -: وهنا تتجلّى لنا قدرة أداء القرآن أداء دقيقاً معبّراً عن الانفعالات الّتي توجد في النفس الإنسانية، فها هم إخوة يوسف خدعوا أباهم ومكروا بأخيهم، وأخذوه وألقوْه في الجبّ مع أنّهم يعلمون أنّ أباه يحبّه، وكان ضنيناً أنْ يأتمنهم عليه، فكيف يواجهون هذا الأب؟
هذا هو الانفعال النفسي الّذي لا تستطيع فطرة أن تثبته؛ فقالوا: نؤخر اللقاء لأبينا إلى العشاء: والعشاء مَحَلُّ الظلمة، وهو ستر للانفعالات الّتي توجد على الوجوه من الاضطراب؛ ومن مناقضة كذب ألسنتهم؛ لأنهم لن يخبروا الأب بالواقع الّذي حدث؛ بل بحديث مُخْتلق.
وقد تخدعهم حركاتهم، ويفضحهم تلجلجهم، وتنكشف سيماهم الكاذبة أمام أبيهم؛ فقالوا: الليل أخْفَى للوجه من النهار، وأستَر للفضائح؛ وحين ندخل على أبينا عِشَاءً؛ فلن تكشفنا انفعالاتنا. وبذلك اختاروا الظرف الزمني الّذي يتوارون فيه من أحداثهم: ﴿وجآءوا أَبَاهُمْ عِشَآءً يَبْكُونَ﴾ [يوسف: 16].(2)
- قال الشيخ محمّد أبو زهرة - رحمه الله -: أي أنّهم قضوا النهار غائبين عن أبيهم، ثمّ عادوا في العشية، يقول المفسرون: أنّهم كانوا يتباكون، ولا يبكون. ونحن نميل إلى أنّه كان ثمّة بكاء حقيقي من بعضهم على الأقلّ، وهو بعض من النّدم على ما ارتكبوا وقد أحسّوا بفظاعته، وخصوصاً عندما لقوا أباهم، فإنْ لم يكن لأجل يوسف، فلأجل أبيهم الثاكل.(3)
- قال الشيخ محمّد الطاهر بن عاشور: والعشاء: وقت غيبوبة الشفق الباقي من بقايا شعاع الشمس بعد غروبها. والبكاء: خروج الدموع من العينين عند الحزن والأسف والقهر. وقد أطلق هنا على البكاء المصطنع وهو التباكي. وإنّما اصطنعوا البكاء تمويهاً على أبيهم لئلّا يظن بهم أنّهم اغتالوا يوسف- عليه السلام-، ولعلّهم كانت لهم مقدرة على البكاء مع عدم وجدان موجبه، وفي النّاس عجائب من التمويه والكيد. ومن النّاس من تتأثر أعصابهم بتخيل الشيء ومحاكاته فيعتريهم ما يعتري النّاس بالحقيقة. وبعض المتظلّمين بالباطل يفعلون ذلك، وفطنة الحاكم لا تنخدع لمثل هذه الحيل ولا تنوط بها حكما، وإنّما يناط الحكم بالبينة. جاءت امرأة إلى شريح تخاصم في شيء وكانت مبطلة فجعلت تبكي، وأظهر شريح عدم الاطمئنان لدعواها، فقيل له: أما تراها تبكي؟! فقال: قد جاء إخوة يوسف- عليه السلام- أباهم عشاء يبكون وهم ظلَمة كذبة، لا ينبغي لأحد أن يقضي إلّا بالحق. قال ابن العربي: قال علماؤنا: هذا يدل على أنّ بكاء المرء لا يدلّ على صدق مقاله لاحتمال أن يكون تصنّعاً. ومن الخلق من لا يقدر على ذلك ومنهم من يقدر.(4) ومن الأمثال: "دموع الفاجر بيديه".
- قال الدكتور محمّد أبو موسى في قوله تعالى: ﴿وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ﴾: جملة يبكون، جملة حالية، وفعل المضارع يفيد إحضار صورتهم، وكأنّك الآن وأنت تقرأ تراهم يبكون، وهكذا تفعل اللغة، تحيي الموتى، وتطوي الزمان، وتريك الميّت حيّا يبكي، وكلّ هذا لتنفذ المعاني في قلبك وعقلك، ولاحظ أنّ الجملة الحاليّة أيضاً وقعت فاصلة، والجملة كلّها صورة تمثيليّة تصوّر زورهم وكذبهم، ومكرهم الساذج الغبيّ.(5)
مراجع الحلقة السابعة والخمسون:
يوسف عليه السلام، القره داغي، ص 58.
2 تفسير الشعراوي، (11/381).
3 زهرة التفاسير، (7/3810)
4 التحرير والتنوير، (5/655).
5 من حديث يوسف وموسى في الذكر الحيكم، ص 73.
يمكنكم تحميل كتاب النبي الوزير يوسف الصديق عليه السلام
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي http://www.alsalabi.com/salabibooksOnePage/668