تأملات في الآية الكريمة
﴿قَالُوا يَاأَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ﴾
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
الحلقة: 58
- ﴿قَالُوا يَاأَبَانَا﴾: نادوه باسم: (الأب) المضاف إليهم ليرحمهم فيترك غضبه عليهم، الداعي إلى تكذيبهم، فهم يحاولون تلطيف الجو الممتلئ بالمخاوف بهذا النداء، ثمّ قدّموا بين يدي النبأ السبب الّذي من أجله أكل الذئب يوسف، هذا السبب يبدو من قولهم:
- ﴿إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ﴾: قال د. محمّد مصطفى الزحيلي: وقوله: ﴿نستبق﴾ افتعال من السبق، وهو بمعنى التسابق، والمراد: الاستباق بالجري على الأرجل، وذلك من مرح الشباب ولعبهم.(1)
قال ابن العربيّ رحمه الله: المسابقة شرعة من الشريعة وخصلة بديعة، وعون على الحرب، وقد فعلها رسول الله ﷺ بنفسه وبخيله.(2) وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "سابقني رسول الله ﷺ فسبقته، فلبثنا حتّى إذا أرهقني اللحم، سابقني فسبقني، فقال: هذه بتلك".(3) والأمثلة على السّباق والمسابقة كثيرة في السّيرة النبويّة، والأحاديث الشّريفة، ومن الصّحابة رضوان الله عليهم، وقال تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ [الأنفال: 60]، وقال ﷺ: " لا سبق إلّا في خفّ أو حافر أو نصل".(4)
واستمر السّباق والمسابقة طوال التّاريخ، وظهر في العصر الحاضر الأندية الرياضية، وحلبات السباق، والملاعب، وتبنّته الدّول في المدارس والجامعات، وغيرها. ويألفه النّاس بكثرة، ويتّفق مع حاجات الإنسان والجسم، ولكن ظهر فيه المبالغات الكثيرة، والإفراط، والبذخ الشديد، بل أصبح ملهاة للشّعب في كثير من الأحيان.(5)
- ﴿وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا﴾: أيّ: تركناه عند متاعنا من فضل ثيابنا وطعامنا وشرابنا ليحفظه لنا. وقولهم هذا نقض لشرط يعقوب عليهم لخروج يوسف معهم، فأين فعلهم هذا من قولهم لأبيهم: ﴿وإنا له لناصحون﴾، ﴿وإنا له لحافظون﴾، هل هم الذين سيحفظونه، أم هو الّذي سيحفظ لهم المتاع، وكيف يتسابقون، جميعاً وهم عشرة دون أن يتركوا واحداً مع أخيهم يوسف عليه السلام، وقد تعهدّوا لأبيهم بالحفظ والرعاية والحماية لأخيهم. (6)
هذا، ولعلم قصدوا بقولهم: ﴿وتركنا يوسف عند متاعنا﴾، إيهام أبيهم عليه السلام أنّهم لم يقصّروا في المحافظة على يوسف ومراقبته، بل تركوه في مأمن حيث لا يكاد يُطرح المتاع إلّا في مكان يؤمن فيه الغوائل وأنّهم يتسابقون قريباً منه، وما فارقوه إلّا ساعة يسيرة حدث أثناءها ما لم يتوقع حسب زعمهم.(7)
﴿فأكله الذئب﴾: أي عقْب تركنا له عند متاعنا من غير مضيّ زمان يعتاد فيه التفقّد والتعهّد، وهكذا لم يجدوا عذراً يقدّمونه لأبيهم خيراً من العذر الّذي نبّههم عليه السلام إلى الحذر من الالتجاء إليه ونكثوا في عهودهم بالمحافظة عليه من الذئب حيث قالوا لأبيهم جواباً بالمحافظة عليه من الذّئب حيث قالوا لأبهيهم جواباً لقوله لهم: ﴿وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ﴾، قالوا: ﴿ لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ﴾، وحكمهم هذا على أنفسهم بالخسران قد تحقق فيهم الآن بلا شك، فقد خانوا وكذبوا ولفّقوا وارتكبوا جريمة منكرة في حق أبيهم فلم يرعوا فيه أبوة ولا نبوّة ولا في حقّ أخيهم قرابة ولا أخوّة.(8
- ﴿وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ﴾: قولهم هذا يدلّ على أنّ أباهم غير مصدّق ولا واثق منهم، حيث إنّ التعبير بالجملة الإسمية يدلّ على الثبات والاستقرار في عدم التصديق، كما أنّ وقوع كلمة: ﴿مؤمن﴾ نكرة في سياق النفي يدلّ على نفي إيمانه لهم مطلقا وعدم وجود أي تصديق لهم. وقولهم: ﴿ولو كنا صادقين﴾، حيث أثبتوا الشك في صدقهم من خلال هذه الجملة المبدوءة بــــ: (لو).(9)
- ﴿وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ﴾: فيها تأكيد شديد يؤكد أنّ أباهم لن يصدقهم، ولو كانوا صادقين، وتوشك هذه الجملة أن تكشف كذبهم.(10)
قال ابن كثير: نحن نعلم أنّك لا تصدقنا والحالة هذه لو كنّا عندك صادقين، فكيف وأنت تتّهمنا في ذلك، لأنّك خشيت أن يأكله الذئب، فأكله الذئب، فأنت معذور في تكذيبك لنا لغرابة ما وقع، وعجيب ما اتفق لنا في أمرنا هذا.
قال العلمي - رحمه الله -: يقولون: ﴿ولو كنا صادقين﴾، يرحم الله هؤلاء آباء الأسباط، فإنّهم ما كانوا صادقين في بكائهم، ولا في قولهم، أنّهم ذهبوا يستبقون، وقد تركوا يوسف عند متاعهم، ولا في قولهم: إنّ الذئب أكله، فكل ذلك كذب، كما أنّ الدم الّذي جاؤوا به على قميصه كان كذباً، فراويتهم هذه الّتي مثلوها كاذبة من الرأس للعقب ومن الجذر للفرع. الصادق عند الإطلاق، والصادق على الحقيقيّة من صدق قلباً ولساناً وجارحة، فلا ينطوي قلبه على كذب، ولا يعمل أعمال كذب، بل يكون في كلّ أفعاله وأقواله ظاهراً وباطناً على حق، ولكن الجماعة لم يكونوا في شيء من هذا، فالقلب واللسان ليسا بصادقين، وعمل جارحة اليد وهو تلويث القميص بالدم ليس بصادق، وهم يقولون لأبيهم: ﴿وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ﴾، وهم إنّما يعبرون بذلك عن إحساس أبيهم.(11) وهم يعرفون أنفسهم أنّهم كاذبون وعلموا من فراسة أبيهم وذكائه وفطنته أنّه لن يصدقهم.
مراجع الحلقة الثامنة والخمسون:
1 شرعة الله للأنبياء، د. محمد الزحيلي، ص 257.
2 أحكام القرآن، ابن العربي، (3/1075).
3 صحيح ابن حبان، ابن حبان البستي، (10/545).
4 سنن أبي داود، (2/258).
5 شرعة الله للأنبياء، ص 257.
6يوسف وقصته العجيبة، عليش متولي، ص 98.
7 المصدر السابق، ص 98.
8 المصدر نفسه، ص 99.
9 يوسف عليه السلام، القره داغي، ص 58.
10 من حديث يوسف وموسى في الذكر الحكيم، ص 74.
11 مؤتمر تفسير سورة يوسف، (1/375).
يمكنكم تحميل كتاب النبي الوزير يوسف الصديق عليه السلام
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي