شروط التمكين تقوى الله عز وجل ..
مختارات من كتاب (فقه النصر والتمكين)
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
الحلقة: الثامنة والثلاثون
قال تعالى: " وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا..." [الأعراف:96].
إن من شروط التمكين المهمة -التي نضيفها إلى المباحث السابقة- تقوى الله عز وجل, لأن تقوى الله لها ثمرات عظيمة في الدنيا والآخرة, وهذه الثمرات تظهر على الأفراد, ومن ثمَّ على الجماعة المسلمة التي تسعى لتحكيم شرع الله والتمكين لدينه. إن تقوى الله تعالى تجعل بين العبد وبين ما يخشاه من ربه ومن غضبه وسخطه وعقابه وقاية تقيه من ذلك, وهي أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله, وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله.
أولاً: ثمرات التقوى العاجلة والآجلة:
1- المخرج من كل ضيق والرزق من حيث لا يحتسب العبد:
قال تعالى: " وَمَن يَّتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا` وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ" [الطلاق: 3،2].
2- السهولة واليسر في كل أمر:
قال تعالى: +وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا" [الطلاق:4].
قال سيد قطب رحمه الله: «واليسر في الأمر غاية ما يرجوه الإنسان, وإنها لنعمة كبرى أن يجعل الله الأمور ميسرة لعبد من عباده؛ فلا عنت ولا مشقة ولا عسر ولا ضيق يأخذ الأمور بيسر في شعوره وتقديره, وينالها بيسر في حركته وعمله, ويرضاها بيسر في حصيلتها ونتيجتها, ويعيش من هذا في يسر رَخِيّ نَدِيّ حتى يلقى الله» (1).
3- تيسير العلم النافع:
قال تعالى: " وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" [البقرة: 282].
قال العلامة محمد رشيد رضا: (أي اتقوا لله في جميع ما أمركم به ونهاكم عنه, وهو يعلمكم ما فيه قيام مصالحكم وحفظ أموالكم وتقوية رابطتكم, فإنكم لولا هدايته لا تعلمون ذلك, وهو سبحانه العليم بكل شيء, فإذا شرع شيئًا فإنما يشرعه عن علم محيط بأسباب درء المفاسد وجلب المصالح لمن تبعه شرعه, وكرر لفظ الجلالة لكمال التذكير وقوة التأثير) (2), لقد تكرر لفظ الجلالة في قوله تعالى: " وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" ثلاث مرات, فالأولى حث على التقوى, والثانية وعدٌ بإنعامه, والثالثة تعظيم شأنه سبحانه وتعالى.
4- إطلاق نور البصيرة:
قال تعالى: " إِن تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا" [الأنفال:29]. إن تقوى الله تعالى في الأمور كلها تعطي صاحبها نورًا يفرق به بين الحق والباطل, وبين دقائق الشبهات التي لا يعلمهن كثير من الناس, وعندما تسيطر تقوى الله على الصف المسلم يصبح يتحرك بفرقان رباني.
5- محبة الله عز وجل ومحبة ملائكته والقبول في الأرض:
قال تعالى: " بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ" [آل عمران: 76].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا أحب الله العبد قال لجبريل: قد أحببت فلانًا فأحبه, فيحبه جبريل عليه السلام, ثم ينادي في أهل السماء, إن الله قد أحب فلانًا فأحبوه, فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض» (3).
6- نصرة الله عز وجل وتأييده وتسديده:
وهي المعية المقصودة بقول الله عز وجل: " وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ" [البقرة:194]. فهذه المعية هي معية التأييد والنصرة والتسديد, وهي معية الله عز وجل لأنبيائه وأوليائه, ومعيته للمتقين والصابرين وهي تقتضي التأييد والحفظ والإعانة كما قال تعالى لموسى عليه السلام وهارون: " لاَ تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى" [طه:46].
أما المعية العامة مثل قوله تعالى: " وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ" [الحديد: 4]. وقوله: " يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ" [النساء:108]. فتستوجب من العبد الحذر والخوف ومراقبة الله عز وجل.
7- البركات من السماء والأرض:
قال تعالى: " وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ...." [الأعراف: 96].
قال القاسمي رحمه الله: " وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى" أي: القرى المُهْلَكة " آمَنُوا" أي: بالله ورسله +وَاتَّقَوْا" أي: الكفر والمعاصي " لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ" أي: لوسعنا عليهم الخير ويسرناه لهم من كل جانب, مكان ما أصابهم من فنون العقوبات التي بعضها من السماء وبعضها من الأرض) (4).
ويدل على هذا المعنى قوله عز وجل: " وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا" [الجن:16].
فانظر إلى بركات التقوى, واعلم أن ما نحن فيه من قلة البركة ونقص الثمار وكثرة الآفات والأمراض إنما هو نتيجة حتمية لضعف وازع التقوى وكثرة المعاصي, كما يقول تعالى: " ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" [الروم:41].
8- البشرى وهي الرؤيا الصالحة وثناء الخلق ومحبتهم:
قال تعالى: " أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ` الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ` لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ..." [يونس:62-64].
والبشرى في الحياة الدنيا ما بشر الله به المؤمنين المتقين في غير مكان من كتابه, وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «الرؤيا الصالحة من الله» (5). وعنه صلى الله عليه وسلم: «لم يبق من النبوة إلا المبشرات» قالوا: وما المبشرات؟ قال: «الرؤيا الصالحة» (6).
وعن أبي ذر t قال: قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: الرجل يعمل العمل لله ويحبه الناس فقال: «تلك عاجل بشرى المؤمن» (7). وقد رأينا من الموفقين في العمل الإسلامي ثناء الناس على أعمالهم في الدنيا.
9- الحفظ من كيد الأعداء ومكرهم:
قال تعالى: " وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ"
[آل عمران: 120].
قال ابن كثير -رحمه الله-: (يرشدهم تعالى إلى السلامة من شر الأشرار وكيد الفجار باستعمال الصبر والتقوى والتوكل على الله الذي هو محيط بأعدائهم, فلا حول ولا قوة لهم إلا به, وهو الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن) (7).
إنه تعليم من الله تعالى للمسلمين في كيفية الاستعانة على أعداء الله وكيدهم.
10- حفظ الذرية الضعاف بعناية الله تعالى عز وجل:
قال تعالى: " وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا" [النساء:9], وفي الآية إشارة إلى إرشاد المسلمين الذي يخشون ترك ذرية ضعاف بالتقوى في سائر شئونهم حتى تحفظ أبناؤهم ويدخلوا تحت حفظ
الله وعنايته, ويكون في إشعارها تهديد بضياع أولادهم إن فقدوا تقوى الله, وإشارة
إلى أن تقوى الأصول تحفظ الفروع, وأن الرجال الصالحين يحفظون في ذريتهم الضعاف كما في آية: " وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا" [الكهف:82]. فإن الغلامين حفظا ببركة أبيهما في أنفسهما ومالهما (8).
11- سبب لقبول الأعمال التي بها سعادة العباد في الدنيا والآخرة:
قال تعالى: " إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ" [المائدة:27].
ولهذا لابد من الدعاة العاملين والعلماء الراسخين من استحضار هذه المعاني العظيمة, فإن أعمالنا مهما كان حجمها وتضحياتنا مهما كانت ضخامتها لا تقبل إلا من المتقين, لأنهم هم الذين يستشعرون أن كل خير هو من الله وحده.
12- سبب النجاة من عذاب الدنيا:
قال الله تعالى: " وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ` وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يتَّقُونَ" [فصلت: 18،17].
إن الله تعالى سلم أهل الإيمان والتقوى من بين أظهر الكافرين دون أن يمسهم سوء أو أن ينالهم من ذلك ضرر, بسبب إيمانهم وتقواهم لله تعالى.
13- تكفير السيئات وهو سبب النجاة من النار, وعظم الأجر وهو سبب الفوز بدرجة الجنة:
قال تعالى: +وَمَن يَّتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا" [الطلاق:5].
قال ابن كثير رحمه الله:(أي يذهب عنهم المحظور, ويجزل لهم الثواب على العمل اليسير) (9).
14- ميراث الجنة, فهم أحق الناس بها وأهلها, بل ما أعد الله الجنة إلا لأصحاب هذه الرتبة العلية والجوهرة البهية:
قال تعالى: " تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا" [مريم:63], فهم الورثة الشرعيون لجنة الله عز وجل.
15- وهم لا يذهبون إلى الجنة سيرًا على أقدامهم بل يحشرون إليها ركبانًا:
مع أن الله عز وجل يقرب إليهم الجنة تحية لهم ودفعًا لمشقتهم, كما قال تعالى: " وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ" [ ق:31].
قال تعالى: " يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا" [مريم:85].
16- وهي تجمع بين المتحابين من أهلها حين تنقلب كل صداقة ومحبة إلى عداوة ومشقة:
قال تعالى: " الأخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ" [الزخرف:67].
ومن بركة التقوى أن الله عز وجل ينزع ما قد يعلق بقلوبهم من الضغائن والغل فتزداد مودتهم وتتم محبتهم وصحبتهم, قال تعالى: " إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَّعُيُونٍ ` ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ ` وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ"[الحجر:45-47].
---------------------------------------
مراجع الحلقة الثامنة والثلاثون:
(1) في ظلال القرآن (6/3602).
(2) تفسير المنار (3/128).
(3) مسلم, كتاب البر والصلة والآداب, باب: إذا أحب الله تعالى (4/2030) رقم 2637.
(4) انظر: محاسن التأويل (7/221).
(5) البخاري, كتاب الرؤيا, باب: رؤيا الصالحين (8/88) رقم 6986.
(6) البخاري, كتاب الرؤيا, باب المبشرات (8/89) رقم 6990.
(7) مسلم, كتاب الرؤيا, باب المبشرات (4/2034).
(8) تفسير القرآن العظيم (1/329).
(9) انظر: محاسن التأويل للقاسمي (5/47).
يمكنكم تحميل فقه النصر والتمكين
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي