مرضعات النبي (صلى الله عليه وسلم)
مختارات من موسوعة السيرة النبوية والخلفاء الراشدين
بقلم د. علي محمد الصلابي
الحلقة (11)
كانت حاضنته صلى الله عليه وسلم أمُّ أيمن بركة الحبشيَّة أمَةَ أبيه، وأول من أرضعته ثُوَيْـبَـةُ أمَةُ عمِّه أبي لهب. فمن حديث زينب ابنة أبي سلمة، أنَّ أمَّ حبيبة رضي الله عنها أخبرتها: أنَّها قالت: يا رسول الله! انْكِحْ أختي بنت أبي سفيان، فقال: «أوَتحبِّين ذلك؟» فقلت: نعم، لست لك بمخلية، وأحَبُّ من شاركني في خيرٍ أختي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إنَّ ذلك لا يحلُّ لي» قلت: فإنَّا نُحَدَّثُ أنَّك تريد أن تنكح بنتَ أبي سلمة. قال: «بنت أمِّ سلمة؟» قلت: نعم. فقال: «لو أنَّها لم تكن ربيبتي في حجري، ما حَلَّت لي، إنَّها لابنة أخي من الرَّضاعة، أرضعتني وأبا سلمة ثويبةُ، فلا تعرضنَ عليَّ بناتكنَّ، ولا أخَواتِكنَّ» [البخاري (5101) ومسلم (1449)] .
وكان من شأن أمِّ أيمن، أمِّ أسامة بن زيد: أنَّها كانت وصيفةً لعبد الله بن عبد المطلب، وكانت من الحبشة، فلـمَّا ولدت آمنةُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، بعدما تُوفي أبوه، فكانت أمُّ أيمن تحضنه، حتَّى كَبِرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، فأعتقها، ثمَّ أنْكَحَهَا زيدَ ابن حارثة، ثم تُوفيت بعدما تُوفي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بخمسة أشهرٍ. [البخاري (2630) ومسلم (1771)] .
حليمة السَّعديَّة مرضعته في بني سعد:
وهذه حليمة السَّعدية تقصُّ علينا خبراً فريداً عن بركات الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ؛ التي لمستها في نفسها، وولدها، ورعيها، وبيتها.
عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما: قال: لـمَّا وُلد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ؛ قدمت حليمة بنت الحارث، في نسوةٍ من بني سعد بن بكر يلتمسن الرُّضعاء بمكَّة. قالت حليمة: فخرجت في أوائل النِّسوة على أتانٍ لي، قمراء، ومعي زوجي الحارث بن عبد العزَّى، أحد بني سعد بن بكر، ثمَّ أحد بني ناضرة، قد أدمت أتاننا، ومعي بالرَّكب شارفٌ والله ما تَبِضُّ بقطرة لبنٍ! في سنةٍ شهباء، قد جاع النَّاس حتَّى خلص إليهم الجَهْد، ومعي ابنٌ لي، والله ما ينام ليلنا! وما أجد في يدي شيئاً أعلِّله به، إلا أنا نرجو الغيث، وكانت لنا غنمٌ، فنحن نرجوها.
فلـمَّا قدمنا مكَّة، فما بقي منَّا أحدٌ إلا عُرض عليها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، فكرهته، فقلنا: إنَّه يتيم، وإنَّما يُكرِم الظِّئر، ويُحسن إليها الوالد، فقلنا: ما عسى أن تصنع بنا أُمُّه، أو عمُّه، أو جدُّه، فكلُّ صواحبي أخذت رضيعاً، فلـمَّا لم أجد غيره؛ رجعت إليه، وأخذته، والله ما أخذته إلا أني لم أجد غيره! فقلت لصاحبي: والله لآخذنَّ هذا اليتيم من بني عبد المطلب، فعسى الله أن ينفعنا به، ولا أرجع من بين صواحبي ولا آخذ شيئاً، فقال: قد أصبت!.
قالت: فأخذته، فأتيت به الرَّحْلَ، فو الله! ما هو إلا أن أتيتُ به الرَّحْلَ، فأمسيتُ؛ أقبل ثديايَ باللَّبن، حتَّى أرويتُه، وأرويت أخاه، قام أبوه إلى شارفنا تلك يلمسها، فإذا هي حافلٌ، فحلبها، فأرواني، وروي، فقال: ياحليمة! تعلمين والله لقد أصبنا نَسَمَة مباركةً، ولقد أعطى الله عليها ما لم نتمنَّ! قالت: فبتنا بخير ليلةٍ شباعاً، وكنَّا لا ننام ليلنا مع صبيِّنا.
ثمَّ اغتدينا راجعين إلى بلادنا أنا وصواحبي، فركبت أتاني القمراء، فحملته معي، فو الذي نفس حليمة بيده؛ لقطعت الرَّكْبَ! حتَّى إنَّ النِّسوة ليقلْنَ: أمسكي علينا! أهذه أتانك الَّتي خرجت عليها؟ فقلت: نعم، فقالوا: إنَّها كانت أدمت حين أقبلنا، فما شأنها؟ قالت: فقلت: والله! حَمَلْتُ عليها غلاماً مباركاً.
قالت: فخرجنا، فما زال يزيدنا الله في كلِّ يومٍ خيراً، حتَّى قدمنا؛ والبلاد سِنةٌ، ولقد كان رعاتنا يسرحون، ثمَّ يريحون، فتروح أغنام بني سعدٍ جياعاً، وتروح غنمي بطاناً، حُفَّلاً، فنحلب، ونشرب، فيقولون: ما شأن غنم الحارث بن عبد العزَّى، وغنم حليمة تروح شباعاً حُفَّلاً، وتروح غنمكم جياعاً. ويلكم! اسرحوا حيث تسرح غنم رعائهم، فيسرحون معهم، فما تروح إلا جياعاً، كما كانت، وترجع غنمي كما كانت.
قالت: وكان يشبُّ شباباً ما يشبه أحداً من الغلمان، يشبُّ في اليوم شباب السنة، فلـمَّا استكمل سنتين؛ أقدمناه مكَّة، أنا وأبوه، فقلنا: والله! لا نفارقه أبداً ونحن نستطيع؛ فلـمَّا أتينا أمَّه، قلنا: والله! ما رأينا صبياً قط أعظم بركة منه، وإنَّا نتخوَّف عليه وباء مكَّة، وأسقامها، فدعيه نرجع به حتَّى تبرئي من دائك، فلم نزل بها حتى أذنت، فرجعنا به، فأقمنا أشهراً ثلاثةً، أو أربعةً، فبينما هو يلعب خلف البيوت هو وأخوه في بَهْمٍ لنا؛ إذ أتى أخوه يشتدُّ (أي: يسرع في سيره)، فقال: إنَّ أخي القرشيَّ، أتاه رجلان عليهما ثيابٌ بيض، فأخذاه، وأضجعاه، فشقَّا بطنه، فخرجت أنا، وأبوه يشتدُّ، فوجدناه قائماً، قد انتقع لونه، فلـمَّا رآنا؛ أجهش إلينا، وبكى، قالت: فالتزمته أنا وأبوه، فضمَمْناه إلينا: ما لك بأبي وأمِّي؟ فقال: أتاني رجلان، وأضجعاني، فشقَّا بطني، ووضعا به شيئاً، ثمَّ ردَّاه كما هو، فقال أبوه: والله! ما أرى ابني إلا وقد أصيب، الحقي بأهله، فردِّيه إليهم قبل أن يظهر له ما نتخوَّف منه، قالت: فاحتملناه فقدمنا به على أمِّه، فلـمَّا رأتنا أنكرت شأننا، وقالت: ما أرجعكما به قبل أن أسألكماه، وقد كنتما حريصين على حبسه؟ فقلنا: لا شيء إلا أنْ قضى الله الرَّضاعة، وسَرَّنا ما نرى، وقلنا: نؤويه كما تحبُّون أحبُّ إلينا.
قال: فقالت: إنَّ لكما شأناً فأخبراني ما هو؟ فلم تدعنا حتَّى أخبرناها، فقالت: كلا والله! لا يصنع الله ذلك به، إنَّ لابني شأناً، أفلا أخبركما خبره، إنِّي حملت به، فو الله! ما حملت حملاً قطُّ، كان أخفَّ عليَّ منه، ولا أيسر منه، ثُمَّ أُريت حين حملته خرج منِّي نورٌ أضاء منه أعناق الإبل بِبُصْرى - أو قالت: قصور بُصرى - ثمَّ وضعتُه حين وضعته، فو الله! ما وقع كما يقع الصِّبيان، لقد وقع معتمداً بيديه على الأرض، رافعاً رأسه إلى السَّماء، فدعاه عنكما! فقَبَضَتْهُ، وانطلقنا» [أبو يعلى (7163) وابن حبان (6335) والمعجم الكبير (24/212 - 215) ومجمع الزوائد (8/220 - 221) ودلائل البيهقي (1/133 - 136)] .
مراجع الحلقة:
- علي محمد محمد الصلابي، السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث، الطبعة الأولى، دار ابن كثير، 2004، ص 61-64.
- أحمد فريد، وقفاتٌ تربويَّة مع السِّيرة النَّبويَّة دار طيبة، الرِّياض، الطَّبعة الثَّالثة، 1417 هـ 1997 م، ص 48.
لمزيد من الاطلاع ومراجعة المصادر للمقال انظر:
كتاب السيرة النبوية في الموقع الرسمي للشيخ الدكتور علي محمد الصلابي: