ملوك بني إسرائيل في سورة البقرة (طالوت وداوود عليهما السلام)
مختارات من كتاب الأنبياء الملوك ...
بقلم د. علي محمد الصلابي ...
الحلقة (10)
قال تعالى:﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)﴾ [البقرة: 246 - 252].
هذه الآيات الكريمة تقص علينا إحدى مراحل أمة بني إسرائيل الحضارية، وقصص بني إسرائيل في القرآن الكريم من أكثر القصص وروداً في القرآن الكريم، لأسباب عدة، ذكرنا بعضها في كتابي: (موسى كليم الله عدو المستكبرين وقائد المستضعفين)، جاءت بوفرة وتنوّع؛ لأن الله عز وجل علم أن أجيالاً من هذه الأمة المسلمة ستمر بأمور كالتي مرّ بها بنو إسرائيل، وتقف من دينها وعقيدتها مواقف شبيهة لمواقف بني إسرائيل فعرض عليها مزالق الطريق، مصورة في تاريخ بني إسرائيل، لتكون لها عظة وعبرة، ولترى صورتها في آيات الذكر الحكيم قبل الوقوع في تلك المزالق أو اللجاج فيها على مدار الطريق.
إن هذا القرآن ينبغي أن يُقرأ، وأن تتلقاه أجيال الأمة المسلمة بوعي، وينبغي أن يتدبر على أنه توجيهات حية تتنزل، لتعالج مسائل اليوم، ولتنير الطريق إلى المستقبل، لا على أنه مجرد كلام جميل يُرتَّل أو على أنه سجل لأحداث وظواهر ومواقف مضت، ولن تعود.
ولن ننتفع بالقرآن الكريم حتى نقرأه، ونلتمس عنده توجيهات حياتنا الواقعة في يومنا وفي غدنا؛ وحين نقرأ القرآن بهذا الوعي سنجد عنده ما نريد وسنجد فيه عجائب لا تخطر على البال الساهي.
إن هذه الآيات الكريمة تحدثنا عن تجربة حياة بني إسرائيل من بعد موسى (عليه السلام)، وبعدما ضاع ملكهم، ونهبت مقدساتهم، وذلوا لأعدائهم، وذاقوا الويل بسبب انحرافهم عن هدى ربهم، وتعاليم نبيهم، ثم انتفضت نفوسهم انتفاضة جديدة، واستيقظت في قلوبهم العقيدة، واستفاقوا للقتال في سبيل الله، فقالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله، ومن خلال هذه التجربة -كما يعرضها السياق القرآني- تبرز جملة حقائق، تحمل إيحاءات يستفيد منها كل جيل؛ حتى يرث الله الأرض ومن عليها. والعبرة الكلية التي تبرز من القصة كلها هي أن هذه الانتفاضة -انتفاضة العقيدة- على الرغم من كل ما اعتراها أمام التجربة الواقعة من نقص وضعف، ومن تخلي القوم عنها فوجاً بعد فوج في مراحل الطريق، على الرغم من هذا كله فإن ثبات قلة قليلة من المؤمنين عليها قد حقق لبني إسرائيل نتائج ضخمة جداً: حيث كان فيها النصر والعز والتمكين بعد الهزيمة المنكرة والمهانة الفاضحة، والتشريد الطويل والذل تحت أقدام المتسلطين. ولقد جاءت لهم بملك داوود ثم ملك سليمان (عليهما السلام)، وهذه أعلى قمة وصلت إليها دولة بني إسرائيل في الأرض، وهي عهدهم الذهبي الذي يتحدثون عنه، والذي لم يبلغوه من قبل، وكان هذا النصر كله ثمرة مباشرة لانتفاضة العقيدة من تحت الركام وثبات قلة قليلة عليها أمام جحافل جالوت.
مراجع الحلقة:
- علي محمد محمد الصلابي، الأنبياء الملوك، الطبعة الأولى، دار ابن كثير، 2023، ص 57-60.
- سيد قطب، في ظلال القرآن، ص (1/262).
لمزيد من الاطلاع ومراجعة المصادر للمقال انظر:
كتاب الأنبياء الملوك في الموقع الرسمي للشيخ الدكتور علي محمد الصلابي: