بنو إسرائيل في عهد القضاة
مختارات من كتاب الأنبياء الملوك
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة (9)
بقي رجال بني إسرائيل في الأرض المقدسة (فلسطين)، وذلك بعدما عبروها مع فتى موسى (عليه السلام) قائدهم يوشع بن نون، وبذلك انتهت حياة البداوة والخشونة والترحال إلى شبه حضارية مستقرة؛ فسكنوا المدن والقصور بعد الخيام في الصحراء، وكانوا مع ذلك في حروب دائمة مع من جاورهم من الفلسطينيين، وحروب داخلية مع أسباطهم الاثني عشر، كما كانت تسودهم الفوضى والانتكاس في العبادة أيضاً.
ويبدأ عصر القضاة بموت يوشع بن نون، وينتهي بقيام الملكية على يد طالوت (شاؤول في التوراة). وهناك نوعان من القضاة.
أ- النوع الأول:
هم الذين يفصلون في الدعوى بين المتخاصميْن، فقد كان موسى (عليه السلام) يقضى للشعب وحده من الصباح إلى المساء؛ فنصحه (يثرون) بأن يعلِّم الشعبَ الفرائضَ والشرائع، ثم يختار ذوي قدرة وخائفين من الله ومبغضين للرشاوي، وليقيمهم على الشعب على رؤساء ألوف ومئات وعشرات ليقضوا للشعب في الدعاوى الصغيرة. أما الدعاوى الكبيرة فيأتون بها إلى موسى (عليه السلام). والقضاة من هذا النوع كان عددهم كبيراً جداً ومتواجدين منذ بداية التيه مع موسى (عليه السلام) وبعده.
ب- النوع الثاني:
هو بمعنى المخلِّص، وهو ما ورد في سفر القضاة (وأقام لهم الربُّ قضاةً، فخلّصوهم من يد ناهبيهم). وهذا النوع بمعنى المخلِّص هم الذين ورد ذكرهم في فترة القضاة، وفي عهد القضاة. تذكر كتب التاريخ التي اعتمدت على سفر القضاة وغيرها من الكتب؛ بأن بني إسرائيل ارتدّوا عن عبادة الله سبع مرات، وعبدوا الأصنام، وهو ما كان سبباً في تسليط الأعداء عليهم، وكان من قُضاتهم من يلم شعث المتفرقين، ويجمع شملهم. وكان منهم من يقوم برد غارة أو دفع عدو عنهم، ومنهم من تولّى الحكم طوال حياته، ومنهم من فسد في حكمه، وولّى أولاده في القضاء. ولقد سطر سفر القضاة سيرتهم وأحوالهم وما أصابهم من نكبات وقعت بهم.
ومن قراءة عهد القضاة من خلال سفر القضاة نستخلص: أن عهد القضاة أسوأ عهود بني إسرائيل؛ ففيه انتشرت الرذائل والمنكرات بينهم، وعبدوا الأصنام، وقتلوا الصالحين، وفشا بينهم الزنا، وترتب على ذلك أن تعرضوا خلال عهد القضاة لنكبات وغارت عليهم من غيرهم. وقد تحدثت كتب كثيرة عن أسماء القضاة، وسيرهم وعهدهم وسماتهم ومدتهم، واختلفوا في ذلك اختلافاً بيِّناً. ومن أهمّ هذه الكتب:
- بنو إسرائيل منذ دخولهم فلسطين وحتى الشتات الروماني في عام 135م، الدكتور محمد بيومي مهران.
- المدخل لدراسة التوراة والعهد القديم، لمؤلفه: محمد علي البار.
- دراسات في الأديان اليهودية والنصرانية، للدكتور سعود عبد العزيز الخلف.
- دراسات في اليهودية والمسيحية في أديان الهند، للدكتور محمد ضياء الأعظمي.
- دراسات تاريخية من القرآن في بلاد الشام، للدكتور محمد بيومي مهران.
- التاريخ العسكري لبني إسرائيل من خلال كتبهم (قراءة جديدة للعهد القديم)، لكاتبه اللواء الركن المتقاعد الدكتور: ياسين سويد.
أما أرجح الأقوال فيما يتعلق بمدة عهد القضاة، فيمكننا أن نستعين في هذا الموضوع بما ذكره ابن خلدون في مقدمته حين قال: إن للدولة أعماراً طبيعية كالأشخاص، وذكر قياس عمود النسب قائلاً: يجري على ألسنة الناس في المشهور أن عمر الدولة مائة سنة، فاعتبرْه واتخذْ منه قانوناً يصحح لك عدد الآباء في عمود النسب الذي تريده من قبل معرفة السنين الماضية، إذا كنت قد اقتربت في عددهم وكانت السنون الماضية منذ أولهم محصلة لديك، فعدَّ لكل مائة من السنين ثلاثة من الآباء، فإن نفّذت كل هذا القياس مع نفوذ عددهم فهو صحيح، وإن نقصت عنه بجيل، فقد غلط عددهم بزيادة واحد في عمود النسب، وإن زادت بمثله فقد سقط واحد، وكذلك تأخر عدد السنين من عددهم، إذا كان محصلاً لديك فتأمّله، تجده صحيحاً. والله يقدر. وعليه تكون مدة عهد القضاة 120 - 130 عاماً. والله أعلم.
ولا شك أن كتب العهد القديم المتعلقة بسفر يشوع وسفر القضاة، تعرضت لمبالغاتٍ وأكاذيبَ بعيدةٍ عن الدقة والحقيقة والمصداقية، كما أنها تعرضت للتحريف والتبديل بسبب الأهواء؛ فقد حاولوا إقناع الناس من خلال تزوير حقائق التاريخ بأن جذورهم التاريخية بالأرض المقدسة استمرّت قروناً عدة، مضى معظمها في حروب وتناوش مع سكان الأرض الأصليين –الفلسطينيين- وإن شيدوا فيها أعظم مملكة لهم، ولكنها كانت قائمة على التوحيد الخالص لله، ومع ذلك لم تصمد أكثر من قرن من الزمان –ملك داوود وسليمان عليهما السلام- لردّتهم وتمرّدهم وعصيانهم، فأشركوا بالله وعبدوا الأصنام والأوثان، فسُلط عليهم من مزَّق ملكهم بما كسبت أيديهم. والله عزيز ذو انتقام. وإن في إزالتهم سنة لله في الاستخلاف والعمارة والتمكين في الأرض.
مراجع الحلقة:
- علي محمد محمد الصلابي، الأنبياء الملوك، الطبعة الأولى، دار ابن كثير، 2023، ص 50-56.
- داود في الأسفار اليهودية، مي المدهون، رسالة ماجستير، جامعة أم القرى – مكة المكرمة، 1420 – 1421هـ، ص 160-615.
- مقدمة ابن خلدون، ص171 - 172.
لمزيد من الاطلاع ومراجعة المصادر للمقال انظر:
كتاب الأنبياء الملوك في الموقع الرسمي للشيخ الدكتور علي محمد الصلابي: