الأمر الرَّبانيُّ بتبليغ الرِّسالة ...
مختارات من موسوعة السيرة النبوية والخلفاء الراشدين ..
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة (30)
عرف النَّبيُّ (صلى الله عليه وسلم) معرفة اليقين: أنَّه أصبح نبياً لله الرَّحيم الكريم، وجاءه جبريل عليه السلام للمرَّة الثَّانية، وأنزل الله على نبيِّه قوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ *قُمْ فَأَنْذِرْ *وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ *وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ [المدثر:1 - 4].
كانت هذه الآيات المتتابعة إيذاناً للرَّسول صلى الله عليه وسلم بأنَّ الماضي قد انتهى بمنامه، وهدوئه، وأنَّه أمامه عملٌ عظيمٌ، يستدعي اليقظة، والتَّشْمير، والإنذار، والإعذار، فليحمل الرِّسالة، وليوجِّه الناس، وليأنس بالوحي، وليقوَ على عنائه؛ فإنَّه مصدر رسالته، ومدد دعوته.
وتعدُّ هذه الآيات أوَّل أمرٍ بتبليغ الدَّعوة، والقيام بالتَّبعة، وقد أشارت هذه الآيات إلى أمور هي خلاصة الدَّعوة المحمَّدية، والحقائق الإسلاميَّة؛ الَّتي بُني عليها الإسلام كلُّه، وهي: الوحدانيَّة، والإيمان باليوم الآخر، وتطهير النُّفوس، ودفع الفساد عن الجماعة، وجلب النَّفع.
كانت هذه الآيات تهييجاً لعزيمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لينهض بعبء ما كُلِّفه من تبليغ رسالات ربِّه، فيمضي قُدُماً بدعوته، لا يبالي العقبات، والحواجز. كان هذا النِّداء مُتلطِّفاً إيذاناً بشحذ ﴿يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ﴾، وتوديعاً لأوقات النَّوم، والرَّاحة، وجاء عقب هذا النداء الأمر الجازم بالنُّهوض في عزيمةٍ ﴿قُمْ﴾، وقوَّةٍ حازمةٍ، تتحرَّك في اتجاه تحقيق واجب التَّبليغ، وفي مجيء الأمر بالإنذار منفرداً عن التَّبشير. في أوَّل خطابٍ وُجِّه إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بعد فترة الوحي - إيذانٌ بأنَّ رسالته تعتمد على الكفاح الصَّبور، والجهاد المرير، ثمَّ زادت الآيات في تقوية عزيمة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وشدِّ أزره، وحَضِّه على المضيّ قُدُماً إلى غاية ما أُمر به، غير عابئ بما يعترض طريقه من عقبات، مهما يكن شأنها، فقيل له: أي: لا تعظم شيئاً من أمور الخلق، ولا يتعاظمك منهم شيءٌ، فلا تتهيَّب فعلاً من أفعالهم ، ولا تخشَ أحداً منهم ، ولا تعظِّم إلا ربَّك، الَّذي تعهَّدك وأنت في أصلاب الاباء، وأرحام الأمَّهات، فربَّاك على موائد فضله، ورعاك بإحسانه وجوده حتَّى أخرجك للنَّاس نبياً، ورسولاً، بعد أن أعدَّك خلْقاً وخُلُقاً؛ لتحمل أمانة أعظم رسالاته : فكلُّ تعظيمٍ وتكبيرٍ وإجلال حقٌّ لله تعالى ﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ﴾، لا يشاركه فيه أحد، أو شيءٌ من مخلوقاته.
وفي قوله تعالى: فكأنَّه قيل له ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ﴾ : فأنت على طهرك وتطهُّرك بفطرتك في كمال إنسانيَّتك، بما جبلك الله عليه من أكرم مكارم الأخلاق، وبما حباك به من نبوَّته؛ ليعدَّك بها ليومك هذا - أحوج إلى أن تزداد في تطهُّرك النَّفسيِّ، فتزداد من المكارم في حياتك مع الناس والأشياء، فأنت اليوم رسول الله إلى العالمين، وكمال الرِّسالة في كمال الخُلق الاجتماعيِّ؛ صبراً، وحلماً، وعفواً، وإحساناً، ودأباً على الجدِّ في تبليغ الدَّعوة إلى الله تعالى، ولا يثنيك إيذاءٌ ولا يقعدك عن المضي إلى غايتك فادح البلاء.
وفي قوله تعالى: فكأنَّه قيل له ﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ﴾ : ليكن قصدك، ونيَّتك في تركك ما تركت فطرةً، وطبعاً؛ هجره تكليفاً، وتعبُّداً؛ لتكون قدوة أمَّتك، وعنوان تطهُّرها بهداية رسالتك.
مراجع الحلقة:
- السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث، علي محمد محمد الصلابي، الطبعة الأولى، دار ابن كثير، 2004، ص 107-109.
- فقه السِّيرة، للغزالي، ص 90.
- دولة الرَّسول صلى الله عليه وسلم من التكوين إلى التمكين، كامل سلامة، ص 181.
- محمَّد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لمحمد الصادق عرجون (1/589-591-592-593) بتصرفٍ كبير.
لمزيد من الاطلاع ومراجعة المصادر للمقال