الجمعة

1446-11-11

|

2025-5-9

إسلام أبي بكرٍ الصِّدِّيق (رضي الله عنه)

مختارات من موسوعة السيرة النبوية والخلفاء الراشدين ..

بقلم: د. علي محمد الصلابي

الحلقة (33)

 

كان أبو بكرٍ الصِّدِّيق رضي الله عنه أوَّل مَنْ آمن بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم من الرِّجال الأحرار، والأشراف، فهو من أخصِّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، وفيه قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : «ما دعوت أحداً إلى الإسلام إلا كانت عنده كبوةٌ، وتردُّدٌ، ونَظرٌ، إلا أبا بكر، ما عَكَم حين دعوته، ولا تردَّد فيه» [البيهقي في الدلائل (2/164)] ، فأبو بكرٍ صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو حسنةٌ من حسناته صلى الله عليه وسلم ؛ فلم يكن إسلامه إسلام رجلٍ، بل كان إسلامه إسلام أمَّةٍ، فهو في قريشٍ - كما ذكر ابن إسحاق - في موقع العين منها:

ـ كان رجلاً مَأْلَفاً لقومه، محبباً، سهلاً.

ـ وكان أنسب قريش لقريشٍ، وأعلم قريشٍ بها، وبما كان فيها من خيرٍ وشرٍّ.

ـ وكان رجلاً تاجراً، ذا خلقٍ، ومعروفٍ.

ـ وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير واحدٍ من الأمر؛ لعلمه، وتجارته، وحسن مجالسته.

لقد كان أبو بكر كنزاً من الكنوز ادَّخره الله تعالى لنبيِّه صلى الله عليه وسلم ، وكان من أحبِّ قريشٍ لقريشٍ، فذلك الخُلُق السَّمح الَّذي وهبه الله تعالى إيَّاه جعله من الموطَّئين أكنافاً، من الذين يألفون، ويؤلفون، والخُلُق السَّمح وحدَه عنصرٌ كاف لألفة القوم، وهو الَّذي قال فيه صلى الله عليه وسلم : «أَرْحمُ أمَّتي بأمَّتي أبو بكرٍ» [أحمد (3/184 - 281) والترمذي (3790 و3791) وابن ماجه (154)] وعِلْمُ الأنساب عند العرب وعلم التَّاريخ هما أهمُّ العلوم عندهم، ولدى أبي بكرٍ الصِّدِّيق رضي الله عنه النَّصيب الأوفر منهما، وقريشٌ تعترف للصِّدِّيق بأنَّه أعلمها بأنسابها، وأعلمها بتاريخها، وما فيه من خيرٍ وشرٍّ، فالطبقة المثقَّفة ترتاد مجلس أبي بكر لتنهل منه علماً لا تجده عند غيره غزارةً، ووفرةً، وسعةً، ومن أجل هذا كان الشَّباب النَّابهون، والفتيان الأذكياء يرتادون مجلسه دائماً، إنَّهم الصَّفوة الفكريَّة المثقَّفة الَّتي تودُّ أن تلقى عنده هذه العلوم، وهذا جانبٌ آخر من جوانب عظمته. وطبقة رجال الأعمال، ورجال المال في مكَّة، هي كذلك من روَّاد مجلس الصِّدِّيق، فهو إن لم يكن التَّاجر الأوَّل في مكَّة، فهو من أشهر تجَّارها، فأرباب المصالح هم كذلك قُصَّاده. ولطيبته، وحسن خلقه تلقى عوامَّ النَّاس يرتادون بيته، فهو المضياف الدَّمث الخُلُق؛ الَّذي يفرح بضيوفه، ويأنس بهم، فكلُّ طبقات المجتمع المكيِّ تجد حظَّها عند الصِّدِّيق، رضوان الله عليه كان رصيده الأدبيُّ، والعلميُّ، والاجتماعيُّ في المجتمع المكيِّ عظيماً، ولذلك عندما تحرَّك في دعوته للإسلام استجاب له صفوةٌ من خيرة الخلق، وهم:

ـ عثمان بن عفَّان رضي الله عنه، في الرَّابعة والثلاثين من عمره.

ـ وعبد الرَّحمن بن عوف رضي الله عنه، في الثَّلاثين من عمره.

ـ وسعد بن أبي وقَّاص رضي الله عنه، وكان في السَّابعة عشرة من عمره.

ـ والزُّبير بن العوَّام رضي الله عنه، وكان في الثانية عشرة من عمره.

ـ وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنه، وكان في الثالثة عشرة من عمره.

كان هؤلاء الأبطال الخمسة أوَّل ثمرةٍ من ثمار الصِّدِّيق أبي بكرٍ رضي الله عنه، دعاهم إلى الإسلام، فاستجابوا، وجاء بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرادى، فأسلموا بين يديه، فكانوا الدِّعامات الأولى؛ الَّتي قام عليها صرح الدَّعوة، وكانوا العدَّة الأولى في تقوية جانب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبهم أعزَّه الله وأيَّده، وتتابع الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، رجالاً، ونساءً، وكان كلٌّ من هؤلاء الطلائع داعيةً إلى الإسلام، وأقبل معهم رعيل السَّابقين، الواحد، والاثنان، والجماعة القليلة، فكانوا على قلَّة عددهم كتيبة الدَّعوة، وحصن الرِّسالة، لم يسبقهم سابقٌ، ولا يلحق بهم لاحقٌ في تاريخ الإسلام.

إنَّ تحرُّك أبي بكر رضي الله عنه في الدَّعوة إلى الله تعالى يوضِّح صورةً من صور الإيمان بهذا الدِّين، والاستجابة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم ؛ صورة المؤمن الَّذي لا يقرُّ له قرارٌ، ولا يهدأ له بالٌ، حتَّى يحقِّق في دنيا النَّاس ما آمن به، دون أن تكون انطلاقته دفعةً عاطفيَّةً مؤقَّتةً سرعان ما تخمد، وتذبل، وتزول، وقد بقي نشاط أبي بكرٍ، وحماسه إلى أن توفَّاه الله - جلَّ وعلا - لم يفتر، أو يضعف، أو يملَّ، أو يعجز.

ونلاحظ: أنَّ أصحاب الجاه لهم أثرٌ كبيرٌ في كسب أنصارٍ للدَّعوة؛ ولهذا كان أثر أبي بكرٍ رضي الله عنه في الإسلام أكثرَ من غيره.بعد أن كانت صحبة الصِّدِّيق لرسول الله صلى الله عليه وسلم مبنيةً على مجرَّد الاستئناس النفسيِّ؛ والخلقيِّ؛ صارت الأنسة بالإيمان بالله وحدَه، وبالمؤازرة في الشَّدائد، واتَّخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكانة أبي بكر، وأُنْسِ النَّاس به، ومكانته عندهم قوةً لدعوة الحقِّ فوق ما كان له صلى الله عليه وسلم من قوَّة نفسٍ، ومكانةٍ عند الله، وعند النَّاس.

ومضت الدَّعوة سرِّيَّةً، وفرديَّةً على الاصطفاء، والاختيار للعناصر؛ الَّتي تصلح أن تتكوَّن منها الجماعة المؤمنة، الَّتي ستسعى لإقامة دولة الإسلام، ودعوة الخلق إلى دين ربِّ العباد، والَّتي ستقيم حضارةً ربّانيَّةً ليس لها مثيلٌ.

 

مراجع الحلقة:

- السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث، علي محمد محمد الصلابي، الطبعة الأولى، دار ابن كثير، 2004، ص 113-116.

- السِّيرة النَّبويَّة، لابن هشام (1/371).

- التَّربية القياديَّة لمنير الغضبان، دار الوفاء - المنصورة، الطَّبعة الأولى، 1418 هـ 1998 م، (1/115).

- محمَّد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لعرجون (1/533).

- الوحي وتبليغ الرِّسالة، يحيى اليحيى ، ص 62.

- خاتم النَّبيين، لأبي زهرة ، ص 398.


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022