من صفات سليمان (عليه السلام) القيادية (3)
مختارات من كتاب الأنبياء الملوك (عليهم السلام)
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة (87)
العدل وقبول العذر:
صور القرآن الكريم ما كان عليه سليمان (عليه السلام) من يقظة ودراية بأفراد رعيّته أبدع تصوير، وأنّ سليمان (عليه السلام) كان بجانب تعهده لشؤون رعيته يمثل الحاكم الحازم العادل الذي يحاسب المهمل، ويتوعد المقصر، ويعاقب من يستحق العقاب، وفي نفس الوقت يقبل عذر المعتذر متى اعتذر عذراً مشروعاً ومقنعاً. لذا عندما تفقد الهدهد فلم يجده قال: ﴿لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾ [النمل: 21].
- ﴿أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾؛ أيّ: حجة واضحة على تخلّفه. وهذا من كمال ورعه وإنصافه: أنه لم يقسم على مجرد عقوبته بالعذاب أو القتل؛ لأنّ ذلك لا يكون إلا من ذنب، وغيبته تحتمل لعذر واضح، ولذلك استثناه لعدله وإنصافه، واتضح عدله في حكمه في صاحب الزرع والغنم ومع النملة. وصفة العدل بارزة وجلية وواضحة وجاذبة في شخصية سليمان (عليه السلام).
الهيبة والوقار:
استمد سليمان (عليه السلام) هيبته ووقاره من قربه وحسن صلته بالله رب العالمين، فقذف الله مهابته ووقاره على جنوده والمجتمع بأكمله، وكذلك استمد قوته وهيبته من احترامه لجنوده له، ومن احترامه للقيم والمبادئ التي يحملها في صدره ويمارسها واقعياً، فأساس الهيبة كانت من حسن طاعته لله وشكره الدائم له، ومن قوة تطبيقه للمبادئ والقيم الإسلاميّة القياديّة في قيادة ملكه. قال تعالى في وصف حال الهدهد عندما تفقده سليمان ﴿فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ﴾ [النمل: 22]؛ مكوث الهدهد مدة يسيرة ومكان غير بعيد إنما كان مهابة من سيدنا سليمان (عليه السلام)، لأنه يعلم ما في عاقبة غيابه إن بعدت مدنه أو بعدت مسافته، ذلك أن وراءه ملكاً مهاباً ظهرت هيبته على رعيته وسلطان ملكه الممتد.
التثبت من الأخبار:
فمن صفات سليمان (عليه السلام) التّثبت والتبيّن في الأحداث والوقائع القائمة والتأنّي والتروّي في تصديق الأقوال وتكذيبها، فهو يتحرّى، ويستخدم طرقه وأساليبه في تصديق الوقائع أو نفيها ويظهر ذلك جلياً في قصة سليمان مع الهدهد، فهذا الذي حكاه الهدهد، أمر ليس بالسهل ولا باليسير. ثم إن الهدهد لا يجرؤ على اختلاق هذه القصة الطويلة، وهو يعلم تمكن سليمان من الرعية ومقدرته على التأكد من صحة الأخبار، ومع ذلك لم يبادر (عليه السلام) إلى التصديق، كما أنه لم يتعجل التكذيب، بل قال ﴿سَنَنْظُرُ﴾ وهو من النظر أو التأمل والتحري.
وقوله تعالى: ﴿أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ [النمل: 27] يعني أصدقتَ في خبرك أم كذبتَ لتتخلص من الوعيد.
حسن التصرف بذكاء:
تميز سليمان (عليه السلام) بحسن التصرف والذكاء والفطنة، وحسن اللباقة، والتصرف في قيادة مملكته على المستوى الداخلي والخارجي، ومن المواقف الدالة على ذلك:
أ- اختيار الصادق وتعزيز الثقة في الجنود:
قال تعالى: ﴿اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ﴾ [النمل: 28]؛ ففي الآية دلالة واضحة على حسن تصرف سليمان (عليه السلام)، وعلى ذكائه واختباره في صدق المرسل وآلية الإرسال وأثر ذلك على إعطاء الهدهد الثقة والعزم والقوة في تبليغ الرسالة والدعوة إلى الإسلام.
ب- معرفة مواطن القوة ومواطن الضعف واستثمارها:
عندما نقل الهدهد فحوى خطاب ملكة سبأ إلى سليمان وهو قولها: ﴿قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾ [النمل: 34] ، وما حدث من نقاشات وحوارات، عَلِم سليمان (عليه السلام) ذكاء ملكة سبأ، وهو قوة في مواطن القوة لديها، كذلك عرف (عليه السلام) بذكائه وشدة تيقظه للخطاب موطن الضعف لديها، وهو خوفها من الذُّل والصغار من اجتياح مملكتها جراء الحروب والمعارك ؛ فرد عليها بنقطة ضعفها للرسول الذي أرسلته (ملكة سبأ): ﴿ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ [النمل: 37].
وهذا ما يُسميه علماء الإدارة والقيادة -في حسن قيادة المؤسسات والتخطيط الاستراتيجي لها- معرفة مواطن القوة عند العدو، ومكامن الضعف لديه. حتى ندرك أهمية المعرفة المتكاملة عن العدو، ويكون ذلك أدعى لهزيمته والانتصار عليه، وقيادته للأهداف المرجوة.
ج- اختبار ذكاء وعقل ملكة سبأ:
قال تعالى: ﴿قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ﴾ [النمل: 41].
يعني أنه غيّر معالمه الظاهرة وقدمه إليها، فكان فيها ثبات وعقل ودهاء وحزم، فلم تُقدم على أنه هو، لبعد مسافته عنها، ولا أنه غيره؛ لما رأت من آثاره وصفاته. فقالت: ﴿كَأَنَّهُ هُوَ﴾ أي: يشبهه وهذا في غاية الذكاء والحزم.
وهذه الآية تدل على ذكاء سليمان (عليه السلام)، وحسن اختباره لذكاء وعقل ملكة سبأ، واستطاع -مع توفيق الله تعالى، واستخدام وسائل الدعوة النافعة المعنوية المادية- أن ينجح في إنقاذ أمة من النار، وصارت المملكتان مملكة واحدة يعلوها نور الإيمان وترفرف عليها راية الإسلام.
سعة الصدر وحسن الاستماع:
أنصت النبي سليمان (عليه السلام) إلى أعذار المعتذر وحجة المتخلف، فهو (عليه السلام) أنصت لاسترسال الهدهد حتى انتهى من قوله، رغم أن فيه نوع معاتبة لسليمان، وفيه نسبة عدم الإحاطة إليه؛ قال تعالى: ﴿فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)﴾ [النمل: 22 - 26].
كل هذا وسليمان لا يقاطعه، ولا يكذبه، ولا يعنفه، حتى ينتهي من سرد الحجة التي كانت مفاجأة ضخمة لسليمان (عليه السلام).
مراجع الحلقة:
- الأنبياء الملوك، علي محمد محمد الصلابي، الطبعة الأولى، دار ابن كثير، 2023، ص 411-417.
- تفسير القرطبي (13/170).
- الحكم والتَّحاكم في خطاب الوحي، لعبد العزيز مصطفى كامل، دار طيبة، ط1، 1415ه - 1995م، (2/495-601).
- القيم التربوية في قصة نبي الله سليمان، سمر محمد، ص76.
- تفسير الرازي (24/193).
- تفسير ابن كثير (3/349).
- السمات القيادية المستنبطة من قصة سليمان (عليه السلام)، ص748.
- تفسير ابن كثير (3/352).
لمزيد من الاطلاع ومراجعة المصادر للمقال انظر:
كتاب الأنبياء الملوك في الموقع الرسمي للشيخ الدكتور علي محمد الصلابي: