الحكم العراقي لبني إسرائيل
مختارات من كتاب الأنبياء الملوك (عليهم السلام)
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة (105)
في عام 740ق.م، جاء الآشوريون من العراق؛ فاحتلوا فلسطين، وأخذ اليهود يدفعون الجزية للآشوريين وأنشأوا فيها مملكة خضع فيها اليهود لحكم هؤلاء، ولكن مملكة الآشوريين لم تدم سوى ثماني سنوات، وانتهى حكمهم بعد أن هاجمهم من داخل العراق أقوام يسمون (البابليون) أو الكلدانيون، قاموا بهجوم عليهم من داخل العراق، وسيطروا على أرض العراق كاملة، واحتلوا عاصمة الآشوريين (نينوى)، وبطبيعة الحال امتدت سيطرتهم حتى احتلوا ممتلكات الآشوريين ومن ضمنها فلسطين.
أسقط الإمبراطور "بختنصّر" مملكة يهوذا، وساق أهلها إلى بابل، وهناك عاشوا قريباً من خمسين سنة في لوعة وأسى تحت حكم البابليين الذين أتاحوا لهم أن ينشطوا في الأعمال والتجارات وتثمير الأموال.
كانت هذه الحقبة التاريخية لليهود تعرف باسم السبي البابلي، وهي مرحلة خطيرة في تاريخ اليهود، لأنه شكّل مرحلة فاصلة بين مرحلتين في ذلك التاريخ خاصة في ناحية العقيدة، فالديانة اليهودية قبل السبي شيء مختلف ومغاير عنه بعد السبي، فخلال السبي صيغت ودونت كلّ ملامح تاريخهم الذي تلا السبي حتى يومنا هذا.
فقد ساهم السبي البابلي في صنع الأسفار الجديدة لليهود، ويظهر تأثرهم بالثقافات وحضارات الشعوب الأخرى ؛فالسبي البابلي نقطة بداية لتاريخ جديد لليهود، وكذلك صياغة الأسفار الأساسية الخاصة بحقبة السبي التي منها (سفر عزرا) ، وهو من أخطر وأهمّ الأسفار التي تناولت المشروعَ الجديدَ، فقد وضعوا ثالوثهم المتمثل في ( يهوه -الشعب المختار- الأرض الموعودة)، وهذا الثالوث يُقابله (الوثنية -العنصرية- الاستعمار والهمجية)، والأسفار التي صيغت في تلك الحقبة سواء عزرا أو نحميا أو غيرها، ولم يعودوا إلى فلسطين، وتفرقوا في العراق وغيرها، والذين عادوا اندمجوا، واختلطوا بالشعوب الأخرى في أرض كنعان، وهذا كان بمثابة الفشل لفكرة الثالوث.
أما عن الثالوث، فما زال القوم يحاولون تحقيقهن ومشروعهم لم يتغير حتى يومنا هذا، فهم يرون كلّ شعوب الكرة الأرضية وثنيين، ويرون في دينهم الدينَ الأوحد كما في الجانب الثاني من الثالوث -العنصرية- أي نقاء القوم في العرق والجنس، وأن باقي سكان الكرة الأرضية هم (الغويم) الذين ليسوا أكثر من خدم لليهود، والجانب الثالث من الثالوث -وهو أخطر جانب– (الهيمنة)، والتي ترتكز على احتلال واستعمار الأرض من النيل إلى الفرات، ويكون القلب فلسطين، ثم الهيمنة السياسة والاقتصادية على العالم.
إن القرآن الكريم لم يُشر صراحة إلى السبي البابلي إلا أنه تضمن ما يشير إلى التقطيع والتمزيق والشتات بالنسبة لليهود: ﴿وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا﴾ [الأعراف: 168].
ومن الثابت أن القوم في السبي، لم ينسوا أنشطتهم التجارية والزراعية والسياسية، فكان للكثير منهم مزارع ومناجم وثروات كبيرة، كما كان لهم أصابع في سياسة الدولة البابلية. ومما ساعد في ذلك طبيعية معاملة البابليين لهم، وهو الذي ساعد على المحافظة على كيانهم الاجتماعي، وتمسّكهم من أجل مصالحهم الاقتصادية. وأمّا على صعيد العبادة والطقوس الدينية فكان القوم، قد ضحوا بالكثير منها، وراودتهم فكرة جديدة وهي: إنشاء معبد في هذه الأرض الدنسة لتوحيد كلمتهم؛ ومن هنا نشأ (الكنيس)، وتطورت الطقوس فيه من تراتيل فيّاضة، وأدعية وتطبيق لمبدأ التنبؤ على الحياة اليومية، وهكذا أصبحوا نواة فعلية للمذهب الإسرائيلي الموضوع. وهذه من أهم نقاط التحول في الديانة اليهودية، بل هي نقطة فارقة في تاريخ اليهود الديني، حيث إنّ التوراة أو جزءاً كبيراً منها أخذت صورتها التي نراها عليها اليوم في هذه المرحلة.
مراجع الحلقة:
- الأنبياء الملوك، علي محمد محمد الصلابي، الطبعة الأولى، دار ابن كثير، 2023، ص 492-496.
- فلسطين التاريخ المصور، ص46.
- كلام في اليهود، محمد علي دولة، ص54.
- بنو إسرائيل منذ وفاة سليمان، عبد الرحمن الخطيب، ص 154-158-166-170-177.
لمزيد من الاطلاع ومراجعة المصادر للمقال انظر:
كتاب الأنبياء الملوك في الموقع الرسمي للشيخ الدكتور علي محمد الصلابي:
https://www.alsalabi.com/salabibooksOnePage/689