التمكين والشهود الحضاري الإسلامي (6)
"اهتمام النَّبيِّ ﷺ بالبناء الداخلي للصحابة الكرام"
د. علي محمد الصلابي
إن النَّاظر في الفترة المكِّيَّة - والَّتي كانت ثلاثة عشر عاماً، كلُّها تربية وإعداد وغرس لمفاهيم (لا إله إلا الله) - يدرك ما لأهمِّيَّة هذه العقيدة من شأنٍ في عدم الاستعجال واستباق الزَّمن، فالعقيدة بحاجةٍ إلى غرسٍ يُتَعَهَّد بالرِّعاية والعناية والمداومة؛ بحيث لا يكون للعجلة والفوضى فيها نصيبٌ، وما أجدرَ الدُّعاةَ إلى الله أن يقفوا أمام تربية المصطفى صلى الله عليه وسلم لأصحابه على هذه العقيدة وقفةً طويلةً، فيأخذوا منها العبرة والأسوة؛ لأنَّه لا يقف في وجه الجاهليَّة - أيّاً كانت قديمةً أو حديثةً أو مستقبليةً - إلا رجالٌ اختلطت قلوبهم ببشاشة العقيدة الرَّبَّانيَّة، وتعَمَّقت جذور شجرة التَّوحيد في نفوسهم (القحطاني، د.ت، ص 171).
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفترة المكيّة قد أمر أصحابه بضبط النَّفس والتَّحلِّي بالصَّبر، وكان يربِّي أصحابه على عينه، ويوجِّههم نحو توثيق الصِّلة بالله والتَّقرُّب إليه بالعبادة، وقد نزل قوله تعالى في المرحلة المكِّيَّة: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقرآن تَرْتِيلاً﴾ [المزمل: 1 - 4]، فقد أرشدت سورة المزمِّل الصَّحابة إلى حاجة الدُّعاة إلى قيام الليل والدَّوام على الذِّكر، والتَّوكُّل على الله في جميع الأمور، وضرورة الصَّبر، ومع الصَّبر الهجر الجميل، والاستغفار بعد الأعمال الصَّالحة.
كانت الآيات الأولى من سورة المزَّمِّل، تأمر النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أن يخصِّص شطراً من اللَّيل للصَّلاة، وقد خيَّره الله تعالى أن يقوم للصَّلاة نصف اللَّيل أو يزيد عليه أو ينقص منه، فقام النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابُه معه قريباً من عامٍ، حتَّى ورمت أقدامهم، فنزل التَّخفيف عنهم بعد أن علم الله منهم اجتهادهم في طلب رضاه، وتشميرهم لتنفيذ أمره ومبتغاه، فرحمهم ربُّهم فخفَّف عنهم، فقال: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقرآن عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخرونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخرونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾[المزمل: 20].
كان امتحانهم في الفُرُشِ ومقاومة النَّوم ومألوفات النَّفس؛ لتربيتهم على المجاهدة، وتحريرهم من الخضوع لأهواء النفس تمهيداً لحمل زمام القيادة، والتَّوجيه في عالمهم؛ إذ لابدَّ من إعدادٍ روحيٍّ عالٍ لهم، وقد اختارهم الله لحمل رسالته، وائتمنهم على دعوته، واتَّخذ منهم شهداء على النَّاس، فالعشرات من المؤمنين في هذه المرحلة التَّاريخية، كانت أمامهم المهمات العظيمة في دعوة النَّاس إلى التَّوحيد، وتخليصهم من الشِّرك، وهي مهمَّةٌ عظيمةٌ يقدر على تنفيذها أولئك الذين ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا﴾.
وقد وصف الله قيام اللَّيل والصَّلاة فيه، وقراءة القرآن ترتيلاً - أي: مع البيان والتُّؤدة - بقوله: ﴿إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءًا وَأَقْوَمُ قِيلاً﴾؛ فهو أثبت أثراً في النَّفس مع اللَّيل، وهدأة الخلق، حيث تخلو من شواغلها وتفرغ للذِّكر والمناجاة بعيداً عن علائق الدُّنيا وشواغل النَّهار، وبذلك يتحقَّق الاستعداد اللازم لتلقِّي الوحي الإلهيِّ: ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً﴾ والقول الثَّقيل هو القرآن، وقد ظهر أثر هذا الإعداد الدَّقيق للمسلمين الأوائل، في قدرتهم على تحمُّل أعباء الجهاد وإنشاء الدَّولة بالمدينة، وفي إخلاصهم العميق للإسلام، وتضحيتهم من أجل إقامته في دنيا النَّاس ونشره بين العالمين (العمري، 1992، ص 1/160).
لقد كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مهتمّاً بجبهته الدَّاخلية، وحريصاً على تعبئة أصحابه بالعقيدة القويَّة التي لا تتزعزع ولا تلين، وكان هذا مبعثاً لروح معنويَّةٍ مرتفعةٍ وقويَّةٍ للدِّفاع وتحمُّل العذاب والأذى في سبيل الدَّعوة، وقد أصبحت الجماعة الأولى وَحْدَةً متماسكةً، لا تؤثِّر فيها حملات العدوِّ النَّفسيَّة، ولا تجد لها مكاناً في هذه الجماعة عن طريق المؤاخاة بين المسلمين، فقد أصبحت رابطة الأخوَّة في الله تزيد على رابطة الدَّم والنَّسب وتفضلها في الدِّين الإسلاميِّ.
وقد تعايشَ الرَّعيل الأوَّل بمعاني الأخوَّة الرَّفيعـة القائمة على الحبِّ والمودَّة والإيثـار، وكانت أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم تفعل فعلها في نفوس الصحابة، فكان صلى الله عليه وسلم يحثُّ المسلمين على الأخوَّة والتَّرابط، والتَّعاون وتفريج الكرب، لا لشيءٍ إلا لرضا الله سبحانه، لا نظير خدمةٍ مقابلةٍ أو نحو ذلك، وإنَّما يفعل المسلم ذلك ابتغاء وجه الله وحده، وهذه المبادىء هي سرُّ استمرار الأخوَّة الإسلاميَّة، وتماسك المجتمع الإسلاميِّ (كحيل، 1986، ص 128)، وبيَّن لهم الرَّسول صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسيِّ؛ الذي يرويه عن ربِّه سبحانه وتعالى: «المتحابون في جلالي لهم منابر من نور، يغبطهم النَّبيُّون والشُّهداء».
وهكذا أصبحت الأخوَّة الصَّادقة من مقاييس الأعمال، وأصبحت المحبَّة في الله من أفضل الأعمال ولها أفضل الدَّرجات عند الله، وحذَّر الرَّسول صلى الله عليه وسلم المسلمين من أن تهون عليهم هذه الرَّابطة، ووضع لهم أساس الحفاظ عليها، فقال لهم: «لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً، ولا يحلُّ لمسلمٍ أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليالٍ».
واستعان النَّبيُّ (ﷺ) في ربط المجتمع الدَّاخليِّ وتوحيد جبهته؛ لتكون قويَّة في مواجهة الحرب النَّفسيَّة الموجَّهة ضدَّها، بالمساواة بين أفراد هذه الجبهة وإعطائهم الحرِّيَّة، فهم لا يدخلون إلى هذا المجتمع إلا بالحرِّيَّة، ثمَّ كانت لهم في داخله حرِّيَّة الرأي وحرِّيَّة التعبير والمشـورة، فقد أتى محمَّدٌ (ﷺ) بمبدأ المساواة بين جميع النَّاس، الحاكم والمحكوم، والغنيُّ والفقير، وبين جميع الطَّبقات، وقد كان لهذا المبدأ العظيم أكبر الأثر في نفوس أتباع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وجعلهم يتحابُّون ويتماسكون، ويفتدونه بأرواحهم، ويدافعون عنه بكلِّ ما أوتوا من قوَّةٍ وعزيمةٍ؛ فهو صلى الله عليه وسلم لم يقرَّ تفاوتاً بين البشر بسبب مولدٍ أو أصلٍ، أو حسبٍ أو نسبٍ، أو وراثةٍ أو لونٍ، والاختلافُ في الأنساب والأجناس والألوان لا يؤدِّي إلى اختلافٍ في الحقوق والواجبات أو العبادات؛ فالكلُّ أمام الله سواسية.
وكان من أكبر أساليب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في ربطه المجتمع الإسلاميَّ وتوحيده وتقويته للجبهة الدَّاخلية، وجعلها قويَّة البنيان ومتماسكة، ما دعا إليه صلى الله عليه وسلم من التَّكافل المادِّيِّ والمعنويِّ بين المسلمين؛ ليعين منهم القويُّ الضَّعيف، وليعطف الغنيُّ على الفقير، ولم يترك صلى الله عليه وسلم ثغرةً واحدةً تنفذ منها الحرب النفسيَّة إلى هذا الصَّفِّ الإسلاميِّ الأوَّل، فأصبحت الجماعة الأولى صخرةً عظيمةً تحطَّمت عليها كلُّ الجهود والخطط؛ الَّتي بذلها زعماء مكَّة للقضاء على الدَّعوة (كحيل، 1986، ص 125 -140).
فعلى المسلمين الاقتداء بهدي النبي صلى الله عليه وسلم في توحيد صفوفهم وتعزيز أخوتهم الدينية ورابطتهم الإيمانية، وجعلها الرابطة الأسمى والأولى بينهم، والتخلي في مقابل ذلك عن جميع العصبيات والانتماءات الدنيوية والجاهلية، فذلك أحرى أن تتوحد كلمتهم، ويشتد عودهم ويهابُهم عدوهم ! وينبغي أيضاً عليهم الإكثار من الذكر والصلاة والتقرب إلى الله تعالى بمختلف العبادات والطاعات، ليستعينوا بها على فتن الدنيا فيصبروا أمام المحن والشهوات وشتى صنوف الابتلاء، فمن كان مع الله تعالى، كان الله معه، ومن ثبّته الله وهداه فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
المراجع:
1. كحيل، عبد الوهاب، (1986) الحرب النَّفسيَّة ضدَّ الإسلام في عهد الرَّسول(ﷺ) في مكَّة، عالم الكتب - بيروت، الطَّبعة الأولى، 1406هـ 1986م.
2. العمري، أكرم، (1992)، السِّيرة النَّبويَّة الصَّحيحة، الطَّبعة الأولى 1412هـ 1992م مكتبة المعارف والحِكَم بالمدينة المنوَّرة.
3. الصلابي، علي محمد، السيرة النبوية، ط11، دار ابن كثير، 2021، ص 232-237.
4. القحطاني، محمد بن سعيد، (د.ت)، الولاء والبراء في الإسلام.