التمكين والشهود الحضاري الإسلامي (35)
"تطوير السِّياسة الماليَّة للدَّولة الإسلاميَّة بعد غزوة بني النضير"
بقلم: د. علي محمد الصَّلابي
بيَّن - سبحانه وتعالى - حكم الأموال الَّتي أخذها المسلمون من بني النَّضير بعد أن تمَّ إجلاؤهم، فقال تعالى: ﴿وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الحشر: 6].
وبيَّن - سبحانه وتعالى -: أن الأموال الَّتي عادت إلى المسلمين من بني النَّضير، قد تفضَّل بها عليهم بدون قتالٍ شديدٍ، وذلك لأنَّ المسلمين مَشَوْا إلى أعدائهم، ولم يركبوا خيلاً ولا إبلاً، وافتتحها (ﷺ) صلحاً، وأجلاهم وأخذ أموالهم، ووضعها حيث أمره الله؛ فقد «كانت أموال بني النَّضير ممَّا أفاء الله على رسوله ممَّا لم يُوجف عليه المسلمون بخيلٍ ولا ركابٍ، فكانت للنَّبيِّ (ﷺ) خاصَّةً، فكان ينفق على أهله نفقةَ سنةٍ، وما بقي يجعله في الكُرَاعِ والسِّلاح عُدَّةً في سبيلِ الله» [البخاري (4033)، ومسلم (1757)].
ثمَّ بيَّن المولى - عزَّ وجل - أحكام الفيء في قرى الكفار عامَّة، فقال الله تعالى: ﴿مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ ۚ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾[ الحشر: 7].
وكان فيء بني النَّضير خالصاً لرسول الله (ﷺ)، ولهذا تصرَّف فيه - أي: الفيء - كما يشاء، فردَّه على المسلمين في وجوه البرِّ، والمصالح الَّتي ذكرها الله - عزَّ وجلَّ - في هذه الآيات.
ولـمَّا غنم (ﷺ) أموال بني النَّضير؛ دعا ثابت بن قيس، فقال: «ادعُ لي قومك»، قال ثابت: الخزرج؟ فقال (ﷺ) : «الأنصارُ كلُّها» فدعا له الأوس والخزرج، فحمد الله، وأثنى عليه بما هو أهلُه، ثمَّ ذكر الأنصار، وما صنعوا بالمهاجرين، وإنزالهم إيَّاهم في منازلهم وأموالهم، وأثرتهم على أنفسهم، ثمَّ قال: «إن أحببتُم قسمتُ بينكم وبين المهاجرين ما أفاء الله عليَّ من بني النَّضير - وكان المهاجرون على ما هم عليه من السُّكنى في منازلكم وأموالكم - وإن أحببتم أعطيتُهم، وخرجوا من دوركم». [الحاكم في الإكليل كما في فتح الباري (7/422 - 423)]. فقال سعد بن عبادة، وسعد بن معاذ: يا رسولَ الله! بل تقسم بين المهاجرين، ويكونون في دورنا، كما كانوا، وقالت الأنصار: رضينا وسلَّمنا يا رسول الله!
وقسم ما أفاء الله، وأعطى المهاجرين ولم يعطِ أحداً من الأنصار شيئاً، غير أبي دُجَانة، وسَهْل بن حُنَيفُ لحاجتهما [ابن هشام (3/201/202)] (شرح الزرقاني على المواهب - 2/86)، ومع أنَّه (ﷺ) يعلم: أنَّ الفيء كان خاصَّاً له، إلا أنَّه جمع الأنصار، وسألهم عن قسمة الأموال لتطييب نفوسهم، وهذا من الهدي النَّبويِّ الكريم في سياسة الأمور. وكانت الغايةُ من هذا التَّوزيع، تخفيفَ العبء عن الأنصار، وهكذا انتقل المهاجرون إلى دُورِ بني النَّضير، وأُعيدت دُورُ الأنصار إلى أصحابها، واستغنى بعض المهاجرين ممَّا يمكن أن يقال فيه: إنَّ الأزمة قد بدأت بالانفراج (تفسير القرطبيِّ للآية "9" من سورة الحشر ، وفتح الباري "شرح حديث رقم 4030"، وسيرة ابن هشام "أمر إجلاء بني النَّضير"، والرَّحيق المختوم "غزوة بني النَّضير").
إنَّ قسمة أموال بني النَّضير، أوجد تطوُّراً كبيراً في السِّياسة الماليَّة للدَّولة الإسلاميَّة؛ فقد كانت الغنائم الحربيَّة قبل هذه الغزوة، تقسم بين المحاربين بعد أن تأخذ الدَّولةُ الإسلاميَّةُ خُمْسَها؛ لتصرف في مصارف معينةٍ حدَّدها القرآن الكريم، وبعد غزوة بني النَّضير، أصبحت هناك سياسةٌ ماليَّةٌ جديدةٌ فيما يتعلَّق بالغنائم، وخلاصتها: أنَّ الغنائم الحربيَّة أصبحت - حسب السِّياسة الجديدة - على نوعين:
1 - غنائم استولى عليها المجاهدون بحدِّ سيوفهم، وهذه الغنائم تقسم بين المجاهدين بعد أن تأخذ الدَّولة خُمْسَها؛ لتصرفه في مصارفه الخاصَّة.
2 - غنائم يوقعها الله بأيدي المجاهدين دون قتالٍ؛ وهذا النَّوع يختصُّ رئيس الدَّولة الإسلاميَّة، بالتَّصرُّف فيه حسب ما يرى المصلحة في ذلك، يعالج به الأوضاع الاقتصاديَّة في البلاد؛ فينقذ الفقراء من فقرهم، أو يشتري به سلاحاً، أو يبني به مدينةً، أو يصلح به طرقاً... إلخ، وهذا يعني: أنَّه قد أصبح لرئيس الدَّولة الإسلاميَّة ميزانيَّة خاصَّةً يتصرَّف فيها تصرُّفاً سريعاً حسب مقتضيات المصلحة (قلعجي، 1996، ص 169).
وقد ذكر - سبحانه وتعالى - في الآيتين الَّلتين أوضحتا سياسته - عليه الصَّلاة والسلام - في تقسيم فيء بني النَّضير إذا اختصَّ به أناساً دون آخرين؛ العلَّةَ في ذلك في قوله تعالى: ﴿كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ﴾ [الحشر: 7] أي: لكي لا يكونَ تداولُ المالِ محصوراً فيما بين طبقة الأغنياء منكم فقط، والتَّعليلُ لهذه الغاية يؤذِن بأنَّ سياسة الشَّريعة الإسلاميَّة في شؤون المال قائمةٌ في جملتها على تحقيق هذا المبدأ، وأنَّ كلَّ ما تفيض به كتب الشَّريعة الإسلاميَّة من الأحكام المتعلِّقة بمختلف شؤون الاقتصاد والمال يُبغى من ورائه إقامة مجتمعٍ عادلٍ تتقارب فيه طبقاتُ النَّاس وفئاتهم، ويُقضى فيه على أسباب الثَّغرات الَّتي قد تظهر فيما بينها، والَّتي قد تؤثِّر على سير العدالة وتطبيقها.
ولو طبقت أحكام الشَّريعة الإسلاميَّة وأنظمتها الخاصَّة بشؤون المال من إحياء لشريعة الزَّكاة ومنع للرِّبا، وقـضاءٍ على مختلف مظاهر الاحتكارات؛ لعاش النَّاسُ كلُّهم في بُحْبُوحَةٍ من العيش، قد يتفاوتون في الرِّزق، ولكنَّهم جميعاً مكتفون، وليس فيهم كَلٌّ على آخر - وإن كانوا جميعاً يتعاونون (البوطي، 1991، ص 194)، وبعد بيان العلَّة في توزيع أموال الفيء، عَقَّبَ سبحانه بأمر المسلمين بأن يأخذوا ما أتى به الرَّسول (ﷺ) وأن ينتهوا عمَّا نهاهم عنه، وأنَّ هذا من لوازم الإيمان، وأمرهم بالتَّقوى، فإنَّ عقابه شديدٌ وأليمٌ للعُصاة، قال تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الحشر: 7].
المراجع:
1. البوطي، محمد سعيد، (1991)، فقه السيرة، الطَّبعة الحادية عشرة، 1991 م، دار الفكر، دمشق - سورية.
2. الصلابي، علي محمد، (2021)، السيرة النبوية، ج 2، ط11، دار ابن كثير، 2021، ص 124-127.
3. قلعجي، محمد، (1996)، قراءة سياسية للسِّيرة النَّبوية، دار النفائس، الطَّبعة الأولى 1416 هـ 1996 م، بيروت - لبنان.