الأحد

1446-12-19

|

2025-6-15

مرجعية الحرية في الإسلام

بقلم: د. علي محمد الصلابي

 

الإسلام هو الدين الخاتم، وقد جاء يعرض نفسه على هذا الأساس، فهو قائم على وحي ليس بعده وحي آخر، والنبي صلى الله عليه وسلم هو النبي الخاتم الذي ختمت به الرسالات السماوية، ولذلك فإن ما في الإسلام من تعاليم وأحكام في مختلف مجالات الحياة جاءت معروضة على سبيل الثبات والديمومة، فليس لها من ناقض ينقضها، لا من وحيٍ لأن الوحي قد انقطع، ولا من عقلٍ لأن الوحي أعلى من العقل، وليس للأدنى أن ينقض الأعلى، وأما الاجتهاد العقلي فإنه يتم من خلال منظومة الوحي، وبحسب ما تسمح به وتحدده هذه المنظومة من تفسير لما هو ظنّي، أو استكشاف لما هو غير منصوص عليه وفق المبادئ والقواعد الكلية العامة، وليس بحال من الأحوال ناقضاً لتبريرات الوحي كما يزعم بعضهم (مراجعات في الفكر الإسلامي، د. عبد المجيد النجار، ص169).

وتبعاً لذلك فإن ما جاء متعلقاً بالحرية من التعاليم يندرج هو أيضاً ضمن هذا السياق من الثبات والديمومة، فليس لأحد أن يغير فيه شيئاً، لا من حيث ذاته في أحكامه المندرجة ضمن درجات الحكم الشرعي المعلومة، ولا من حيث منزلته القيميّة المرتبطة بمنزلة الوحي بصفة عامة، ومنزلة الأصول الكلية المؤسسة فيه بصفة خاصة، ولا من حيث الديمومة الزمنية التي تمتد في كل الأحوال والظروف على امتداد الوجود الإنساني دون أن يتطرق إليها الاستثناء أو التعطيل أو الإلغاء، ولا من حيث تعلقها بالإنسان بمقتضى إنسانيته مطلقاً عن عوارض الإنسانية من جنس ولون ودين وغيرها. فالحرية كما جاء بها الإسلام هي من جميع هذه النواحي قيمةٌ كبرى تحتل من سلم المقاصد الدينية الدرجات العليا، وهي قيمة ثابتة تتصف بالديمومة في الزمان والمكان (مراجعات في الفكر الإسلامي، د. عبد المجيد النجار، ص169).

وانطلاقاً من خاصية الشمول التي هي من خاصيات الإسلام الأساسية، فإن التشريع للحرية في تعاليم الوحي جاء مندرجاً ضمن هذه الخاصية، وذلك معناه أن الأوامر والنواهي المتعلقة بهذه القيمة هي أوامر ونواهٍ وردت على سبيل الإلزام الديني، فالمسلم ليس له من خيار في شأنها إلا أن يمتثل لها بالإذعان، إيماناً بها كحقيقة دينية، وسعياً لتنفيذها في واقع السلوك، وهو في ذلك يمارس عبادة الله تعالى بها، فإذا ما قصّر فيها بالإيمان أو السلوك فإنما يكون قد قصّر فيما تعبّده الله به، فينتهي به الأمر إذن إلى ارتكاب الإثم الذي هو قادح من قوادح التدين، وذلك ما يشير إلى المنزلة العليا التي تحتلها قيمة الحرية في الإسلام، فممارستها تديُّن ومفارقتها عصيان، وهي بذلك تتجاوز أن تكون مجرد قيمة عقلية أو إنسانية أو أخلاقية، لتكون مشتملة على كل ذلك وعلى ما هو أعلى من ذلك، متمثلاً فيما تتصف به من صفة دينية تحتل بها في وعي المسلم منزلة أعلى من أي منزلة سواها (الحريات في القرآن الكريم، د. علي الصلابي، ص40).

وإذا كانت أحكام الدين تتوزع إلى ما هو أصول عُرف في الأدب الإسلامي باسم العقيدة، وهو الأساس الذي يتأسَّس عليه الدين، وما هو فروع عُرف باسم الشريعة، وهو المتمثل في الأحكام ذات الصفة العملية ، فإن مبدأ الحرية ولئن جاءت فيه أحكام منظمة للسلوك إلا أنه يضرب بجذوره في أصل المعتقد الإسلامي، وهو ما يجعل الإيمان به يدخل في حساب الإيمان بالدين نفسه، وربما أدى الخلل فيه إلى خلل في الإيمان بما قد ينتهي به إلى الانتقاض، فتكون الحرية إذاً عنصراً عقدياً من صميم أصول الدين، وهو ما يؤكد مكانتها ضمن المبادئ التي جاء بها الإسلام، إذ تكون من أصوله وليست من فروعه، ولعل أول ما يبدو ذلك في عقيدة التوحيد، فجوهر هذه العقيدة هو أن يكون الإنسان مُسلماً نفسه فيما يأتي وما يذر لله تعالى وحده، وهو ما يقتضي أن يكون متحرراً من كل ما سواه (الحريات في القرآن الكريم، د. علي الصلابي، ص40).

فعقيدة الوحدانية تنفي أن يكون المؤمن بها خاضعاً لأي سلطان سوى الأمر الإلهي، فلا يخضع لسلطان داخلي من شهوات النفوس وأهوائها، أو لسلطان خارجي من عادات وتقاليد الآباء، أو سطوة الحكام ورجال الدين، أو أوهام العناصر الطبيعية. فالحرية التي جاء الإسلام يشرعها للناس هي هذه الحرية التي تتضمنها عقيدة التوحيد (الحريات في القرآن الكريم، د. علي الصلابي، ص40).

ومما جاء في سياق ذلك قوله تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]. فهذه الآية تشرع للتحرر من كل ما سوى الله وحده في حكمه، وتجعل الإيمان رهيناً في تحقيقه لهذا التحرر؛ الذي أصبح وجهاً من وجوه توحيد الله تعالى. ومن ذلك أيضاً ما جاء في قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} [الفرقان: 43]. فاتخاذ الهوى إلهاً من دون الله هو ضربٌ من العبودية التي جاء الدين ليحرر الإنسان منها، فإذا لم يتحرر كان ذلك ناقضاً للإيمان بالله فيستحق التشنيع، كالتشنيع على هؤلاء الذين وردت فيهم الآية (مراجعات في الفكر الإسلامي، د. عبد المجيد النجار، ص171).

ومما جاء في ذلك أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: «تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة» (البخاري، كتاب الجهاد، باب الحراسة في الغزو). فهذا الدعاء على من لم يتحرر من عبودية المال إنما هو لما يفضي إليه ذلك من قدح في توحيد الله تعالى، إذ هذه العبودية للمال مناقضة لعقيدة التوحيد. وبهذا كله يتبين أن الحرية في الإسلام شرعت بعداً من أبعاد توحيد الله تعالى الذي هو رأس العقائد، فهي إذاً قيمة عقدية تحتل في منظومة الدين المكان الأرفع من درجاتها.

إن الإيمان قد أنيط في الدين بإرادة حرة يتحمَّل بها الإنسان مسؤولية الاختيار، فأصبح الإيمان بتلك الحرية جزءاً من المعتقد، إذ لا يتم الإيمان الأوفق إلا بها، على قاعدة: "إن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب" (مراجعات في الفكر الإسلامي، د. عبد المجيد النجار، ص171).

وعلى أساس هذه المنزلة العقدية للحرية في المنظومة الإسلامية جاءت الأحكام تشرع للإجراءات العملية التي تحققها في الواقع، وهي أحكام في معظمها تتصف بصفة الوجوب الملزم، فالمسلم ملزم دينيّاً بأن ينفذ تلك الأحكام المتعلقة بالحرية في ذات نفسه إن كانت من باب الحريات الشخصية، وفي السياق الاجتماعي إن كانت من باب الحريات العامة، فإذا ما خالف تلك الأحكام في سلوكه فإنه يكون آثماً بالميزان الديني (الحرية الإعلامية في ضوء الإسلام، د. سعيد بن علي بن ثابت، ص171).

والتشريع العملي للحرية يبتدئ من التشريع لحرية الإنسان من العبودية للبشر، فقد كان النظام الاجتماعي الإنساني بصفة عامة يقوم على الاسترقاق؛ الذي أصبح بمرور الزمن أمراً مسلَّماً به غير مطروح للمراجعة من أجل التفكيك، فلما جاء الإسلام وضع التشريعات التي تكفل تقويض وتقليص مؤسسة العبودية والاسترقاق، والتي تهدف إلى إبطاله على المدى البعيد، وتحرير الإنسان منه بصفة نهائية، وإن يكن ذلك بصفة تدريجية.

فاستخدم في ذلك آلية تعتمد أولاً التضييق في أسباب وقوع الاستعباد بإبطالها جميعاً، إما بصفة قطعية ناجزة كبذل الإنسان نفسه للرق والاسترقاق في الدين وفي الجناية، أو بصفة تدريجية ظرفية كالاسترقاق بالأسر، وتعتمد ثانياً على التوسع في أسباب التحرير والعتق مثل التشريع لكفارة العتق، أو الترغيب فيه ابتغاء المثوبة، أو الإلزام به عقوبة على سوء معاملة المستعبد، وهو ما من شأنه أن ينتهي قريباً إلى التحرر الكامل من عبودية الإنسان لأخيه الإنسان، وقد كان هذا التشريع للحرية سبقاً للإسلام من بين سائر المذاهب والأديان (الحرية الإعلامية في ضوء الإسلام، د. سعيد بن علي بن ثابت، ص171).

المراجع:

  1. الحريات في القرآن الكريم، د. علي محمد الصلابي، ط1، 1434ه – 2013م.
  2. مراجعات في الفكر الإسلامي، د. عبد المجيد النجار، دار الغرب الإسلامي، ط1، 2008م.
  3. الحرية الإعلامية في ضوء الإسلام، د. سعيد بن علي بن ثابت، دار عالم الكتب – الرياض.


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022