من كتاب الوسطية في القرآن الكريم
(العدل عند أهل الكتاب)
الحلقة: الحادية عشر
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
صفر 1442 ه/ أكتوبر 2020
إذا تكلمنا عن العدل عند أهل الكتاب، وبَيَّنَّا ما وصلوا إليه من ظلمٍ، وجور، وجنوح عن الإنصاف والقسط، وهم أهل كتاب أنزل الله عليهم الكتب، وأرسل إليهم الرسل تترى، ومع ذلك حادوا عن الحقِّ، وحرفوا، وظلموا، وطغوا، واستبدوا؛ فكيف بغيرهم من الأمم التي لم تحظ بما حظوا به من توالي الرسالات، وكثرة الأنبياء ؛ ولذلك نكتفي بالعدل عند أهل الكتاب خشية الإطالة.
وسأبيِّن العدل عند اليهود أولاً فيما بينهم، ثم فيما بينهم وبين غيرهم من الناس، ثم عن العدل عند النصارى كذلك فيما بينهم، ثم فيما بينهم وبين الأمم الأخرى.
أولاً: مبدأ العدل عند اليهود:
أ ـ العدل فيما بينهم:
لقد أمرهم أنبياؤهم أن يقوموا بالعدل، والقسط، وأن لا يتظالموا، ولا يظلموا أحداً، وأنزل الله عليهم التوراة فيها هدىً، ونور، وفصَّل لهم فيها الحدود، والأحكام، والقصاص العادل، كما أخبر الله بذلك في القرآن الكريم، حيث يقول تبارك وتعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلاَ تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ * وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُن وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ *}[المائدة: 44 - 45].
وبقي بين أيدي اليهود من أسفار التوراة ـ مع تحريفهم، وتبديلهم لها ـ أثر مما ورد ذكره في القرآن الكريم، وسأورد فيما يلي بعض نصوص أسفار التوراة؛ التي توجب على اليهود الحكم بالعدل، والقسط، وتحذرهم من الظلم، والجور في القضاء، والكيل والوزن. ففي (سفر اللاويين): أنَّ الرب كلم موسى ـ عليه السلام ـ قائلاً: (لا ترتكبوا جوراً في القضاء، ولا تأخذوا بوجه مسكين، ولا تحْترم وجه كبير، بالعدل تحكم لقريبك).
وفيه أيضاً: (وإذا نزل عندكم غريب في أرضكم؛ فلا تظلموه، كالوطني منكم يكون لكم الغريب النازل عندكم، وتحبه كنفسك ؛ لأنكم كنتم غرباء في أرض مصر، أنا الرب إلـهكم، لا ترتكبوا جوراً في القضاء لا في القياس، ولا في الوزن، ولا في الكيل، ميزان حق ووزنات حق وإيفة حق وهين حق تكون لكم، أنا الرب إلهكم الذي أخرجكم من أرض مصر، فتحفظون كل فرائضي، وكل أحكامي، وتعملونها. أنا الرب).
وفيه أيضاً ما يدل على القصاص وأن النفس بالنفس: (وإذا أمات أحدٌ إنساناً؛ فإنه يقتل). (ومن قتل بهيمة يعوض عنها، ومن قتل إنساناً يقتل، حكم واحد يكون لكم، الغريب يكون كالوطني. إني أنا الرب إلهكم).
وفي (سفر الخروج): (من ضرب إنساناً، فمات يقتل قتلاً). فقد دلَّ إذاً القرآن الكريم، وأسفار التوراة التي بقيت بأيديهم على وجوب العدل عليهم، والقصاص الحق عندهم، وتحريم الظلم، والجور، فماذا فعل اليهود؟ لقد تلاعبوا بالنصوص، وبدلوها، وحرفوها، ولم يقوموا فيها بينهم بالعدل، والقسط، وفرقوا بين القوي والضعيف، والحاكم، والمحكوم، والغني، والفقير، والشريف، والوضيع، ولم يعدلوا بين الخلق في إقامة القصاص، والحدود، كما أخبرنا رسول الله (ص) عنهم في حديث المخزومية التي سرقت، فقطع يدها، وغضب ممَّن جاء يشفع فيها، وقام فيهم خطيباً: «أيها الناس إنما ضلَّ من كان قبلكم: أنهم كانوا إذا سرق الشريف؛ تركوه وإذا سرق الضعيف؛ أقاموا عليه الحد..».
ومن الأدلة على هذه المسلك المشين لليهود ما أخرجه أبو داود، وغيره عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: كان قريظة، والنضير، وكان النضير أشرف من قريظة، فكان إذا قتل رجلٌ من قريظة رجلاً من النضير؛ قتل به، وإذا قتل رجلٌ من النضير رجلاً من قريظة فَوُدِيَ بمئة وسق من تمر، فلما بعث النبي (ص) قتل رجلٌ من النضير رجلاً من قريظة، فقالوا: ادفعوه لنا نقتله، فقالوا: بيننا وبينكم النبي (ص) فأتوه، فنزلت على الرسول (ص): { وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ} [المائدة: 42]. والقسط النفس بالنفس، ثم نزلت: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ*}[المائدة:50].
فانظروا كيف مالوا عن حكم الله ـ عز وجل ـ وتلاعبوا بحدوده، فأقاموا الحد، والقصاص على الضعيف فيهم، وصرفوه عن ذي المكانة، والقوة، والمنعة. والعجب لا ينقضي من تمالئهم على ذلك، واتفاقهم عليه.
وهذا شاهد آخر على اختلاف ميزان العدل عند اليهود، ومبلغ ظلمهم، وجورهم، وتعطيلهم لحدود الله عز وجل: أخرج الإمام البخاري رحمه الله عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أنه قال: «إن اليهود جاؤوا إلى رسول الله، فذكروا له: أن رجلاً منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله (ص): «ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟» فقالوا: نفضحهم، ويجلدون. قال عبد الله بن سلام: كذبتم! إنَّ فيها الرجم، فأتوا بالتوراة، فنشروها، فوضع أحدُهُم يَدهُ على آية الرجم، فقرأ ما قبلها، وما بعدها، فقال عبد الله بن سلام: ارفع يدك، فرفع يده، فإذا فيها آية الرجم، قالوا: صدق يا محمد! فيها آية الرجم، فأمر بهما رسول الله (ص) فرجما، فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة».
وفي رواية مسلم: «أن َّاليهود حممَّوا وجه الزاني، وجلدوه، ولما سألهم النبي (ص) قائلاً: «أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟» قالوا: نعم. فدعا رجلاً من علمائهم فقال: «أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حدَّ الزاني في كتابكم؟» قال: لا، ولولا أنك نشدتني بهذا؛ لم أخبرك، نجده الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا، فكنا إذا أخذنا الشريف؛ تركناه، وإذا أخذنا الضعيف؛ أقمنا عليه الحد، قلنا: تعالوا، فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف، والوضيع، فجعلنا التحميم، والجلد مكان الرجم..».
وفي سفر التثنية من التوراة جاء في شأن حد الزاني النصُّ الاتي: (ولكن إذا كان هذا الأمر صحيحاً لم توجد عذرة الفتاة، يخرجون الفتاة إلى باب بيت أبيها، ويرجمها رجال مدينتها بالحجارة حتى تموت ؛ لأنها عملت قباحة في بني إسرائيل بزناها في بيت أبيها، فتنزع الشرَّ من وسطك.
وإذا وجد رجل مضطجعاً مع امرأةٍ زوجة بعلٍ؛ يقتل الاثنان: الرجل المضطجع مع المرأة والمرأة، فتنزع الشرَّ من إسرائيل.إذا كانت فتاة عذراء مخطوبة لرجل، فوجدها رجل في المدينة، فاضطجع معها؛ فأخرجوهما كليهما إلى باب تلك المدينة، وارجموهما بالحجارة حتى يموتا، الفتاة من أجل: أنها لم تصرخ في المدينة، والرجل من أجل: أنه أذل امرأة صاحبه، فتنزع الشرَّ من وسطك).
ب ـ العدل عند اليهود مع غيرهم من الأمم:
إنَّ نظرة اليهود إلى غيرهم من الأمم والشعوب نظرة تعالٍ، وازدراء، فهم يرون: أنهم شعب الله المختار، وأنهم أبناء الله، وأحباؤه كما أخبر الله عن مقالتهم هذه، وكذبهم فيها، فقال جلَّ وعلا: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ *}[المائدة: 18].
وكانوا يرون: أن غيرهم من الأمم لا حقَّ لهم في عدل، ولا نَصَفٍ، بل ويستحلون منهم الدماء، والأنفس، والأموال بحجة: أن غير اليهود كفار مشركون، لا حرمة لهم. وقد نبأنا الله خبرهم، وقولهم هذا، وعدَّهم كذبة مفترين في ذلك، فقال عز وجل: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ *}[ آل عمران:75].
ومرادهم بالأميين: العرب، والمشركون، وكل ما ليس بيهودي. روى ابن جرير عن قتادة ـ رحمهما الله ـ في قوله: {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِيِّينَ سَبِيلٌ}، قال: ليس علينا في المشركين سبيل، يعنون: من ليس من أهل الكتاب.
وفي أسفار التوراة المحرفة ما يشي بهذا المسلك الذي انتهجه يهودُ تجاه الأمم الأخرى: ففي (سفر الخروج) ضمن الوصايا العشر التي يزعمون: أن موسى عليه السلام تلقاها من ربه: (لا تشهد على قريب شهادة زور، ولا تشته بيت قريبك، لا تشته امرأة قريبك، ولا أمته، ولا ثوره، ولا حماره، ولا شيئاً ممَّا لقريبك) فمفهوم قوله (قريبك) في هذا النص: أن غير القريب يجوز لهم اشتهاء امرأته، وبيته، و.. وقد فهم اليهود هذا الفهم، ونص (التلمود) على ذلك كما سيأتي ذكر نصوص منه.
وفي (سفر التثنية) إباحة التعامل بالربا مع غير اليهودي، وتحريمه مع اليهودي: (للأجنبي تقرض بربا، ولكن لأخيك لا تقرض بربا) بل يمنع التلمود إقراض غير اليهودي إلا بربا: (غير مصرَّح لليهودي أن يقرض الأجنبي إلا بالربا) ولقد أخبرنا الحق تبارك وتعالى: أنه نهاهم عن أكل الربا، وأكل أموال الناس بالباطل، وأنهم لما خالفوا، وظلموا، وأكلوا الربا؛ حرم عليهم بعض الطيبات التي كانت حلالاً عقوبة لهم في الدنيا، قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا *}[النساء: 160 ـ 161].
وهذه بعض النصوص من التلمود التي تسمح لليهود أن تعتدي على أموال الأميين، بل ودمائهم، وأعراضهم، نسوق منها أمثلة ليتَّضح مدى ظلم اليهود، وجورهم.
1 ـ إباحة دماء غير اليهود:
يقول التلمود: (اقتل الصالح من غير الإسرائيليين، ومحرَّم على اليهودي أن ينجي أحداً من باقي الأمم من هلاك، أو يخرجه من حفرة يقع فيها ؛ لأنه بذلك يكون حفظ حياة أحد الوثنيِّين).
(ومن العدل أن يقتل اليهودي بيده كلَّ كافر ؛ لأن من يسفك دم الكافر يقرب قرباناً لله). وكل من ليس بيهودي فهو كافر عندهم.
2ـ إباحة عرضه:
يقول التلمود: (لا يخطأئ اليهودي إذا تعدَّى على عرض الأجنبي؛ لأنَّ كلَّ عقد نكاح عند الأجانب فاسد ؛ لأن المرأة التي لم تكن من بني إسرائيل كبهيمة، والعقد لا يوجد مع البهائم، وما شاكلها).
قال ميموند اليهودي: (إنَّ لليهود الحقَّ في اغتصاب النساء الغير مؤمنات، أي: الغير يهوديات).
3 ـ إباحة ماله:
يقول التلمود: (إنَّ الله حلَّل أموال باقي الأمم لبني إسرائيل لما راهم قد خالفوا السبع الوصايا المختصة بعبادة الأوثان، والزنى، والقتل، والسرقة، وأكل لحم الحيوانات الغير مذبوحة، وخصاء الإنسان، وإيلاد الحيوان من غير جنسه)».
وفي شأن ردِّ الأموال المفقودة لغير اليهودي يقول التلمود: (إن الله لا يغفر ذنباً ليهودي يردُّ للأمي ماله المفقود، وغير جائز ردُّ الأشياء المفقودة من الأجانب).
وبهذا يتضح: أن اليهود أهل ظلم، وجور، وفساد يظلمون الناس، ويستحلُّون دماءهم، وأعراضهم، وأموالهم، ويعدُّون ذلك ديناً، قاتلهم الله أنى يؤفكون!
ثانياً: العدل عند النصارى:
أ ـ العدل فيما بينهم:
النصارى يتبعون التوراة في الأحكام، والتشريعات، وما أمر به اليهود من العدل في الأحكام، والحدود، وإيفاء الكيل، والوزن، وخلاف ذلك، فإنه يسري على أمَّة النصارى كذلك.لكن لما بغى اليهود، وقست قلوبهم، وأحلُّوا ما حرَّم الله، وأكلوا أموال الناس بالباطل، جاء المسيح ليردَّهم إلى الجادة، فلم يأمرهم بالعدل فحسب، بل تجاوزه إلى الفضل، والعفو، وأمرهم ألا يقابلوا الإساءة بمثلها، وأن لا يعتدوا على من اعتدى عليهم، بل قال لهم كما جاء في إنجيل (متى) الذين يزعمون أنه مما أنزل على عيسى عليه السلام: (لقد سمعتم: أنه قيل: العين بالعين، والسن بالسن، أما أنا فأقول لكم: لا تقاوموا الشرير، بل من لطمك على خدِّك الأيمن؛ فحول له الاخر، ومن أراد أن يخاصمك، ويأخذ ثوبك؛ فخل له رداءك أيضاً، ومن سخَّرك ميلاً؛ فامش معه اثنين، ومن سألك؛ فأعطه، ومن أراد أن يقترض منك؛ فلا تمنعه، وقد سمعت: أنه قيل: أحبب قريبك، وابغض عدوك، أما أنا فأقول لكم: أحبوا أعداءكم، وأحسنوا إلى من يبغضكم، وصلُّوا لأجل من يعنتكم، ويضطهدكم).
لكن أمة النصارى لم تهتد، بل حرَّفت، وبدلت، فضلَّت عن سواء السبيل، ولئن كان اليهود مغضوباً عليهم؛ فإن النصارى ضالون، كما ثبت عن المصطفى (ص): أنه قال في تفسير قوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ *} [الفاتحة: 7] قال: إن المغضوب عليهم اليهود، وإنَّ الضالين النصارى».
وأول ضلالهم، وعظم جورهم، وبغيهم أن عدلوا بربهم غيره، وجعلوا له شركاء؛ إذ جعلوه ثالث ثلاثة، وتارة جعلوا المسيح عليه السلام هو الإله، وأخرى ابن الإله، قال تعالى عن كفرهم، وضلالهم: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ } [المائدة: 17] وقال في آية أخرى: { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ *}[المائدة:72].
وقال عز وجل في آية أخرى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ *} [المائدة: 73 ] وقال سبحانه: {وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ}[التوبة: 30].
والشرك بالله، واتخاذ غيره معه من أعظم الظلم كما أخبر الحق تبارك وتعالى على لسان العبد الصالح لقمان: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ *}[لقمان:13].
ولما نزل قوله عز وجل: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ *} [الأنعام: 82] شقَّ ذلك على الصحابة، وقالوا: وأينا لم يظلم نفسه؟! فقال رسول الله (ص): «إنه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا قول العبد الصالح: {يَابُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ *} إنما هو الشرك».
وقال الحافظ ابن كثير في تفسير قول الله ـ عز وجل ـ: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ *}، أي: هو أعظم الظلم.
فإذا كان القوم قد ارتكبوا أعظم الظلم، والجور، وظلموا أنفسهم بجعلهم لله أنداداً، ومعه شركاء؛ فماذا نتوقع منهم ـ وقد ضلوا، وظلموا ـ غير الظلم، والجور في جلِّ حياتهم ؛ لأنهم بنوا دينهم عليه، فلم يكونوا قائمين بالعدل، والقسط فيما بينهم، وقول الرسول (ص) في قصة المخزومية التي سرقت: «إنما ضلَّ من كان قبلكم: أنهم كانوا إذا سرق الشريف؛ تركوه، وإذا سرق الضعيف؛ أقاموا عليه الحد» يشملهم؛ وإن كان هو في اليهود أظهر، وهؤلاء رهبانهم الذين هم عبَّادهم، وعلماؤهم، وهم الصفوة فيهم، والقدوة، والذين يفترض أن يكونوا أقرب القوم إلى العدل، وعدم الظلم، فإذا هم ظلمة جائرين معتدين على أموال الناس بالباطل كما أخبرنا الله بذلك عنهم، وكما يدل عليه واقع الكنائس، وسيرتها. يقول الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}[التوبة:34].
يقول الحافظ ابن كثير: (وذلك: أنَّهم يأكلون الدنيا بالدِّين، ومناصبِهم، ورياستِهم في الناس، يأكلون أموالهم بذلك).
ولعلَّ من أبرز مظاهر ذلك ما تمارسه الكنيسة من إصدار ما عرف بـ (صكوك الغفران) وهي صكوك يصدرها أهل السلطة في الكنيسة من البابوات، والمطارنة، والبطارقة، والقساوسة باسم الكنيسة، يغفر بمقتضاها لحاملها ما اقترفه من الاثام، والخطايا في حياته مقابل أن يدفع مبالغ للكنيسة، وهذا إلى جانب كونه أكلاً لأموال الناس بالباطل، فهو أيضاً قول على الله بلا علم، وافتراء عليه، وتَعَدٍّ على ألوهيته ـ عز وجل ـ إذ لا يملك غفران الذنوب، والعفو عنها إلا هو سبحانه، ولكنَّ القوم ضلُّوا ضلالاً بعيداً.
ومن صور جور هذه الأمة وعدم عدلها: أنَّ كل فرقة، وطائفة منها إذا تسلَّطت على الفرق الأخرى؛ أذاقتها ألواناً من الظلم، والبطش، والاضطهاد، ولم ترقب فيهم إلاًّ ولا ذمة. يقول د. أحمد شلبي: (تكرر في تاريخ المسيحية حدث عظيم لم يختلف، وهو التجاء الجانب القوي إلى أعنف، وأقسى وسائل الاضطهادات والتعذيب، والتنكيل، والحرق، والإفناء يسلطها على الجانب الضعيف.. والعجيب: أن المسيحيين اضطهدوا من اليهود، والرومان، ونزلت بهم الويلات في القرون الثلاثة الأولى، فلمَّا بدأ جانبهم يشتدُّ؛ رأيناهم ينزلون نفس الويلات بمخالفيهم من أبناء دينهم، ومن أتباع الأديان الأخرى، ومن هنا فنيت مذاهب مسيحية كثيرة كان بعضها في وقتٍ ما له الغلبة في العدد، ولكن تنقصه القوَّة، والسلطان، وكان فناء هذه المذاهب بسبب قوة اليهود، والرومان أحياناً، وأحياناً بسبب قسوة فرق مسيحية أخرى قويت، واشتدت بالأباطرة، وذوي النفوذ).
وهذا مصداق قوله تبارك وتعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ *}[المائدة: 14] .
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: (...أي: فألقينا بينهم العداوة، والتباغض لبعضهم بعضاً، ولا يزالون كذلك إلى قيام الساعة، وكذلك طوائف النصارى على اختلاف أجناسهم لا يزالون متباغضين، متعادين، يكفِّر بعضهم بعضاً، ويلعن بعضهم بعضاً، فكلُّ فرقة تحرم الأخرى، ولا تدعها تلج معبدها، فالملكية تكفر اليعقوبية، وكذلك الاخرون، وكذلك النسطورية، والاريوسية كل طائفة تكفر الأخرى...).
وكمثال على ما ذكر من ظلم أمَّة النصارى، وجور بعضهم على بعض ما لاقاه أقباط مصر ـ وهم من الطائفة اليعقوبية ـ من ظلم واضطهاد على يد أبناء دينهم البيزنطيين الذين كانوا يحكمونهم قبل الفتح الإسلامي لمصر.
يقول المستشرق توماس ارنولد: (...فإن اليعاقبة ـ وهم الأقباط ـ الذين كانوا يُكَوِّنون السواد الأعظم من السكان المسيحيين قد عوملوا معاملة مجحفة من أتباع المذهب الأرثوذكسي التابعين للبلاط، الذين ألقوا في قلوبهم بذور السخط، والحنق اللَّذَيْن لم ينسهما أعقابهم حتى اليوم. كان بعضهم يعذب ثم يلقى به في اليم، وتبع كثير منهم بطريقهم إلى المنفى؛ لينجوا من أيدي مضطهديهم، وأخفى عدد كبير منهم عقائدهم الحقيقية، وتظاهر بقبول قرار خلقدونية.
وقد جلب الفتح الإسلامي إلى هؤلاء القبط ـ ذلك اللفظ الذي يطلق على المسيحيين من اليعاقبة في مصر ـ حياةً تقوم على الحرية الدينية التي لم ينعموا بها قبل ذلك بقرن من الزمان).
وكثيراً ما كان الفتح الإسلامي مُخَلِّصاً لكثير من طوائف النصارى من حقدٍ، واضطهادٍ، وظلمٍ، وبجانب عامل العدل، والتسامح الذي عرف به الفاتحون المسلمون كان هذا من العوامل التي جعلت الكثير من المسيحيين يفضلون الحكم الإسلامي على حكم أبناء دينهم من أتباع الطوائف الأخرى.
ثالثاً: العدل فيما بينهم وبين غيرهم من الأمم:
وإذا فتحنا ملفات التاريخ؛ وجدنا النصارى قد بلغوا منتهى الظلم، والاضطهاد لمن يقع تحت حكمهم، وسلطانهم من أهل الأديان الأخرى من قتلهم، وترحيلهم، واضطهادهم، وكانت أعمالهم الانتقامية سياسة ثابتة تستهدف إفناء الخصوم، ومحو اثارهم، فقد ارتكبوا الكثير من المذابح التي دُبِّرت، ونفذت بوحشية بالغة، وارتكبوا فظائع وجرائم يندى لها جبين الإنسانية، ومن الشواهد التاريخية في ذلك ما فعلوه بسكان بيت المقدس إبان استيلائهم عليها، عندما تخاذل العبيديون للدفاع عنها ؛ إذ اكتفى واليهم انذاك ـ افتخار الدولة ـ بتأمين نجاته مع حرسه الخاص، وترك المدينة للصليبيين يعيثون فيها فساداً، بعد أن دافع عنها دفاعاً هزيلاً، ذرّاً للرماد في العيون.
وإليك ما قاله (القس ريموند) وهو شاهد عيان من النصارى: (وشاهدنا أشياء عجيبة؛ إذ قطعت رؤوس عدد كبير من المسلمين، وقتل غيرهم رمياً بالسهام، أو أرغموا على أن يلقوا بأنفسهم من فوق الأبراج، وظلَّ بعضهم يعذب عدَّة أيام، ثم أحرق في النار، وكنت ترى في الشوارع أكوام الرؤوس، والأيدي، والأرجل، والأقدام، وكان الإنسان أينما سار فوق جواده يسير بين جثث الرجال والخيال).
ويقول المستشرق ستيفن رنسميان في وصف ذلك: (على أنه لم ينج من المسلمين بحياتهم إلا هذه الفئة القليلة ـ وهم: افتخار الدولة والي العبيديين على القدس وحرسه الخاص ـ إذ إن الصليبيين ـ وقد زاد في جنونهم ما أحرزوه من نصر كبير بعد شقاءٍ، وعناءٍ شديدين ـ انطلقوا في شوارع المدينة، وإلى الدور، والمساجد يقتلون كل من يصادفهم من الرجال، والنساء، والأطفال دون تمييز، واستمرَّت المذبحة طوال مساء ذلك اليوم، وطوال الليل، ولم يكن علم تانكرد عاصماً للاَّجئين إلى المسجد الأقصى من القتل، ففي الصباح الباكر من اليوم الثاني دخلت باب المسجد ثلة من الصليبيين، فأجهزت على جميع اللاجئين، وحينما توجه ريموند اجيل في الضحى لزيارة ساحة المعبد؛ أخذ يتلمس طريقه بين الجثث والدماء التي بلغت ركبتيه. وفرَّ يهود بيت المقدس جميعاً إلى معبدهم الكبير، غير أنه تقرر إلقاء القبض عليهم بحجة: أنهم ساعدوا المسلمين، فلم تأخذهم الرحمة، والرأفة، فأشعلوا النار في المعبد، ولقي اليهود بداخله مصرعهم محترقين. يقول: (وتركت مذبحة بيت المقدس أثراً عميقاً في جميع العالم، ليس معروفاً بالضبط عدد ضحاياها غير أنها أدَّت إلى خلو المدينة من سكانها المسلمين، واليهود).
فانظر الفرق الشاسع بين دخول الصليبيين هذه المدينة المقدَّسة لدى المسلمين، والمسيحيين، واليهود، وبين دخول القائد المسلم صلاح الدين! وفي الأندلس عندما استولى النصارى الحاقدون؛ ألحقوا بالمسلمين ضروباً من الأذى، والظلم، والجور، والعدوان، يصور ذلك الدكتور توفيق الطويل في إيجاز، فيقول:
(وقد استنفدت الكنيسة جهدها في إقناع المسلمين المقيمين في إسبانيا، لكي يرتدُّوا عن دينهم، ويعتنقوا المسيحية ديناً، وعلى غير جدوى ما بذلت من جهود، فاستجمعت محكمة التفتيش كلَّ قواها، واعتصمت بالجرأة، والتعصب، وصبت عذابها على المسلمين في غير رفقٍ، ولا عدالة؛ حتى اعتنق النصرانية مَنْ خار في ميدان الكفاح، وهاجر من خار بين التمسك بعقيدته، واحتمال الام العذاب، وفي عام 1609م و1610م تم إجلاء ألوف المسلمين عن إسبانيا بعد أن أغرقوا بدمهم أرضها، وكتبوا في المقاومة أنصع الصفحات في تاريخ الجهاد في سبيل الله).
وأما في العصر الحاضر فأقرب الشواهد إلى الذاكرة على ظلم النصارى ومبلغ حقدهم، واضطهادهم ما فعله نصارى لبنان الموارنة ضدَّ المسلمين الفلسطينيين في مخيمي (صبرا وشاتيلا) من مجازر، ومذابح أودت بأرواح الالاف من قاطني المخيمين مع ما صاحب ذلك من النهب، والتدمير الشامل لمحتويات المخيمين، وذلك عقب اجتياح الجيش اليهودي الصهيوني لمدينة بيروت، وغيرها من المدن اللبنانية عام 1982م، 1402هـ.
يقول أحد شهود العيان: (..دفنت في يوم واحد عدداً إجمالياً مئة وثلاثة جثث.. وعندما دخلت المخيم رأيت اللحم ملزقاً على الحيطان، وتستطيع أن تقول: إن كل أساليب القتل قد استخدمت: الساطور، البارود، الرصاص، العصا، كاتم الصوت.. وكان بين الضحايا من كان عمره تسعين سنة.. ومن بين الذين دفناهم أطفال أعمارهم بين 6 ـ 7 سنوات، ونساء من مختلف الأعمار، كانوا ـ أي: النصارى ـ يقتلون كلَّ شيء يتحرك أمامهم).
فقد أصبحت معلومة لكلِّ إنسان على وجه المعمورة من اغتصاب، وقتل، وذبح، وتشريد. إن النصارى ما كانوا في عدائهم عدولاً، ولا رحماء بمخالفيهم، كما هو شأن الإسلام، فقد كانت أعمالهم بخصومهم تفوق كلَّ وصف، ولولا ما نقله شهود العيان مما أنزلوه بغيرهم من الظلم والعدوان؛ لما استطاع المرء أن يصدق هذه الأعمال الموغلة في الوحشية، والشناعة من قوم لا دين لهم، فضلاً عن قوم يدعون: أنهم أتباع المسيح عليه السلام، وبهذا اتضح ملمح من ملامح الوسطيَّة، وكيف مارسته أمةُ الإسلام مقارناً مع غيرها من أهل الكتابين، واتَّضح لنا: أنهم حادوا عن العدل إلى الظلم.
يمكنكم تحميل كتاب :الوسطية في القرآن الكريم
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/29.pdf