من كتاب الوسطية في القرآن الكريم
وجوب العدل على هذه الأمة وصور من قيامها به
الحلقة: التاسعة
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
صفر 1442 ه/ أكتوبر 2020
صحَّ في العدل حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث فسَّر قوله تعالى: {أُمَّةً وَسَطًا}[البقرة: 143] بقوله: عدولاً، وذلك في الحديث الذي رواه البخاري ـ رحمه الله ـ عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه؛ حيث قال عليه السلام: «الوسط: العدل» وفي رواية الطبري: قال: {وَكَذَلكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}: عدولاً.
وقال القرطبي ـ رحمه الله ـ: الوسط: العدل. وأصل هذا: أن أحمد الأشياء أوسطها. ثم قال: قال علماؤنا: أنبأنا ربنا تبارك وتعالى في كتابه بما أنعم علينا من تفضيله لنا باسم العدالة، وتولية الشهادة على جميع خلقه، فجعلنا أولاً مكاناً، وكنا اخراً زماناً، كما قال عليه السلام: «نحن الاخرون الأولون». وهذا دليل على أنه لا يشهد إلا العدول، ولا ينفذ قول الغير على الغير إلا أن يكون عدلاً .
وممَّا يدل على أن العدل من ملامح الوسطيَّة قول الطبري ـ رحمه الله ـ: وأما التأويل؛ فإنه جاء بأن الوسط العدل، وذلك معنى الخيار؛ لأن الخيار من الناس عدولهم . ثم ساق الأدلة من السنة، وأقوال السلف في ذلك.
العدل من الأسس، والقيم التي جاءت بها جميع الشرائع السماوية، فأنزل الله به كتبه، وأرسل به رسله: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25] أي: العدل ، فما من كتاب أنزل، ولا رسول إلا أمر أمته بالعدل، وأوجبه عليها، والأمم بين طائع اخذ منه بنصيب، وحائد مائل عن العدل، والقسط بجهلٍ، أو هوىً، والرسل ما تزال تجدد ما نسيته الأجيال، وتذكر الناس بما نسوا إلى أن ختمت الرسالات بخاتم الأنبياء نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. ولما كانت هذه الرسالة المحمدية خاتمة الرسالات، والنبي صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء، والرسل، وهذه الأمة خاتمة الأمم، والأمة التي جعلها الله شاهدة على الناس، وقيِّمة على البشرية، تبلغها دين الله، وتشهد لها بالإيمان، أو عليها بالكفر، والعصيان: {وَكَذَلكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} فقد كان العدل من أهم ما يجب على هذه الأمة، بل هو من أعظم ما يميِّزها عن الأمم. ولم يكتف الحق تبارك وتعالى بإيجاب العدل على هذه الأمة، بل أراد منها أن تجعله خُلقاً من أخلاقها، وصفة من صفاتها، وصبغة تصطبغ بها من دون الناس، فأمرها أن تكون قائمة بالعدل، بل قوَّامة به بين الناس لله عز وجل، لا لأي شيء اخر، فلا تحابي فيه قريباً لقرابته، ولا تضار عدوّاً لعداوته: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ *}[المائدة:8].
قال الإمام ابن جرير في تفسير هذه الآية: (يعني بذلك جل ثناؤه: يا أيها الذين امنوا بالله، وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم ليكن من أخلاقكم، وصفاتكم القيام لله شهداء بالعدل، في أوليائكم، وأعدائكم، ولا تجوروا في أحكامكم، وأفعالكم، فتجاوزوا ما حددت لكم في أعدائكم لعداوتهم، ولا تقصروا فيما حددت لكم من أحكامي، وحدودي في أوليائكم لولايتهم لكم، ولكن انتهوا في جميعهم إلى حدِّي، واعملوا فيه بأمري).
وقال الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله ـ: (أي: كونوا قائمين بالحقِّ لله، عز وجل، لا لأجل الناس، والسمعة، وكونوا شهداء بالقسط؛ أي: بالعدل لا بالجور:{ولا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} أي: يحملنكم بغض قوم على ترك العدل فيهم، بل استعملوا العدل في كلِّ أحدٍ، صديقاً كان، أو عدوّاً) وقال في موضع آخر: (أي: لا يحملنكم بغض أقوام على ترك العدل، فإن العدل واجبٌ على كلِّ أحدٍ، في كلِّ أحدٍ، في كلِّ وقتٍ، في كلِّ حال).
فالعدل الذي أُمِرت به هذه الأمة حقٌّ عامٌّ لكل أحد من الناس، لا يحجبه عن مستحقه شنان، ولا عداوة، ولا يحول دونه اختلاف لون، ولا جنس، ولا دين: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا *}[النساء: 58].
فالعدل حقٌّ لكل الناس وجميع الناس، لا عدلاً بين المسلمين بعضهم وبعض فحسب، ولا عدلاً مع أهل الكتاب دون سائر الناس، وإنما هو لكل إنسان بوصفه (إنسان) فهذه الصفة ـ صفة الناس ـ هي التي يترتَّب عليها حق العدل في المنهج الرباني، وهذه الصفة التي يلتقي عليها البشر جميعاً، مؤمنين، وكفاراً، أصدقاءً، وأعداءً، سوداً، وبيضاً، عرباً، وعجماً، والأمة المسلمة قيمة على الحكم بين الناس بالعدل متى حكمت في أمرهم.
العدل واجب على هذه الأمة ولو كان فيه مراغمة لعواطف البغض، والعداوة: واجب {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} . وهو كذلك واجب ولو كان فيه مراغمة لكافة عواطف الحب، والمودة، والقرابة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [النساء: 135] والأمة مأمورة بأن تقوم بالعدل، والقسط، والشهادة لله وليس لأحد سواه، وأن يكون ذلك منهم بدافع التقوى، والخوف من الله ـ عز وجل ـ حتى يصبح الجميع أمام العدل سواء بدون اعتبار لدوافع الحب، والولاء، والقرابة، أو البغضاء، والشنان، والعداوة ؛ لأنها إنما تقوم بالعدل والقسط بين الناس لله، وبأمر الله. والعدل بهذه الصورة الشاملة، لم تعرفه البشرية قطُّ إلا على يد هذه الأمة، ولم تنعم به البشرية قطُّ إلا تحت حكم الأمة المسلمة.
ثانياً: قيام هذه الأمة بالعدل:
لم يكن العدل في حياة هذه الأمة المحمدية الخاتمة مجرد مُثلٍ عُليا، أو وصايا تفخر بها دون ممارسة، أو تطبيق، ولكنه كان واقعاً عاشته هذه الأمة، ومارسته، وطبَّقته في واقع حياتها على مر تاريخها الطويل، وعلى تفاوت في ذلك التطبيق بين زمان وزمان، ودولة ودولة، وحسب اشتعال جذوة الإيمان في قلوب الحاكمين، وخبِّوها، غير أن ما يقطع به: أنه لم يخل زمانٌ ممَّن يقيم الحق، والعدل، ويقوم بالقسط، ويحكم به من هذه الأمة.
وحسبنا أن نذكر فيما يلي صوراً من عدل هذه الأمة فيما بينها، ومع أعدائها وخصومها، وأهل ذمتها، وسنختار هذه الصور من واقع الأمة من خلال تاريخها الطويل؛ ليعلم: أن هذه الأمة لم تزل قائمة بالقسط بين الناس، شاهدة به على الناس لله، وأنها جديرة بأن تكون الأمة الوسط الشاهدة على البشرية. وأولى هذه الصور نعيشها مع سيد الخلق، وإمام العالمين نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم إمام هذه الأمة، ومعلمها الخير، وهو يضرب أروع الأمثلة، ويلقن أمته أبلغ دروس العدل، والإنصاف، والمساواة.
فها هو صلى الله عليه وسلم يُقِيْدُ أحدَ أصحابه من نفسه في طعنة طعنها إياه بالقِدْح في بطنه أثناء تسويته الصف للقتال: روى ابن إسحاق أنه صلى الله عليه وسلم: (عدل صفوف أصحابه يوم بدر وفي يده قدح يعدل به القوم، فمر «بسواد بن غزية» وهو مُسْتَنْتلٌ من الصف، قال ابن هشام: ويقال: مستنصل من الصف ـ فطعنه في بطنه بالقدح ـ وقال: استوِ يا سواد! فقال: يا رسول الله أوجعتني! وقد بعثك الله بالحق، والعدل، فأقِدْني!
فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه، وقال: «استقِدْ». قال: فاعتنقه، فقبل بطنه، فقال: «ما حملك على هذا يا سواد؟!» قال: يا رسول الله، حضر ما ترى، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمسَّ جلدي جلدك! فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير).
وجاء يهوديٌّ يشتكي إليه أحد أصحابه قائلاً: يا محمد! إنَّ لي على هذا أربعة دراهم؛ وقد غلبني عليها. قال: «أعطه حقَّه»، قال: والذي نفسي بيده، ما أقدر عليها، قد أخبرته: أنك تبعثنا إلى خيبر، فأرجو أن تغنمنا شيئاً، فأرجع فأقضيه! قال: «أعطه حقه». وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال ثلاثاً لم يراجع....
وكان صلى الله عليه وسلم يقيم حدود الله على من وجب عليه ذلك في عدلٍ، وإنصافٍ، لا تأخذه في ذلك لومة لائم، ولا قرابة قريب، ولا مكانة شريف، فها هو صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق البار في قسمه يقول: لو أن ابنته سرقت؛ لأقام عليها الحدّ، لا يدفعه عنها كونها ابنة محمد صلى الله عليه وسلم.
وأخرج الإمام البخاري عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ: أنَّ قريشاً أهمتهم المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: من يكلِّم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن يجترأى عليه إلا أسامة حبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أتشفع في حدٍّ من حدود الله؟» ثم قام: فخطب، فقال: «يا أيها الناس إنما ضلَّ من كان قبلكم: أنهم كانوا إذا سرق الشريف؛ تركوه، وإذا سرق الضعيف فيهم؛ أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت؛ لقطع محمدٌ يدها!».
فإن قيل: هذا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس غريباً منه هذا العدل، ومن يعدل؛ إن لم يعدل هو؟
قلنا: وهذا رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يهتدي بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقيم العدل، والقسط بين الناس، يحكم بالحق لرجل يهودي على مسلم، ولم يحمله كفر اليهودي على ظلمه، والحيف عليه. أخرج الإمام مالك ـ رحمه الله ـ من طريق سعيد بن المسيب: (أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه اختصم إليه مسلم، ويهودي، فرأى عمر: أن الحق لليهودي، فقضى له، فقال له اليهودي: والله لقد قضيت بالحق!...).
وكان رضي الله عنه يأمر عماله أن يوافوه بالمواسم، فإذا اجتمعوا؛ قال: أيها الناس إني لم أبعث عمالي عليكم ليصيبوا من أبشاركم، ولا من أموالكم، إنما بعثتهم؛ ليحجزوا بينكم، وليقسموا فيئكم بينكم، فمن فعل به غير ذلك فليقم، فما قام أحد إلا رجل واحد قام، فقال: يا أمير المؤمنين! إن عاملك فلاناً ضربني مئة سوط! قال: فيم ضربته؟ قم فاقتصَّ منه! فقام عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ فقال: يا أمير المؤمنين إنك إن فعلت هذا يكثر عليك، ويكون سنة يأخذ بها من بعدك، فقال: أنالا أَقِيْدُ؛ وقد رأيت رسول الله يُقِيْدُ من نفسه! قال: فدعنا فلْنُرْضِه، قال: دونكم فأرضوه، فافتدى منه بمئتي دينار كل سوط بدينارين. وإن لم يرضوه؛ لأقاده، رضي الله عنه.
وجاء رجل من أهل مصر يشكو ابن عمرٍو بن العاص واليه على مصر قائلاً: يا أمير المؤمنين! عائذ بك من الظلم، قال: عذت معاذاً! قال: سابقت ابن عمرو بن العاص، فسبقته، فجعل يضربني بالسوط، ويقول: أتسبقني؛ وأنا ابن الأكرمين؟!
فكتب عمر إلى عمرٍو ـ رضي الله عنهما ـ يأمره القدوم، ويقدم بابنه معه، فقدم، فقال عمر: أين المصري؟ خذ السوط فاضرب! فجعل يضربه بالسوط، ويقول عمر: اضرب ابن الأكرمين، قال أنس: فضرب، فوالله لقد ضربه؛ ونحن نحب ضربه، فما رفع عنه حتى تمنينا أن يرفع عنه! ثم قال عمر للمصري: اصنع على صلعة عمرٍو! فقال: يا أمير المؤمنين إنما ابنه الذي ضربني؛ وقد اشتفيت منه، فقال عمر لعمرٍو: مذ كم تعبدتم الناس؛ وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟! قال: يا أمير المؤمنين لم أعلم، ولم يأتني!
فانظر إلى هذه المواقف الرائعة لعدالة هذه الأمة، رجل من عامة الناس، وفي رواية: أنه ذمي من أقباط مصر، يتظلم، فيعطى حقه، ويقاد من ابن الأمير، يجاء به وبأبيه ليعطى الرجل حقه وينصف، ثم انظر إلى الحاضرين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كيف أحبوا ذلك، وأيدوه: (فوالله، لقد ضربه ونحن نحب ضربه) لا تشفياً منه، ولا شماتة بعمرٍو، وابنه، فالقوم فوق ذلك، وأبعد ما يكونون عن التشفي، والشماتة، ولكنهم جيل أحبَّ العدل، وعاشه، وتربى عليه على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك فهو يبغض الجور، ولا يحب رؤيته في الأمة؛ ولو كان رجلاً مخالفاً لها في عقيدتها ودينها وشرعها، ويفرح أشدَّ الفرح لرؤية العدالة ترمي بجذورها في أعماق الأمة؛ ليؤخذ حق ضعفائها وأتباعها من أقويائها.
فإن قيل: هذا الخليفة الثاني أمير المؤمنين عمر الفاروق، ومثله خليق بإقامة العدل في رعيته.
فإليك صورة أخرى بطلها ليس بخليفة، ولا أمير، ولكنه رجل من عامة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الصحابي الجليل عبد الله بن رواحة، يكل إليه النبي صلى الله عليه وسلم خرص مزارع خيبر التي تركها صلى الله عليه وسلم بيد اليهود، فيحاول اليهود رشوته؛ ليخفف عليهم في الخرص، فيشتد غضبه ـ رضي الله عنه ـ أن ساوموه على أمانته، وعدالته، ويقول مخاطباً إخوان القردة والخنازير: (يا معشر اليهود: أنتم أبغض الخلق إليَّ، قتلتم أنبياء الله عز وجل، وكذبتم على الله، وليس يحملني بغضي إياكم على أن أحيف عليكم، وقد خرصت عشرين ألف وسق من تمر، فإن شئتم؛ فلكم وإن أبيتم؛ فلي. فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض، قد أخذنا فاخرج عنا). وأقر اليهود بعدم ظلمه، واعترفوا بعدله، وإنصافه.
فإن قيل هذا صحابيٌّ جليل تربَّى على يد الرسول صلى الله عليه وسلم، فليس ببدع أن يعدل، ويحكم بالقسط؛ إذ وكل إليه الحكم في أمر من الأمور؛ قلنا: لندع جيل الصحابة رضوان الله عليهم، فإنهم جيل فريد الأصل فيهم الخير والعدالة، ولنتجاوزهم إلى غيرهم ممن جاء بعدهم:
فهذا شريح القاضي ـ رحمه الله ـ يتحاكم إليه أمير المؤمنين وخليفة المسلمين ورجل ذمي، فيحكم شريح ـ يرحمه الله ـ للذميِّ على أمير المؤمنين. فقد أخرج البيهقي بسنده عن الشعبي قال: خرج عليُّ بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ، إلى السوق، فإذا هو بنصراني يبيع درعاً، قال: فعرف عليٌّ ـ رضي الله عنه ـ الدرع، فقال: هذه درعي، بيني وبينك قاضي المسلمين، قال: وكان قاضي المسلمين شريح، كان عليٌّ ـ رضي الله عنه ـ استقضاه، قال: فلما رأى شريح أمير المؤمنين؛ قام من مجلس القضاء، وأجلس عليّاً ـ رضي الله عنه ـ في مجلسه، وجلس شريح قدامه إلى جنب النصراني، فقال له عليٌّ ـ رضي الله عنه ـ: يا شريح! لو كان خصمي مسلماً؛ لقعدت معه مقعد الخصم، ولكني سمعت رسول الله يقول: «لا تصافحوهم، ولا تبدؤوهم بالسلام، ولا تعودوا مرضاهم، ولا تصلوا عليهم، وألجئوهم إلى مضايق الطريق، وصغِّروهم كما صغرهم الله». اقض بيني وبينه يا شريح! فقال شريح: ما تقول يا أمير المؤمنين؟! قال: فقال عليٌّ ـ رضي الله عنه ـ: هذه درعي ذهبت مني منذ زمان. قال: فقال شريح: ما تقول يا نصراني؟!.
قال: فقال: ما أكذب يا أمير المؤمنين! الدرع هي درعي، فقال شريح: ما أرى أن تخرج من يده، فهل من بينة؟ فقال عليٌّ ـ رضي الله عنه ـ: صدق شريح. قال: فقال النصراني: أما أنا فأشهد: أن هذه أحكام الأنبياء، أمير المؤمنين يجيء إلى قاضيه، وقاضيه يقضي عليه، هي والله يا أمير المؤمنين درعك! اتبعتك من الجيش وقد زالت عن جملك الأورق، فأخذتها، فإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله!
قال: فقال عليٌّ ـ رضي الله عنه ـ أما إذ أسلمت فهي لك! وحمله على فرس عتيق. قال فقال الشعبيُّ: لقد رأيته يقاتل المشركين.
ويبين لنا هذا النص كيف كان قضاة المسلمين يصدرون أحكامهم العادلة فيما يعرض عليهم من قضايا في حرية تامة، ولا تأخذهم في إقامة العدل لومة لائم. القوي والضعيف، الحاكم والمحكوم، المسلم والذمي، الراعي والمرعي، الأمير والحقير كلٌّ أمام القضاء سواء. لذا حكم القاضي شريح على أمير المؤمنين ـ رضي الله عنه ـ للنصراني بما راه حقّاً، وأمير المؤمنين ـ رضي الله عنه ـ يرضى بالحكم، ويصدق شريحاً على صحة ما قضى به ؛ لأنه حكم بمقتضى قواعد الشرع، فكان ذلك كلُّه سبباً في إسلام نصراني، واهتدائه لما رأى من قيام هذه الأمة في رعاياها، وأهل ذمَّتها بالعدل، والقسط الذي هو من أحكام الأنبياء.
يمكنكم تحميل كتاب :الوسطية في القرآن الكريم
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي