(تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع سنة الابتلاء)
من كتاب الدولة الحديثة المسلمة دعائمها ووظائفها:
الحلقة: السادسة
بقلم الدكتور: علي محمد الصلابي
محرم 1443 ه/ أغسطس 2021
بعد الاعداد العظيم الذي قام به النبي صلى الله عليه وسلم لتربية أصحابه وبناء الجماعة المسلمة المنظمة الأولى على أسس عقدية وتعبدية، خلقية رفيعة المستوى حان موعد إعلان الدعوة بنزول قول الله تعالى: ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ﴾ (الشعراء ، آية : 214 ـ 216).
فجمع قبيلته صلى الله عليه وسلم وعشيرته، ودعاهم علانية إلى الإيمان بإله واحد، وخوفهم من العذاب الشديد، إن عصوه، وأمرهم بإنقاذ أنفسهم من النار، وبيَّن لهم مسؤولية كل إنسان عن نفسه.(1)
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت: ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادي: «يا بني فهر، يا بني عدي» ـ لبطون قريش ـ حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج، أرسل رسولاً ينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش فقال: «أرأيتكم لو أخبرتكم: أن خيلاء بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟» قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقاً، قال: «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد»، فقال أبو لهب: تباً لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟ فنزلت: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ﴾ (المسد ، آية : 1 ـ 2). البخاري رقم 4971، مسلم رقم 208.
وفي رواية: "ناداهم بطناً بطناً، ويقول لكل بطن: «أنقذوا أنفسكم من النار..» ثم قال: «يا فاطمة انقذي نفسك من النار، فإني لا أملك لكم من الله شيئاً، غير أن لكم رحماً سأبلها ببلالها».(2)
كان القرشيون واقعيين عمليين، فلما رأوا محمداً صلى الله عليه وسلم، وهو الصادق الأمين ـ قد وقف على جبل يرى ما أمامه، وينظر إلى ما وراءه، وهم ما يرون إلا ما هو أمامهم، فهداهم إنصافهم، وذكاؤهم إلى تصديقه، فقالوا: نعم.
ولما تمت هذه المرحلة الطبيعية البدائية، وتحققت شهادة المستمعين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» وكان ذلك تعريفاً بمقام النبوة، وما ينفرد به من علم بالحقائق الغيبية، والعلوم الوهبية، وإنذاراً في حكمة وبلاغة لا نظير لهما في تاريخ الديانات، والنبوءات، فلم تكن طريق أقصر من هذه الطريق، وأسلوب أوضح من هذا الأسلوب، فسكت القوم.(3)
ولكن أبا لهب قال: تباً لك سائر اليوم أما دعوتنا إلا لهذا؟
وجاءت مرحلة أخرى بعدها، فأصبح يدعو فيها كل من يلتقي به من الناس على اختلاف قبائلهم، وبلدانهم، ويتبع الناس في أنديتهم ومجامعهم ومحافلهم وفي الموسم ومواقف الحج، ويدعو من لقيه من حُر وعبد، وقوي وضعيف، وغني وفقير، حين نزول قوله تعالى:﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ * الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللّهِ إِلـهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ﴾ (الحجر، آية : 94 ـ 97).
كانت النتيجة لهذا الصدع هي الصد، والإعراض والسخرية والإيذاء والتكذيب والكيد المدبر المدروس، وقد اشتد الصراع بين النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه وبين شيوخ الوثنية وزعمائها، أصبح الناس في مكة يتناقلون أخبار ذلك الصراع في كل مكان، وكان هذا في حد ذاته مكسباً عظيماً، ساهم فيه أشد وألد أعدائها، ممن كان يشيع في القبائل قالت السوء عنها، فليس كل الناس يسلمون بدعاوى زعماء الكفر، والشرك.
كانت الوسيلة الإعلامية في ذلك العصر، تناقل الناس للأخبار مشافهة، وسمع القاصي والداني بنبوة الرسول صلى الله عليه وسلم، صار هذا الحدث العظيم حديث الناس في المجالس، ونوادي القبائل، وفي بيوت الناس.(4)
وكانت أهم اعتراضات زعماء الشرك موجهة نحو وحدانية الله، والإيمان باليوم الآخر، ورسالة النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن الكريم الذي أنزل عليه من رب العالمين.(5)
وكان لضعف تأثير النبوءات في جزيرة العرب، وللعصبية لتراث الآباء والأجداد، وموقف أهل الكتاب المساند للوثنية، وسيطرة الأعراف والعوائد القبلية، وحرصهم على مصالحهم ومكانتهم وتأثيرهم على العرب، سبب في إنكار دعوة الإسلام في العهد المكي.
ولقد تعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون، لأشكال وأنواع، وأصناف متعددة من الابتلاء، كمحاولة قريش لإبعاد أبي طالب عن مناصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتشويه الدعوة وإيذائه صلى الله عليه وسلم وإيذاء أصحابه، وعرض المغريات، والمساومات لترك الدعوة، ومطالبته بجعل الصفا ذهباً، والاستعانة باليهود في مجادلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والدعاية الإعلامية في الموسم ضد الدعوة وشخص الرسول صلى الله عليه وسلم، والحصار الاقتصادي الذي تعرض له رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنو هاشم، وبنوعبد المطلب من قبل كفار مكة، والإيذاء الجسدي، وغير ذلك من أنواع الابتلاء.
والابتلاء مرتبط بالتمكين ارتباطاً وثيقاً، فلقد جرت سنة الله ألا يُمكن لأمة إلا بعد أن تمر بمراحل الاختيار المختلفة، وإلا بعد أن ينصهر معدنها في بوتقة الأحداث فيميز الله الخبيث من الطيب، وهي سنة جارية على الأمة الإسلامية لا تتخلف، فقد شاء الله تعالى أن يبلي المؤمنين، ويختبرهم ليمحص إيمانهم، ثم يكون لهم التمكين في الأرض بعد ذلك، ولذلك جاء هذا المعنى على لسان الإمام الشافعي رضي الله عنه حين سأله رجل: أيهما أفضل للمرء أن يمكّن أو يبتلى؟ فقال الإمام الشافعي: لا يمكّن حتى يبتلى، فإن الله تعالى ابتلى نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمداً ـ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ـ فلما صبروا مكنهم فلا يظن أحد أن يخلص من الألم البتة.(6)
وابتلاء المؤمنين قبل التمكين أمر حتمي من أجل التمحيص ليقوم بنيانهم بعد ذلك على تمكّن ورسوخ، وهذا الابتلاء للمؤمنين ابتلاء الرحمة، لا ابتلاء الغضب، وابتلاء الاختبار لا مجرد الاختبار.(7)
إن طريق الابتلاء سنة الله في الدعوات، كما أنه الطريق إلى الجنة، وقد حُفت الجنة بالمكاره، وحُفت النار بالشهوات.(8)
وللابتلاء حكم كثيرة من أهمها: تصفية النفوس وتربية الجماعة المسلمة، و الكشف عن خبايا النفوس، والإعداد الحقيقي لتحمل الأمانة، ومعرفة حقيقة النفس ورفع المنزلة والدرجة عند الله، وتكفير السيئات، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما يصيب المؤمن من شوكة فما فوقها، إلا رفعه الله بها درجة أو حط عنه بها خطيئة».(9)
وقد قابل رسول الله صلى الله عليه وسلم الابتلاء بسنة الأخذ بالأسباب وكان يربي أصحابه على:
ـ التأسي بالسابقين من الأنبياء والمرسلين وأتباعهم في تحمل الأذى في سبيل الله ويضرب لهم الأمثلة في ذلك.
ـ التعلق بما أعده الله في الجنة للمؤمنين الصابرين من النعيم، وعدم الاغترار بما في أيدي الكافرين من زهرة الحياة الدنيا.
ـ التطلع للمستقبل، الذي ينصر الله به الإسلام في هذه الحياة الدنيا، ويذل فيه أهل الكفر والعصيان، وثمة أمر آخر كبير، ألا وهو أنه صلى الله عليه وسلم مع هذه الأشياء كلها كان يخطط ويستفيد من الأسباب المادية المتعددة لرفع الأذى والظلم عن أتباعه، وكف المشركين عن فتنتهم وإقامة الدولة التي تجاهد في سبيل الدين، وتتيح الفرصة لكل مسلم أن يعبد ربه حيث شاء، وتزيل الحواجز والعقبات التي تعترض طريق الدعوة إلى الله.(10)
مراجع الحلقة السادسة
([1]) رسالة الأنبياء، عمر أحمد (3 / 46).
(2) أخرجه البخاري، الحديث رقم: 4771، وأخرجه مسلم، الحديث رقم: 204.
(3) السيرة النبوية لأبي الحسن الندوي، ص: 138.
(4) الغرباء الأوّلون، سلمان العودة، ص: 167.
(5) السيرة النبوية للصلابي (1/ 185).
(6) الفوائد لابن القيم، ص: 195.
(7) التمكين للأمة الإسلامية لمحمد السيد يوسف ، ص: 235.
(8) أخرجه مسلم، الحديث رقم: 2822.
(9) السيرة النبوية للصلابي (1/ 195 ـ 197).
(10) السيرة النبوية للصلابي (1/ 228).
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الحديثة المسلمة دعائمها ووظائفها
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/Book157.pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي: