(منهج رعاية الطفل في الإسلام)
من كتاب الدولة الحديثة المسلمة دعائمها ووظائفها:
الحلقة: الثامنة والخمسون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ربيع الأول 1443 ه/ أكتوبر 2021
الأطفال ثمرة من ثمرات الزواج ومن أهم مقاصده وأهدافه والأطفال أحد أركان الأسرة وعن طريقهم يتم بقاء النوع الإنساني، والجنس البشري، وهم أعظم نعم الحياة وزينتها، قال تعالى: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا﴾ (الكهف، آية : 46).
ويولد الطفل ضعيفاً وعاجزاً عجزاً مطلقاً، فلا حول ولا قوة، وشاءت الحكمة الإلهية أن يكون الإنسان أكثر المخلوقات حاجة لغيره بعد الولادة ويحتاج إلى أطول فترة ـ بين المخلوقات ـ معتمداً على غيره، ومفتقراً للرعاية والعناية والحضانة وغيرها، لذلك أناط الشرع الحكيم هذه المسؤولية العظيمة بالأبوين أولاً ثم المجتمع والدولة ثانياً، ووضع الشرع أحكام متعددة للأطفال، وأثبت لهم حقوقاً كثيرة، وحقوق الأولاد هي واجبات الآباء والأمهات، وقد وضع الشرع لها منهجاً في تربية الأولاد من عدة عناصر(1) أهمها:
أ ـ حسن اختيار الزوجة:
يقول علماء التربية: يجب على الوالد أن يبدأ بتربية ولده قبل الولادة وهذا ما أرشد إليه الإسلام عن طريق اختيار الزوجة، لأن خطيبة اليوم التي يقصدها الشاب هي زوجة الغد، وأم المستقبل، ومربية الأطفال والأجيال والأم هي المدرسة الأولى التي تحتضن الطفل، لترضعه لبان الأدب والتربية مع لبن الثدي والغذاء، ثم ترعاه في أول مراحل العمر، لتغرس في عقله وقلبه البذور الأولى التي ستنمو عند الكبر، وتصون فطرته عما يفسدها مع ما تهب لوليدها من صفات موروثة، وطباع مفطورة ومواهب متأصلة، فكان حُسن اختيار الزوجة من أجل الأولاد أكثر أهمية من بقية العوامل التي تطلب المرأة وهو ما أرشد إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «تخيروا لنطفكم»(2)، وقوله صلى الله عليه وسلم: «فاظفر بذات الدين تربت يداك»(3).
ويقول الشاعر حافظ إبراهيم:
الأم مدرسة إذا أعددتها
أعددت شعباً طيّب الأعراق
فالأم هي المربية للأطفال، والحاضنة للأولاد، والأمينة على الذرية والمكلفة بالإشراف عليهم، لأنها سترضع الطفل اللبن، كما سترضعه العقيدة والأخلاق والقيم، وهي ستربّي العباقرة والمصلحين الذين يتولون دفة الحكم وسفينة الإصلاح، وقيادة الجيوش، ورجال الدعوة والفكر، وبمقدار التوفيق في حسن اختيار الزوجة يكون الوالد قد أرسى حجر الأساس من الأحكام الخاصة بالحامل والمرضع لرعاية الجنين والطفل الرضيع، فأباح الشرع للحامل والمرضع مثلاً الإفطار في رمضان، وجعل الرضاعة حقاً للطفل، لما يمتاز به لبن الأم من فوائد جسمية ونفسية للطفل، وأن الرضاع واجب على الأم قضاءً وديانة وتجبر الأم عليه عند الحاجة، كما شرع الله الحضانة حقاً للأم والطفل معاً وإن أول جهد في التربية، وأول دعامة لها، هو التوجه إلى البيت، وخاصة إلى الزوجة الصالحة، والأم المربية المؤمنة الواعية، وقد كان دوماً وراء كل عظيم امرأة عظيمة أو أب عظيم أو أبوان عظيمان(4).
ب ـ رعاية الوليد:
تبدأ رعاية الوليد من جماع الأب لأم الوليد، فعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو أن أحدهم إذا أتى أهله، قال: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فقضي بينهما ولد لم يضره الشيطان إن شاء الله»(5)، ومتى تمت الولادة بدأت التربية منذ اللحظة الأولى من حياة الوليد، وهذا ما أرشد إليه الدين الحنيف وتفرد به على سائر المناهج التربوية في العالم، وكلف الوالدين بإرساء الدعائم التربوية، التي سيتم عليها بناء المستقبل، وهي آداب إسلامية، وسنن نبوية، ومنهج رباني، وأهم هذه الآداب:
الأدب الأول: الأذان والإقامة في أذني الوليد ليكون أول شيء يسمعه في هذا الوجود وهو توحيد الله تعالى، الذي خلقه، وأوجده من نطفة فعلقة فمضغة في ظلمات ثلاث، ليحقق الخلافة في الأرض ويبدأ بتنفيذ العهد الذي أخذه الله تعالى من بني آدم من ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم : ﴿أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا﴾ (الأعراف، آية : 172).
الأدب الثاني: حسن اختيار الاسم وهذا مسؤولية الوالدين لما ورد في الأحاديث الشريفة الكثيرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حقُ الولدُ على الوالد أن يُحسن اسمه ويعلّمه الكتابة ويزوجه إذا بلغ»(6).
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغير الأسماء القبيحة التي كانت في الجاهلية إلى أسماء حسنة، وإن اختيار الاسم الحسن علامة بارزة في التربية غير المباشرة، لأن كل شخص له من اسمه نصيب، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، بالإضافة إلى الأمور النفسية التي بينها علماء التربية عند المناداة باسم حسن أو قبيح وأثر ذلك على نفسية الطفل، وعلاقته مع زملائه وأفراد مجتمعه.
الأدب الثالث: تكريم الطفل بالعقيقة لإعلان السعادة والفرح والبشر بمقدم الطفل، وتكون العقيقة بذبح شاة أو أكثر عن المولود يوم أسبوعه، لإطعام الأهل والأقارب والجيران بهذه المناسبة السعيدة، وتقديم الشكر لله تعالى على فضله ونعمه، وقال جمهور العلماء: العقيقة سنة.
ج ـ رعاية الطفل من الصغر:
وذلك في مأكله ومشربه وجسده وثيابه، ليكون صحيح العقل، سوي الجسم، سليم الحواس، فإن حياة الإنسان كل لا يتجزأ، وإن حياته الجسمية في الصغر مؤشر إلى حالته في الكبر، وإن العقل السليم في الجسم السليم، والإسلام يريد منا أن نربي أولادنا على القوة والنشاط، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير»(7).
وهذه القوة تتجلى بالمعنى المادي، كما تتجلى بالمعنى الروحي أيضاً بأن يكون الطعام طاهراً ومبرءًا من كل حرام، فلا يطعم الأولاد إلا من حلال ولا تتغذى الحامل والمرضع والأم الحاضنة إلا من حلال، لأن اللبن أو الغذاء الحاصل من حرام لا بركة فيه، وكيف يقدّم الوالد إلى أولاده الغذاء الحرام، ثم يسعى إلى أن يكونوا على منهج الله، وصراط رب العالمين؟ فإن الفاسد لا يؤدي إلا إلى فساد، والحرام لا ينتج إلا سوءاً وضرراً، كما أن الحرام لا يكون وسيلة إلى المقاصد النبيلة والغاية لا تبرر الواسطة، وكل لحم نبت من السُحت فالنار أولى به، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله طيبُّ، لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا﴾، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾، ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر يمدّ يديه إلى السماء يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وغُذّي بالحرام، فأنى يستجاب له؟»(8.
ويظن كثير من الآباء أن واجبهم تجاه الأولاد ـ مقصور على تقديم القوت، والغذاء والكساء ـ وأن يؤمنوا لهم العيش الرغيد، والحياة المادية المرهقة، فيقضي الأب الأيام والسنين منهمكاً في الكسب، ويضرب في الأرض للتجارة والعمل، وسعي ذات اليمين وذات الشمال، ويغيب عن بيته زمناً طويلاً ويترك أولاده، ويغفل عن تربيتهم، ويظن أنهم صغار يكفيهم الطعام والشراب واللباس، فتكون النتيجة الضياع والحسرة. وربط القرآن الكريم بين الكسب والرزق، ووجوب التربية، وإن انصراف الوالدين بعض الوقت إلى تربية الأولاد لا يؤثر على موارد رزقهم ولا يبطل، قال تعالى: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى﴾ (طه، آية : 132)(9)
مراجع الحلقة الثامنة والخمسون:
( ) حقوق الإنسان في الإسلام، ص: 241، محمد الزحيلي.
(2) رواه ابن ماجه والحاكم، أنظر: صحيح الجامع، رقم: 2928.
(3) صحيح البخاري (5/ 1958).
(4) حقوق الإنسان في الإسلام للزجيلي، ص: 242.
(5) أخرجه الشيخان، منهج التربية النبوية للطفل، محمد نور سويد، ص: 46.
(6) رواه أبو نعيم في الحلية والديلمي في مسند الفردوس.
(7) صحيح مسلم (16/ 215).
(8 صحيح مسلم (11/ 85).
(9) حقوق الإنسان في الإسلام للزحيلي، ص: 244 ـ 245.
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الحديثة المسلمة دعائمها ووظائفها
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/Book157.pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com