تأملات في الآية الكريمة {وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ}
من كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ
الحلقة: 65
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
محرم 1444ه / أغسطس 2022م
هذا القسم الثالث الذي ذكره محمد رشيد رضا: إسماعيل واليسع ويونس ولوط، وآخر ذكرهم لعدم الخصوصية إذ لم يكن لهم من ملك الدنيا أو سلطانها ما كان للقسم الأول، ولا من المبالغة في الإعراض عن الدنيا ما كان للقسم الثاني، وقد قفى على ذكرهم بالتفضيل على العالمين، الذي جعله الله تعالى لكل نبي على عالمي زمانه، فمن كان من النبيين منهم منفرداً في عالم أو قوم كان أفضلهم على الإطلاق، وما وجد من نبيين فأكثر في عالم أو قوم فقد يكونون مع تفضيلهم على غيرهم، متفاضلين في أنفسهم، فلا شكّ أن إبراهيم أفضل من لوط المعاصر له، وأن موسى أفضل من أخيه هارون الذي كان وزيره، وأن عيسى أفضل من ابن خالته يحيى، صلوات الله عليهم أجمعين.(1)
وقد تحدث الإمام الرازي عن حكمة ترتيب ذكر الأنبياء في هذه الآيات، فقد ذكر الله عزّ وجل في هذه الآيات أربعة من الأنبياء وهم نوح وإبراهيم وإسحاق ويعقوب، ثم ذكر من ذريتهم أربعة عشر نبياً: داود وسليمان، وأيوب، ويوسف، وموسى، وهارون، وزكريا، ويحيى، وعيسى وإلياس، وإسماعيل، واليسع ويونس ولوطاً - عليهم السلام جميعاً - والمجموع ثمانية عشر،(2) فقد قال الرازي: فإن قيل: رعاية الترتيب واجبة، والترتيب إما أن يعدّ بحسب الفضل والدرجة وإما أن يعدّ بحسب الزمان والمدة، والترتيب بحسب هذين النوعين غير معتبر في هذه الآية فما السبب فيه؟
قلنا: الحقُّ أن حرف الواو لا يوجب الترتيب، وأحد الدلائل على صحة هذا المطلوب هذه الآية؛ فإن حرف الواو حاصل ههنا مع أنه لا يفيد الترتيب البتَّة، لا بحسب الشرف، ولا بحسب الزمان، وأقول عندي فيه وجه من وجوه الترتيب؛ وذلك لأنّه سبحانه وتعالى خصّ كل طائفة من طوائف الأنبياء بنوع من الإكرام والفضل، فمن المراتب المعتبرة عند جمهور الخلق: الملك والسلطان والقدرة، والله تعالى قد أعطى داود وسليمان - عليهما السلام - من هذا الباب نصيباً عظيماً.
والمرتبة الثانية: البلاء الشديد والمحنة العظيمة، وقد خصَّ الله أيوب - عليه السّلام - بهذه المرتبة والخاصية.
والمرتبة الثالثة: من كان مستجمعاً لهاتين الحالتين، وهو يوسف - عليه السّلام - فإنه نال البلاء الشديد الكثير في أول الأمر، ثم وصل إلى الملك في آخر الأمر.
والمرتبة الرابعة: من فضائل الأنبياء - عليهم السلام - وخواصهم قوة المعجزات وكثرة البراهين والمهابة العظيمة والصولة الشديدة، وتخصيص الله تعالى إياهم بالتقريب العظيم والتكريم التام، وذلك كان في حق موسى وهارون عليهما السلام.
والمرتبة الخامسة: الزهد الشديد والإعراض عن الدنيا، وترك مخالطة الخلق، وذلك كما في حق زكريا ويحيى وعيسى وإلياس- عليهم السلام -، ولهذا السبب وصفهم الله بأنهم من الصالحين.
والمرتبة السادسة: الأنبياء الذين لم يبقَ لهم فيما بين الخلق أتباع وأشياع، وهم إسماعيل، واليسع، ويونس، ولوط - عليهم السلام -، فإذا اعتبرنا هذا الوجه الذي راعيناه ظهر أن الترتيب حاصل في ذكر هؤلاء الأنبياء - عليهم السلام - بحسب هذا الوجه الذي شرحناه.(3)
وبهذا الوجه الذي ذكره الرازي -رحمه الله- يتبيَّن لنا حكمة الجمع بين هؤلاء الأنبياء الأربعة: إسماعيل واليسع ويونس ولوطاً - عليهم السلام - والله أعلم.
ومن حكمة الفصل في هذه الآيات بين إسماعيل وأبيه ويوسف وأبيه - عليهم السلام - ما ذكره البقاعي، حيث قال: فُصل بين إسماعيل وأبيه، ويوسف وأبيه - عليهم السلام - إشارة إلى فراق كل منهما لأبيه في الحياة، وأنه ما حفظ كلّاً منهما على سنن الهدى طول المدى إلا الله.(4)
مراجع الحلقة الخامسة والستون:
(1) تفسير المنار (تفسير القرآن الحكيم)، محمد رشيد رضا، (7/586-588).
(2) حديث القرآن عن إسماعيل وإسحاق عليهما السلام، د. سليمان إبراهيم الحصين، ص472.
(3) التفسير الكبير مفاتيح الغيب (تفسير الرازي)، (6/360)، ص473.
(4) نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، البقاعي، (7/172).
يمكنكم تحميل كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ
من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي