(تأملات في الآية الكريمة: {أُولَئِكَ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ}
من كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ
الحلقة: 67
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
محرم 1444ه / أغسطس 2022م
هذا هو التقرير الثاني، فقرّر في الأول مصدر الهدى وقصره على هدى الله الذي جاءت به الرسل، وقرر في الثاني أن الرسل الذين ذكرهم والذين أشار إليهم، هم الذين آتاهم الله الكتاب والحكمة والسلطان والنبوة.
و{وَالْحُكْمَ} يجيء بمعنى الحكمة كما يجيء بمعنى السلطان كذلك وكلا المعنيين محتمل في الآية، (1)و{وَالْحُكْمَ} هو الفصل بين الحق والباطل، والظلم والعدل، والصالح والفاسد، ويدبرون على الهدى والشرع،(2) و{وَالنُّبُوَّةَ} هو الوحي الذي أنزله الله عليهم.(3)
وقد أفرد الله سبحانه وتعالى النبوة بالذكر مع أن ما مضى يتضمنها؛ وذلك لشرفها، باتصالها بالله تعالى وللتصريح بالأنبياء الذين لم ينزل عليهم كتاب، ولبيان مكان العلم الذي أوتوه واتبعوه وأنه عن الله العلي الحكيم، وليرتب الحكم على الكفر بها إذ كان من العرب من كفر بالنبوة، وقال: ما أنزل الله على بشر من شيء.(4)
وقد أنزل الله تعالى - على بعض هؤلاء الرسل – الكتاب، كالتوراة على موسى، والزبور على داوود، والإنجيل على عيسى، وبعضهم آتاه الله الحكم كداود وسليمان، وكلهم أوتي السلطان على معنى أن ما معه من الدين هو حكم الله، وأن الدين الذي جاؤوا به يحمل سلطان الله على النفوس وعلى الأمور، فما أرسل الله تعالى الرسل إلا ليُطاعوا، وما أنزل الكتاب إلا ليحكم بين الناس بالقسط، كما جاء في الآيات الأُخر، وكلهم أوتي الحكمة وأوتي النبوّة، وأولئك هم الذين وكلهم الله بدينه، يحملونه إلى الناس، ويقومون عليه، ويؤمنون به، ويحفظونه، فإذا كفر بالكتاب والحكم والنبوّة مشركو العرب {هَؤُلَاءِ}، فإن دين الله غني غنهم، وهؤلاء الرهط الكرام والمؤمنون بهم هم حسب هذا الدين.(5)
إنّها حقيقة قديمة امتدت شجرتها، وموكب موصول تماسكت حلقاته، ودعوة واحدة حملها رسول بعد رسول، وآمن بها ويؤمن من يقسم الله له الهداية، بما يعلمه الله من استحقاقه للهداية، وهو تقرير يسكب الطمأنينة في قلب المؤمن، وفي قلوب العصبة المسلمة أيّاً كان عددها.
وإنَّ هذه العصبة ليست وحدها، ولا مقطوعة من شجرة، أنّها فرع منبثق من شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء، وحلقة في موكب جليل موصول، موصولة أسبابه بالله وهداه، وإنَّ المؤمن الفرد، في أي أرض وفي أي جيل، قوي قوي، كبير كبير، إنه من تلك الشجرة المتينة السامقة الضاربة الجذور في أعماق الفطرة البشرية، وفي أعماق التاريخ الإنساني، وعضو من ذلك الموكب الكريم الموصول بالله وهداه منذ أقدم العصور.(6)
وفي قوله تعالى: {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ}، وهم كل من آمن برسالة خاتم الأنبياء - عليه الصلاة والسلام - من الصحابة والتابعين لهم إلى يوم الدين، فالأمة المسلمة هي الأمة الموكَّلة بحمل الرسالة وأداء الأمانة، بعد أن ختم الله عزَّ وجل النبوة والرسالة بخاتم الأنبياء سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، ومعنى توكيلهم بها أنهم وُفّقوا للإيمان بها، والقيام بحقوقها، كما يوكّل الرجل بالشيء؛ ليقوم به ويتعهده ويحافظ عليه،(7) فالأنبياء آتاهم الله الرسالة بما أنزل عليهم من الوحي، وكلّفهم بتبليغها، بينما الأمة المسلمة وكّلت بحفظ الرسالة، والقيام عليها، ونشرها بعد أن ختمت النبوة.
إنَّ في الآية إشارة كبيرة للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وهو في مكة المكرمة، أن الله سبحانه سيُظهر دينه ويعزّ رسالته، ويمكّن له في الأرض، وفيها أيضاً تنويه بفضل الصحابة رضي الله عنهم من المهاجرين والأنصار الذي وكّلهم الله تعالى على رسالته، وجعلهم الحمَلة والحفظة لأمانته، وتنويه أيضاً بفضل الأمة الإسلامية وبيان مسؤوليتها الكبيرة في حمل رسالة الإسلام وحفظها ونشرها بين الناس.
كما تدلّ الآية الكريمة على كمال الشريعة الإسلامية، فكتابها القرآن الكريم الذي تعهّد الله تعالى بحفظه وحكمُها سنُّة النبي صلّى الله عليه وسلّم المبيّنة لأحكام الكتاب الكريم ونبوّتها خاتمة النبوات، فبِه عليه الصلاة والسلام اكتملت شجرة النبوة وخُتمت كما قال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} ]الأحزاب:40[.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: "مَثَلي ومَثل الأنبياء من قبلي، كمثل رجل بني بنياناً، فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه، فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له ويقولون: هلّا وُضعت هذه اللبِنة، فأنا اللبِنة، وأنا خاتم النبيين".(8
مراجع الحلقة السابعة والستون:
(1) في ظلال القرآن، سيد قطب، (2/1144).
(2) زهرة التفاسير، الإمام محمد أبو زهرة، (5/2580).
(3) التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم، (2/473).
(4) زهرة التفاسير، الإمام محمد أبو زهرة، (5/2581).
(5) في ظلال القرآن، سيد قطب، (2/1144).
(6) المرجع نفسه، (2/1144).
(7) مدارك التنزيل وحقائق التأويل (تفسير النسفي)، (2/241).
(8 صحيح البخاري، رقم (3535)، التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم، (2/474).
يمكنكم تحميل كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ
من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي