تأملات في الآيتين الكريمتين {وَمِنْ آَبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ* ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
من كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ
الحلقة: 66
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
محرم 1444ه / أغسطس 2022م
1. قال تعالى: {وَمِنْ آَبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}]الأنعام: 87[
هناك مجموعة رابعة لأنبياء لم يذكرهم الله تعالى في كتابه من ذرية إبراهيم، ولكنهم من ذوي قرابتهم أو من جنس الأنبياء، وإن لم يكن لهم قرابة إلا أخوة الأنبياء، فقد قال تعالى: {وَمِنْ آَبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ}، أي جعلنا أنبياء أخلصوا وجوههم لله من آبائهم وذرياتهم وإخوانهم، كإدريس وشعيب وهود، وصالح- عليهم السلام – وغيرهم، وقد اجتبيناهم أي اصطفيناهم واخترناهم للرسالة الإلهية، وهديناهم إلى صراط مستقيم من الحقّ، لا اعوجاج فيها ولا التواء والصراط الطريق، وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} ]الأنعام:153[، والصراط المستقيم هو صراط الحق جلّ جلاله ومن سار فيه لا يضل ولا يغوى.(1)
2. قال تعالى: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ]الأنعام: 88[
هذا تقرير لينابيع الهدى في هذه الأرض، فهُدى الله للبشر يتمثل فيما جاءت به الرسل، وينحصر المستيقن منه، والذي يجب اتباعه في هذا المصدر الواحد، الذي يقرر الله سبحانه أنه هو هدى الله، وأنه هو الذي يهدي إليه من يختار من عباده، ولو أن هؤلاء العباد المهديين حادوا عن توحيد الله وتوحيد المصدر الذين يستمدون منه هداه، وأشركوا بالله في الاعتقاد أو العبادة أو التلقي، فإنّ مصيرهم أن يحبط عنهم عملهم: أي أن يذهب ضياعاً، ويهلك كما تهلك الدابة التي ترعى نبتاً مسموماً، فتنتفخ ثم تموت، وهذا هو الأصل اللغوي للحبوط.(2)
ويقول الإمام محمد أبو زهرة: وإن ما عليه أولئك النبيّون من صبر في النعماء والضراء، والقوة والضعف، والشدة والرخاء، ومن سيطرة الروح على الجسد، وجعله خادماً لمطالب الحياة، والعزّة التي لا ذلّة فيها، والتواضع الذي لا ضعة فيه، هذه هي الهداية تؤخذ من أخلاق النبوة، هذا هدى الله تعالى؛ ولذا قال تعالى بعد قصص الأنبياء السابقين: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}، والإشارة هنا للتقييد، وهو ما ذكر من إحسان الأنبياء وروحانيتهم، وما فعلوا من خير هو هدى الله تعالى المنسوب إليه؛ المطلوب من العباد من ابتاع النبيين، يختار الله من عباده من يهديه، إذا سار في طريق الخير، واتّبع سواء السبيل، فإنه إن اتّجه إلى الله هداهُ الله، وإن اتّجه إلى الشيطان، أكسبه الله تعالى فضلاً، وفي نفسه أسباب الهداية، ولكنه طمسها بإغواء الشيطان.(3)
وقد قال تعالى: {مِنْ عِبَادِهِ}، فالجميع عبيد الله تعالى يهدي إلى الحق من كتب الله له الهداية على النحو الذي بيّنّاه، وإن هؤلاء وصلوا إلى ما وصلوا بالوحدانية: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، "لو" كما يقول النحويّون: حرف امتناع لامتناع، امتناع الجواب لامتناع الشرط، أي لو أشركوا، وهو ممتنع عليهم لاختيار الله، لحبطت أعمالهم، وهو أيضاً ممتنع لامتناع الشرط وحبوط الأعمال بطلانها كأنها لم تكن، أي يذهب ما في الأعمال من الخير ولسُلِبت منهم الهداية، فالشرك يمحو كل خير، ويذهب بكل عمل نافع، وما يفعله المشركون من خير يكفرونه.
والشرط هنا مع امتناعه وامتناع الجواب للتحريض على الوحدانية، وترك الشرك تركاً تاماً، وبيان أنه يحبط كل عمل يظن فيه الخير، ألا ترى أنه يحبط عمل الأنبياء وهداهم، فكيف لا يحبط عمل من دونهم، فالنصّ تقبيح للشرك أيّاً كانت صورته، وحثّ لهم على الخير، وحمايته بالوحدانية.(4)
قال الرازي: اعلم أنه يجب أن يكون المراد من هذا الهدى هو معرفة التوحيد وتنزيه الله تعالى عن الشرك؛ لأنه قال بعده: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، وذلك يدلّ على أن المراد من ذلك الهدى ما يكون جارياً مجرى الأمر المعاند للشرك، وإذا ثبت أن المراد بهذا الهدى معرفة الله بوحدانيته، ثم أنه تعالى صرّح بأن ذلك الهدى من الله تعالى، ثبت أن الإيمان لا يحصل إلا بخلق الله تعالى، ثم ختم تعالى هذه الآية بنفي الشرك {وَلَوْ أَشْرَكُوا}، والمعنى: أن هؤلاء الأنبياء لو أشركوا لحبط عنهم طاعاتهم وعبادتهم، والمقصود منه تقرير التوحيد وإبطال طريقة الشرك.(5)
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: قال الله تعالى: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه معي غير، تركته وشركه".(6)
مراجع الحلقة السادسة والستون:
( ) زهرة التفاسير، الإمام محمد أبو زهرة، (5/2579).
(2) في ظلال القرآن، سيد قطب، (2/1144).
(3) زهرة التفاسير، الإمام محمد أبو زهرة، (5/2579).
(4) زهرة التفاسير، الإمام محمد أبو زهرة، (5/2580).
(5) التفسير الكبير مفاتيح الغيب (تفسير الرازي)، (5/54).
(6) صحيح مسلم، (4/2289).
يمكنكم تحميل كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ
من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي