الأحد

1446-11-06

|

2025-5-4

تأملات في الآية الكريمة: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ}

من كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ

الحلقة: 89

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

صفر 1444ه / سبتمبر 2022م

 

بعد ما حدث منهم من لجج وجدال بالباطل أقسم إبراهيم - عليه السّلام - {وَتَاللَّهِ}، والتاء من حروف القسم ولا تستعمل إلا مع اسم "الله" الجليل(1).

ولفظ {لَأَكِيدَنَّ} بهذا التأكيد بالقسم واللام والنون المشددة، يوحي بالتصميم على وضع خطة عمل ينفذ من خلالها ذلك القرار الشجاع، لكن التنفيذ محاطٌ بعقبات عديدة، ومخاطر شديدة(2).

وهذا اللفظ يشعر بأن إبراهيم اتخذ هذا القرار الحاسم الذي لا رجعة عنه، وإذا أمْعَنّا النظر في لفظ {لَأَكِيدَنَّ} وما جاء به من معاني التفكير والنظر والتدبير من أجل الوصول إلى حيلة ينفذ بها إلى هذه الأصنام... إلخ، كل ذلك لا يخرج عن معنى التخطيط بالمفهوم الإداري الحديث، فالعناصر الأساسية لعملية التخطيط مكتملة في هذا المشهد: الأهداف، التنبؤ "هو نشاط ذهني مسبق يساعد على اتخاذ القرار السليم"، السياسات، الإجراءات، الوسائل والإمكانات(3).

وكان الهدف واضحاً في ذهن إبراهيم - عليه السّلام - وهو دعوة أبيه وقومه إلى عبادة الله وحده، والكفر بكل ما يعبد من دون الله، وأما عنصر التنبؤ، فقد ظهر في قوله: {لَأَكِيدَنَّ}، فهو يتنبأ بالفكرة وصعوبة الفعل وخطورته، كما نجد التنبؤ -أيضاً- في توقعه إجابتهم، عندما طلب منهم أن يسألوا الأصنام المكسرة(4).

ونجد الآن البعض يدعو إلى ما أسماه بــــ "تحليل الحوار"، ويُعنى به تحديد تصوّر مسبق للنتيجة المؤملة من الحوار قبل البدء به، وجمع المعلومات والشواهد المساعدة(5).

وأما سياسة الهدف، فهي دعوتهم إلى ترك عبادة الأصنام، فإن لم يستجيبوا فيكون إقناعهم بتكسيرها وإثبات عجزها عن دفع الضرِّ، أو جلب النفع لنفسها فضلاً عن غيرها، ويظهر الترتيب الإجرائي بتحديد المنفّذ للعمل، وهو إبراهيم - عليه السّلام - كما في ضمير المتكلم {لَأَكِيدَنَّ}، ثم تحديد المستهدف {أَصْنَامَكُمْ}، وتحديد الزمن بدقة: {بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} أي: بعد أن تولوا مدبرين في عبادتهم إلى عبدكم، وأما الوسيلة فهي التسلل إلى هذه الأصنام وتكسيرها قطعة قطعة إلا كبيرها؛ ليبقى شاهد على سخافة عقولهم وضعف أحلامهم(6).

وقد اختار إبراهيم - عليه السّلام - الوقت المناسب لتحطيم الأصنام، وكان موفقاً في الاختيار غاية التوفيق؛ فكان في يوم عيدهم وهو أنسب يوم لتنفيذ هذه العملية الجريئة؛ لأنه يوم غفلة للناس، ينسون فيه الأحقاد والعداوات، وجاء هذا اليوم الموعود – يُقال هو يوم عيد النيروز - حيث يخرج الناس فيه إلى الحدائق والخلوات تاركين أصنامهم بعد أن يضعوا الثمار والأطعمة بين يديها لتباركها، ثم يعودون بعد الفسحة والمرح فيأكلونها، وقد طلب الناس من إبراهيم - عليه السّلام - أن يخرج معهم في هذا اليوم ليشاركهم في عيدهم، ولكن إبراهيم - عليه السّلام - اعتذر عن الخروج لتنفيذ الخطة التي أعدّها، فقال لقومه بعد أن قلّب نظره في السماء: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90)} ]الصافات:88-90[.

لقد اعتذر عن الخروج بسبب ظاهر لقومه أنه مريض، وهو في الحقيقة متضايق داخلياً من إصرارهم على كفرهم، وعبّر عن هذا الضيق بقوله: {إِنِّي سَقِيمٌ}؛ ليتركوه وشأنه، ولم يكن هذا كذباً منه بالمعنى الشرعي؛ لأنه نوع من التورية حيث يقول كلاماً له معنيان؛ معنى متبادر إلى الذهن لا يقصده، ومعنى آخر غير متبادر إلى الذهن يقصده، فكّر القوم أنه مريض جسدياً فتركوه، وهو في الحقيقة عليل النفس، حزين الفؤاد على إشراك قومه وإصرارهم على عبادة آلهتهم وعدم الانصياع إلى دعوته(7).

ولم يكن هذا كذباً منه إنما كان له أصل في واقع حياته في ذلك اليوم وإن الضيق ليُسقم ويُمرض ذويه وكان القوم معجلين ليذهبوا مع عاداتهم وتقاليدهم ومراسم حياتهم فذ ذلك العيد، فلم يتلبثوا ليفحصوا عن أمره بل تولوا عنه مدبرين مشغولين بما هم فيه، وكانت هذه هي الفرصة التي يريد(8).

وقد طرح الشيخ العلامة محمد متولي الشعراوي (رحمه الله) سؤالاً، فقال: وهل الأصنام تُكاد أم أن المراد "لأكيدنّكم في أصنامكم"؟ فالأصنام كمخلوق من مخلوقات الله تسبح لله وتشكر إبراهيم - عليه السّلام - على هذا العمل.

وما أجمل ما قاله الشاعر في هذا المعنى حين تكلم بلسان الأحجار في غار حراء وغار ثور، حيث كانت الحجارة تغار وتحسد حراء؛ لأنَّ المصطفى صلّى الله عليه وسلّم كان يتعبّد به قبل البعثة، فحراء شاهد تعبُّد رسول الله يزهو بهذه الصحبة، فلما نزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بغار ثور عند الهجرة فرح ثور؛ لأنّه صار في منزلة حراء.

يقول الشاعر:

كَمْ حَسَدْنَا حِرَاءَ حِينَ تَرَى

الرُّوحَ أميناً يغزُوك بالأَنْوارِ

فَحِرَاءُ وثَوْرٌ صَارَا سَواءً

بهِمَا تشفع لدولةِ الأحْجَارِ

عَبَدُونَا ونحْنُ أعبَدُ

لله مِنَ القائِمينَ بالأسْحَارِ

تخِذُوا صَمْتَنَا عليْنَا دَليلاً

فَغدَوْنا لَهُمْ وقُودَ النَّارِ

قَدْ تَجنَّوا جَهْلاً كمَا قَدْ

تجَنَّوا علَى ابنِ مَرْيَمَ والحوَارِي

لِلمُغَالِي جَزَاؤهُ والمُغَالَى فيهِ

تُنْجِيهِ رَحْمَةُ الغَفَّارِ

إذن: فتحطيم الأصنام ليس كيداً للأصنام، بل لعبّادها الذين يعتقدون فيها أنّها تضرّ وتنفع، وكأن إبراهيم - عليه السّلام - يقيم لهؤلاء الدليل على بطلان عبادة الأصنام، إنّه الدليل العملي الذي لا يُدفع، وكأن إبراهيم يقول بلسان الحال: حين أكسر الأصنام، إن كنت على باطل فليمنعوني وليردّوا الفأس من يدي، وإن كنت على حق تركوني وما أفعل، وقوله تعالى: {بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} أي: بعد أن تنصرفوا عنها، يعني: على حين غفلة منهم(9).

 

مراجع الحلقة التاسعة والثمانون:

(1) التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم، (5/364).

(2) صناعة الحوار، حمد عبد الله السيف، ص198.

(3) المرجع نفسه، ص199.

(4) المرجع نفسه، ص199.

(5) المرجع نفسه، ص200.

(6) صناعة الحوار، حمد عبد الله السيف، ص200.

(7) الأنبياء في القرآن، سعد صادق محمد، ص111.

(8) قصة إبراهيم في القرآن الكريم، إسحاق محمد حمدان البدارين، ص83.

(9) تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، (15/9579).

يمكنكم تحميل كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ

من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي

http://alsallabi.com/uploads/books/16228097650.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022