الأحد

1446-11-06

|

2025-5-4

تأملات في الآية الكريمة {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ}

من كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ

الحلقة: 85

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

صفر 1444ه / سبتمبر 2022م

 

جاءت {إِذْ} هنا للوقت الماضي، وهي مفعول لفعل محذوف تقديره "اذكر"، والخطاب لمحمد صلّى الله عليه وسلّم، والمعنى اذكر لقومك من مشركي العرب الذين يفخرون به نسباً ويدّعون اتباعه كيف جاهد قومه من هذا الشرك.(1)

ويتجلى من هذه المقالة حرص إبراهيم - عليه السّلام - بشكل خاص على انتشال أبيه قبل غيره من حضيض الشرك لما بين الأب والابن من علاقة خاصة لا تقوى قوتها بقية العلاقات، وفي الوقت نفسه اهتمَّ إبراهيم - عليه السّلام - بانتشال بقية قومه من الهوة نفسها التي تردوا فيها جميعاً، وهذا الاتجاه الرامي إلى إنقاذ العشيرة الأقربين من الضلال قبل غيرهم أكده كتاب الله في خطابه لخاتم الرسل إذ قال تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} ]الشعراء:214[، ومن هذه المقالة يتجلى رشد إبراهيم - عليه السّلام - وحذره من إلقاء الكلام على عواهله، ولذلك لم يطلق على الأصنام التي مان يعبدها أبوه وقومه اسم الآلهة كما كانوا يعبرون عنها، وإنما أطلق عليها مجرد لفظ التماثيل.(2)

ويتضح لنا - في هذا المشهد - الحب والنصح للآخرين والحرص على هدايتهم وهذه سمة في شخصية إبراهيم - عليه السّلام - منذ انطلاقه في الدعوة إلى الله، كما أننا نشعر بالصدق والحرص على إنقاذ أبيه وقومه من خلال هذه الجملة، فهو تودد إلى أبيه بذكر صفى الأبوة دون اسمه العلم، إشارة إلى إخلاص إبراهيم لأبيه ومحاولة إنقاذه وقومه من الهلاك، ولذلك تلطف في الإنكار عليهم في بداية محاورتهم، فصاغه على صورة المستفهم العالم فيما يعرف في علم البديع بــــ "تجاهل العارف" تلطفاً بهم وتمهيداً لتخطئتهم بعد أن يسمع جوابهم.(3)

وقد رسم الحوار في هذه الآيات الكريمة جيل عاكف على الأصنام والتماثيل، يعظمونها ويبتهلون إليها بشكل مستمر، كما يوحي به التعبير بلفظ "عاكفون" الذي يعني الإقامة على الشيء وملازمته، والإتيان باسم الفاعل ضاعف هذا المعنى، وقد يكون المقصود اعتكاف القلوب عليها، وتوجه الفكر إليها في كل وقت، ويشير السّياق إلى غلو هؤلاء القوم في عبادتهم للأصنام، فقد كان آباؤهم مجرد "عابدين" بينما تحول جيلهم اللاحق إلى "عاكفين"، لقد زادوا وبالغوا في وراثة الضلال والشرك بالله رب العالمين.(4)

وكشفت تساؤلات إبراهيم - عليه السّلام - لهؤلاء القوم عن التحجر العقلي الذي تتسم به هذه الشخصيات، لقد رضيت من العقل بمجرد اتباع الآباء والأجداد مهما كان اختيارهم فاسداً ومهما كان دينهم باطلاً.(5)

وإذا تأملنا في حوار إبراهيم - عليه السّلام - تتضح لنا مهارته في استدراجه الذكي لقومه في استفهامه الموجه {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ}، إنه سؤال عن شيء معلوم بالنسبة للسائل، لكنه ينطوي على تحقير مبطن لشأن المسؤول عنه.(6)

يقول الإمام محمد أبو زهرة: في قوله تعالى: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ}، التماثيل: جمع تمثال، وهو الصورة المجسمة للإسنان أو للحيوان وأكثر ما يكون الآلهة لصورة إنسان، وكانت التماثيل عند اليونان والرومان، وكانوا يعبدونها أو يسمونها آلهة، فيقولون إله الحب، وإله الزرع، وإله العدالة، والعكوف: الإقبال على الشيء وملازمته على سبيل التعظيم له وعبادته، والاستفهام مُنصبٌ على سؤاله عن هذه الأصنام التي عكفوا عليها يعظمونها ويعبدونها، وهو يتضمن أولاً الاستهانة بها وتحقيرها بالإشارة؛ لأن الإشارة تتضمن أنّها حجارة محسوسة لا تضرّ ولا تنفع، ويتضمن ثانياً استنكار العكوف عليها وعبادتها والاستفهام ليس عن الماهية، بل عن أوصافها، وتنبيه إلى أنّها لا تضرُّ ولا مسوّغ لعبادتها؛ لأنَّ ليس فيها صفات الألوهية التي توجب العبادة، ولم يجيبوا عن سؤاله؛ لأن ظاهره أنه يطالبهم بمسوّغ للعبادة، وقد فروا من الإجابة المسوغة إلى قولهم: {قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ}.(7)

 

مراجع الحلقة الخامسة والثمانون:

(1) زهرة التفاسير، الإمام محمد أبو زهرة، (9/4881).

(2) التيسير في أحاديث التفسير، محمد المكي الناصري، (4/130-132).

(3) صناعة الحوار، حمد عبد الله السيف، ص95.

(4) المرجع السابق، ص100.

(5) المرجع نفسه، ص100.

(6) المرجع نفسه، ص371.

(7) زهرة التفاسير، الإمام محمد أبو زهرة، (9/4882).

يمكنكم تحميل كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ

من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي

http://alsallabi.com/uploads/books/16228097650.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022