الأحد

1446-11-20

|

2025-5-18

تعرض تاريخ وسيرة الأمير عبد القادر الجزائري (1807 – 1883م) لحملات تشويه مركزة ومنظمة، واختلق له المستشرقون والمستغربون التهم والأكاذيب، فقد اتهم الأمير عبد القادر بأنه تعاطف مع الماسونيين ثم انتسب إلى محافلهم. وقد روّج لهذه الدعاية الكولونيل وليام تشرشل، صاحب كتاب “حياة عبد القادر”، ثم نقل عن وليام تشرشل هذه الفرية وأذاعها مفكرون عرب، كأمثال جرجي زيدان ومن سار على نهجه الملتوي. وبجرة قلم أعلنت الحركة الماسونية بعد وفاة الأمير عبد القادر في 26 ماي عام 1883م، أنه انتسب إليهم واحتفوا به ونعتوه، وزعموا أن هناك نصوصًا ماسونية موثقة تثبت انتماء الأمير للحركة الماسونية، وأنه كلف من قبل الحكومة الفرنسية بمهمات لإنقاذ المسيحيين في الأحداث الدامية التي وقعت في دمشق عام 1860م، فقدر نابليون الثالث هذه المبادرة، وقلد الأمير عبد القادر وسام الشرف الفرنسي، وزاد عليه بالجوهرة أو الرمز المعدني عرفاناً له بجهوده وفضله.

لا تورد أيًا من الروايات التاريخية المعروفة بمصداقيتها بأن الأمير عبد القادر كان ماسونيًا أو خادمًا لفرنسا وقنصلها في دمشق، والمبادرة التي قام بها الأمير كانت نابعة من واجب وطني وأخلاقي وديني، ولم تكن لدنيا يصيبها أو وسام يبتغيه. فيما دعته المحافل الماسونية جاهدة للانتساب إليها، مثل محفل هنري الرابع، الذي أرسل إلى الأمير في 16 سبتمبر 1860م كتابات شكر وتقدير، واعتراف للأمير في عدة رسائل أخرى بالحب للإنسانية جمعاء، واقترح عليه أن يكون عضواً في المحفل دون أن يكون عضوًا مكرسًا، لأنه من الرجال العظماء، فهذا ثابت تاريخياً ولا جدال فيه.

ولكن من يستطيع أن يمنع أحداً من الكتابة للغير وأن يشكره ويقترح عليه أمورًا قد يراها بصدق أو بنية تناسب قدر من اقترحت عليه ويقدم له هدية، وإذ حاولت المحافل الماسونية في كتاباتها أن تستفيد من اسمه وتكذب عليه محاولة من خلال هذا الكذب والزور أن ينشر أفكارها الهدامة في المجتمعات العربية والإسلامية بالمشرق، فليس هذا من ذنب الأمير عبد القادر. وفوق هذا كله نسبوا إلى الأمير مقولة بأنه لم يلمس في المبادئ الماسونية ما يتعارض وشريعة القرآن الكريم والسنة والفقه الإسلامي، وهذا من الافتراء والكذب المبين.

حاولت الحركة الماسونية فعل كل ما في وسعها لتجعل الأمير عبد القادر أحد المنتسبين إليها، ولكنها لم تفلح، وكل ما ذكر في تاريخهم عن الأمير مثل الأسئلة عن واجبات الإنسان تجاه الله وتجاه الإنسانية، أو الأسئلة حول خلود النفس والمساواة والإخاء والحرية، أو حضوره في محفل الأهرام في الإسكندرية أثناء عودته من الحجاز في عام 1864م، أو في محفل هنري الرابع للشرق الكبير الفرنسي في عام 1865م، وقصة التكريس والامتياز والدرجات الماسونية الثلاثة وغيرها من أكاذيب، فلا أصل لها وهي من نسج خيالهم ومنى أنفسهم.

ألا يرى معي القارئ أن هدف هذه الافتراءات والشبهات، هو أوسع مما يدركه الإنسان للوهلة الأولى، ويعني الدعاية لهذه الجمعية في الجزائر بصورة خاصة وفي العالم الإسلامي بشكل عام؟، فهذا المجاهد هو رمز كفاح أمة وقدوة لعدد كبير من أبناء الشعب الجزائري والشعوب العربية والإسلامية الحرة.

في الحقيقة، فإن تجربة الماسونية لم تقف عند دعوة أو اتهام الأمير عبد القادر بالانتماء لها، بل هي جزء من الحركة الاستعمارية الفرنسية التي كانت أخذت تهيمن على مناطق شمال إفريقيا، فمثلًا في عام 1858م فتح في تونس محفل لأطفال قرطاجة برئاسة أنطونيو فينا، وعدد من المحافل جاءت من فرنسا وإنجلترا وإيطاليا ومحفل “المثابرة” برئاسة بامبيو. وفي الجزائر كانت المحافل الماسونية سرية جداً ولم يعلن عنها، وعرفت من وثائقها أثناء الحرب العالمية الثانية، حينما أمرت حكومة فيشي بحل الجمعيات السرية ومصادرة وثائقها، فعرف أن محفل أطفال مارس سكيكدة (فتح سرًا عام 1814م) في شارع يوغرطة برئاسة ألبيرت أوبارتين، وبولاية قسنطينة محفل “نجمة الساحل”، ومحفل “أخوة كلاماً” في قالمة، الذي كان يحث في جميع محاضراته العلنية على الطاعة والعمل على تحقيق مجتمع إنساني متضامن حر بعيد عن الله وعن الدين، ثم محفل “سرتا” في قسنطينة ولا يعرف تاريخ لتأسيسه، وشعاره عين الإنسان تحتها مثلث وسطه نجمة خماسية ومطرقة.

وتحدث الأستاذ يوسف مناصريه عن انتشار المحافل في الجزائر وخاصة في الشرق الجزائري ومناطق القبائل في بجاية وغيرها، ومنها محفل “الوفاق الطائفي” بسطيف، ومحفل “جون جوريس” ومحفل “نوميديا” بسوق الأهراس. ويذكر الباحث أن غاية هذه المحافل هي الوحدة، والهدف منها منع تعليم أبناء المسلمين اللغة العربية والقرآن في المدارس والكتاتيب بطرق سرية للغاية، ولكن المعلن كان محاربة الأديان بشكل عام، وسحق هذه الأديان وإزالة رجالها من طريق الماسونية العالمية.

إن كل الرسائل التي جاءت من المحافل الماسونية من رسائل التقدير والاحترام إلى الأمير عبد القادر، هي بمناسبة إنقاذه خمسة عشر ألف مسيحي في دمشق، والقضاء على الفتنة الطائفية، وهي تبين حقيقة واضحة في عدم وجود أي نص أو إشارة في الرسائل المذكورة يُفهم منها أن المرسل إليه كان عضوًا من أعضائها. وفي عام 1860م أرسلت الجمعية الفرنسية المعروفة باسم “جمعية عمل الخير وإعانة المصابين في البر والبحر” كتاباً بمناسبة دفاعه عن المسيحيين بالشام جاء فيها:

“إن جمعية المصابين المؤلفة من أعيان الأمصار ووجوه المدن الشهيرة في فرنسا، اتفقت كلمتها على أن يكون الأمير عبد القادر رئيس شرف لها اعترافاً بما أبداه من أعمال الخير الجسيمة في سورية عام 1860م، وبناء على ذلك بعثت إليه بهذه الرقيم في جوان 1862م”. وفعلت مثل ذلك الجمعية الأمريكية الشرقية، فقرر مجلس إدارتها اعتبار الأمير عبد القادر عضو شرف فيها، وأرسلت إليه رقيماً في 1860م، وكذلك جمعية حماية المدن في فرنسا. وفي تلك المناسبة ذاتها وصلت الأمير مئات من رسائل التقدير والأوسمة الرفيعة من حكام العالم وزعمائه ومفكريه ..الخ.

ومن المؤكد أن هذه الرسائل والرُقم والهدايا قد اطلع عليها أبناء الأمير العشرة وبناته الستة وأزواجهن وأولاد أخوته، وكان من بين هذه الأشياء كتب التقدير هذه المومي إليها من هذه المحافل التي انتهزت فيما بعد فرصة وجود الأمير في مصر في أكتوبر من عام 1869م عندما دعا إسماعيل باشا، خديوي مصر، الأمير عبد القادر لحضور حفل افتتاح قناة السويس. وفي تلك المناسبة زاره في مقرّ إقامته عدد كبير من الشخصيات العالمية ومندوبو بعض الجمعيات الخيرية، كالجمعية الفرنسية وأوفدت إليه هيئة من أعضائها شرحت له مبادئ الماسونية وخدمتها للإنسانية، ولكن الأمير أبداً لم يدخل فيها ولم يدعوا إليها، وإنما كانت دعوته للإسلام جلية وواضحة.

الحلقة الأولى

يتبع

(المصدر: جريدة الحوار الجزائرية)


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022