السبت

1446-11-19

|

2025-5-17

متى بدأت الدولة الأيوبية؟

يختلف المؤرِّخون حول تاريخ ابتداء الدولة الأيوبية:

  • فالبعض يجعله منذ تولِّي صلاح الدين الأيوبي الوزارة من الخليفة الفاطمي العاضد لدين الله سنة 564هـ/1169م[1].
  • والبعض الآخر يجعله مع إعادة الخطبة في مصر للخليفة العباسيِّ التي تلاها وفاة العاضد لدين الله وانتهاء الخلافة الفاطمية 567هـ / 1171م.

صحيح أن سلطة صلاح الدين بدأت منذ تولِّيه الوزارةَ؛ ليدعمها بخطوة القضاء على الدولة الفاطمية؛ لكنه من الناحية الشرعية كان لا يزال تابعًا لسلطة نور الدين محمود الذي ما لبث أن توفِّي سنة 569هـ / 1174م، ولذلك فإن سنة الوفاة هذه هي برأينا تاريخ ابتداء الدولة الأيوبيَّة التي اعترف بها الخليفة العباسي المستضيء بالله سنة 570هـ / 1175م[2].

 مبحث: الرصيد الخُلقي لصلاح الدين:

تميَّزت شخصية السلطان صلاح الدين الأيوبيِّ برصيد أخلاقيٍّ كبير، ساعده على تحقيق أهدافه العظيمة، التي من أهمِّها: الشجاعة، والكرم، والوفاء والتسامح، والحِلم، والعدل والعفو، والمروءة، وشدة لجوئه إلى الله، ومحبَّته للجهاد، وصبره واحتسابه، وحِرصه على العلم، والتواضع...، إلخ.

وإليكم أظهرَ هذه الصفات، وأَمْيَزَ هذه الأخلاق:

أولًا تقواه وعبادته:

قال تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا ﴾ [الأعراف: 96]، وتقوى الله وتحقيق العبودية الشاملة لله تحفظُ العبد من كيد الأعداء ومكرهم؛ قال تعالى: ﴿ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ﴾ [آل عمران: 120]، ولا شكَّ أن تقوى الله وعبادته والخشية منه، وحسن الظن به، والاعتماد عليه - هي أول ما يجب أن يمتاز به المسلم، وأفضل ما ينبغي أن يتَّصِف به؛ لأن ذلك يجعل المسلم أسدًا كاسرًا لا يعرف الهزيمة، وبطلًا مِقدامًا لا يهاب المنيَّة، وشجاعًا كرّارًا لا يخشى جبّارًا، ولا يهاب عدوًّا، وهذه السِّمة من الإيمان والعبادة قد تحقَّقت في القائد البطل صلاح الدين[3].

 

وإليكم ما كتبه القاضي بهاء الدين المعروف بابن شداد، الذي عاصره واجتمع به وعرف أخباره، فحدَّثنا عمَّا رأى:

1- عقيدته: وكان رحمه الله حسن العقيدة، كثير الذكر لله تعالى، قد أخذ عقيدته عن الدليل، بواسطة البحث مع مشايخ أهل العلم وأكابر الفقهاء، فتحصَّل من ذلك سلامة عقيدته عن كدر التَّشبيه، غير مارق سهم النظر فيها إلى التَّعطيل والتَّمويه، جارية على نمط الاستقامة، موافقة لقانون النظر الصحيح مرضية عند أكابر العلماء، وكان رحمه الله قد جمع له الشيخ الإمام قطب الدين النيسابوريُّ رحمه الله عقيدة تجمع جميع ما يحتاج إليه في هذا الباب، وكان من شدة حرصه عليها يعلِّمها الصغار من أولاده حتى ترسخ في أذهانهم في الصغر، ورأيته وهو يأخذ عليهم وهم يقرؤونها من حفظهم بين يديه رحمه الله.

2- الصلاة: وأما الصلاة، فإنه رحمه الله كان شديدَ المواظبة عليها بالجماعة، حتى إنه ذكر يومًا أن له سنين ما صلَّى إلا جماعة، وكان إذا مرض يستدعي الإمام وحده ويكلِّف نفسه القيام، ويصلِّي جماعة، وكان يواظب على السنن الرواتب، وكان له ركعات يصلِّيها إذا استيقظ بوقت في الليل، وإلا أتى بها قبل صلاة الصبح، وما كان يترك الصلاة ما دام عقله عليه، ولقد رأيته - قدَّس الله روحه - يُصلِّي في مرضه الذي مات فيه قائمًا، وما ترك الصلاة إلا في الأيام الثلاثة التي تغيَّب فيها ذهنه، وكان إذا أدركته الصلاة وهو سائر نزل وصلَّى[4].

 3- الزكاة: وأما الزكاة، فإنه مات رحمه الله تعالى ولم يحفظ ما وجبت به عليه من الزكاة، وأما صدقة النقل، فإنها استنفدت جميع ما ملكه من الأموال، فإنه مَلَك ما ملك، ومات ولم يخلِّف في خزانته من الذهب والفضَّة إلا سبعةً وأربعين درهمًا ناصرية، وجرمًا واحدًا ذهبًا صُوريًّا، ولم يخلف مُلكًا ولا دارًا ولا عقارًا ولا بستانًا، ولا قرية ولا مزرعة، ولا شيئًا من أنواع الأملاك، رحمة الله عليه.

 4- صوم رمضان: فإنه كان عليه منه فوائت بسبب أمراض تواترت عليه في رمضانات متعدِّدة، وكان القاضي الفاضل قد تولَّى ثبت تلك الأيام، وشرع رحمه الله في قضاء تلك الفوائت بالقدس الشريف في السنة التي توفِّي فيها، وواظب على الصَّوم مقدارًا زائدًا على شهر، فإنه كان عليه فوائت رمضانينِ، شغلته الأمراض ومُلازمة الجهاد عن قضائها، وكان الصَّوم لا يوافق مِزاجه، فألهمه الله تعالى الصَّوم بقضاء الفوائت[5]، فكان يصوم وأنا أُثبتُ الأيام التي يصومها؛ لأن القاضي كان غائبًا، والطبيب يلومه وهو لا يسمع، ويقول: (لا أعلم ما يكون)، فكأنه كان مُلهمًا ببراءة ذمَّته رحمة الله عليه، ولم يزل حتى قضى ما كان عليه[6].

 5- وأما الحج: فإنه كان لم يزَل عازمًا عليه، وناويًا له، لا سيَّما في العام الذي تُوفِّي فيه، فإنه صمَّم العَزْمَ عليه، وأمر بالتأهُّب وعُمِلت الرَّفادة ولم يبقَ إلا المسير، فاعتاق عن ذلك بسبب ضيق الوقت، وفراغ اليد عمَّا يليق بأمثاله، فأخَّره إلى العام المستقبل، فقضى الله ما قضى، وهذا شيء اشترك في العلم به الخاصُّ والعامُّ[7].

 6- سماعه للقرآن الكريم: وكان رحمه الله يحب سماع القرآن العظيم، حتى إنه كان يتخيَّر إمامه، ويشترط أن يكون عالِمًا بعلوم القرآن العظيم، متقنًا لحفظه، وكان يستقرئ من يحضره في الليل وهو في بُرجه[8]، الُجزأين والثلاثة والأربعة وهو يسمع، وكان يستقرئ في مجلسه العامِّ من جرت عادته بذلك الآية والعشرين والزائد على ذلك، ولقد اجتاز على صغير بين يدي أبيه وهو يقرأ القرآن، فاستحسن قراءته فقرَّبه، وجعل له حظًّا من خاصِّ طعامه، ووقف عليه وعلى أبيه جُزءًا من مزرعة، وكان رحمه الله تعالى رقيقَ القلب، غزير الدمعة، إذا سمع القرآن يخشع قلبُه، وتدمع عينه في معظم أوقاته[9].

 7- سماعه للحديث الشريف: كان رحمه الله تعالى شديدَ الرغبة في سماع الحديث، ومتى سمِع عن شيخ ذي رواية عالية وسماع كثير، فإن كان ممَّن يَحضُر عنده، استحضره وسمَّع عليه، فأسمع من يحضره في ذلك المكان من أولاده ومماليكه، والمختصِّين به، وكان يأمر الناس بالجلوس عند سماع الحديث إجلالًا له؛ وإن كان ذلك الشيخُ ممَّن لا يطرق أبواب السلاطين ويتجافى عن الحضور في مجالسهم، سعى إليه وسمَّع عليه. وقد تردَّد إلى الحافظ الأصفهانيِّ بالإسكندرية - حرسها الله تعالى - وروى عنه أحاديثَ كثيرةً، وكان رحمه الله يحب أن يقرأ الحديث بنفسه، وكان يستحضرُني في خَلْوتِه، ويحضر شيئًا من كتب الحديث، ويقرأ هو، فإذا مرَّ بحديث فيه عِبرة، رقَّ قلبه ودمعت عينه[10].

 8- تعظيمه لشعائر الدَّين: وكان رحمة الله عليه كثيرَ التعظيم لشعائر الدين، قائلًا ببعث الأجسام ونشورها، ومجازاة المحسن بالجنة، والمسيء بالنار، مصدِّقًا بجميع ما وردت به الشرائع، منشرحًا بذلك صدره، مبغضًا للفلاسفة والمعطِّلة، والدَّهرية ومَن يعاند الشريعة.

 ولقد أمر ولده صاحب حلب الملك الظاهر، بقتل شابٍّ نشأ كان يقال له: السَّهروردي، قيل عنه: إنه كان معاندًا للشرائع ومُبطلًا، وكان قد قبض عليه ولده المذكور لمَّا بلغه من خبره، وعرَّف السُّلطان به، فأمر بقتله وصلبه أيامًا، فقتله.

 9- حسن ظنِّه بالله: وقال ابن شداد: وكان قدَّس الله روحه حسنَ الظنِّ بالله، كثير الاعتماد عليه، عظيم الإنابة إليه، ولقد شاهدت من آثار ذلك ما أحكيه؛ وذلك أن الفرنج - خذلهم الله - كانوا نازلين ببيت نوبة، وهو موضعٌ قريب من القدس الشريف - حرسها الله تعالى - يكون بينَها بعض مرحلة، وكان السلطان بالقُدس، وقد أقام يَزَكًا[11] على العدوِّ محيطًا به، وقد سير إليهم الجواسيس والمخُبرين، فتواصلت الأخبار بقوَّة  عزمهم على الصُّعود إلى القدس ومحاصرته، وترتيب القتال عليه، واشتدَّ خوف المسلمين بسبب ذلك، فاستحضر الأمراء وعرَّفهم ما قد دهم المسلمين من الشدَّة، وشاورهم في الإقامة بالقدس، فأتوا بمجاملةٍ باطنها غيُر ظاهرها، وأصرَّ الجميع أنه لا مصلحة في إقامته بنفسه، فإنها مخاطرة بالإسلام، وذكروا أنهم يقيمون هم، ويخرج هو رحمه الله بطائفة من العسكر يكون حول العدوِّ، كما كان الحال بعكَّا، ويكون هو ومن معه بصدد منع ميرتهم والتضييق عليهم، ويكونون هم بصدد حفظ البلد والدَّفع عنه، وانفصل مجلس المشورة على ذلك وهو مصرٌّ على أن يقيم بنفسه، علمًا منه إن لم يُقم ما يقيم أحد، فلما انصرف الأمراء إلى بيوتهم جاء من عندهم من أخبر أنهم لا يقيمون إلا أن يقيم أخوه الملك العادل أو أحد أولاده؛ حتى يكونَ هو الحاكمَ عليهم، والذين يأتمرون بأمره، فعلم أن هذه إشارة منهم إلى عدم الإقامة، وضاق صدره، وتقسم فكره، واشتدَّت فكرته، ولقد جلست في خدمته في تلك الليلة - وكان الزمان شتاءً، وليس معنا ثالث إلا الله تعالى، ونحن نُقسِّم أقسامًا ونرتِّب على كل قسم مقتضاه، حتى أخذني الإشفاق عليه، والخوف على مزاجه، فإنه كان يغلب عليه اليُبس[12].

 

فشفعت إليه حتى يأخذ مضجعه لعله ينام ساعة، فقال رحمه الله: لعلك جاءك النوم؟ ثم نهض، فما وصلت إلى بيتي وأخذت لبعض شأني إلا وأذَّن المؤذِّن، وطلع الصبح، وكنت أصلِّي معه الصبح في معظم الوقت، فدخلت عليه، وهو يُمِرُّ الماء على أطرافه، فقال: ما أخذني النوم أصلًا، فقلت: قد علمتُ، فقال: مِن أين؟ فقلت: لأني ما نمت، وما بقي وقت للنوم، ثم اشتغلنا بالصلاة وجلسنا على ما كنا عليه، فقلت له: قد وقع لي واقع وأظنه مفيدًا إن شاء الله تعالى، فقال: وما هو؟ فقلت له: الإخلاد إلى الله تعالى والإنابة إليه، والاعتماد في كشف هذه الغُمَّة عليه، فقال: وكيف نصنع؟ فقلت: اليوم الجمعة يغتسل المولى عند الرَّواح، ويصلِّي على العادة وبالأقصى موضع مسرى النبي صلى الله عليه وسلم، ويقدم المولى التصدُّق بشيء خفية على يدِ مَن يَثق به، ويصلي المولى ركعتين بين الأذان والإقامة، ويدعو الله في سجوده؛ فقد ورد فيه حديث صحيح، وتقول في باطنك: يا إلهي، قد انقطعت أسبابي الأرضية في نُصرة دينك، ولم يبقَ إلا الإخلاد إليك، والاعتصام بحبلك، والاعتماد على فضلك، أنت حسبي ونعم الوكيل، فإن الله أكرم مِن أن يخيب قصدك، ففعل ذلك كله، وصليت إلى جانبه على العادة، وصلَّى الركعتين بين الأذان والإقامة، ورأيته ساجدًا، ودموعه تتقاطر على شيبته وعلى سجّادته، ولا أسمع ما يقول، فلم ينقضِ ذلك اليوم حتى وصلت رقعة من عز الدين جُردْيك - وكان على اليَزَك - يُخبر فيها أن الفرنج متخبِّطون، وقد ركب اليوم عسكرهم بأسره إلى الصحراء، ووقفوا إلى قائم الظهيرة، ثم عادوا إلى خيامهم، وفي بكرة السبت جاءت رقعة ثانية تخبر عنهم بمثل ذلك، ووصل في أثناء النهار جاسوس أخبر أنهم اختلفوا، فذهبت الفرنسيسية[13].

 إلا أنهم لا بد لهم من محاصرة القدس، وذهب الأنكتار[14] وأتباعه إلى أنه لا يخاطر بدين النصرانية ويرميهم في هذا الجبل مع عُدْم المياه، فإن السُّلطان كان قد أفسد جميع ما حول القدس من المياه، وأنهم خرجوا للمشورة، ومن عادتهم أنهم يتشاورون للحرب على ظهر الخيل، وأنهم قد نصوا على عشرة أنفس منهم وحكَّموهم، فبأيِّ شيء أشاروا به، لا يخالفونهم، ولما كانت بُكرة الاثنين جاء البشير يخبرُ أنهم رحلوا عائدين إلى جهة الرَّملة، فهذا ما شاهدته من آثار استنابته وإخلاده إلى الله تعالى، رحمه الله[15].

 يتبع

 

[1] السلاطين في المشرق العربي د. عصام شبارو، الأيوبيون ص 139.

[2] المصدر نفسه ص 140.

[3] صلاح الدين الأيوبي بطل حطين ومحرر القدس، علوان ص 139.

[4] سيرة السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي ابن شداد ص 58.

[5] سيرة السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي ابن شداد ص 58.

[6] سيرة الناصر صلاح الدين لابن شداد ص 59.

[7] صلاح الدين الأيوبي بطل حطين ومحرر القدس، علوان ص 139.

[8] سيرة السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي ابن شداد ص 58.

[9] سيرة السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي ابن شداد ص 58.

[10] المصدر نفسه ص 59.

[11] سيرة السلطان الناصر صلاح الدين 61؛ يَزكًا: طلائع.

[12] يبدو أن صلاح الدين كان يعاني من ارتفاع ضغط الدم الشرياني .

[13] أي الصَّليبيون اللاتين من الفرنسيين، الذين تألفت منهم غالبًا الحملتان الصَّليبيتان الأولى والثانية .

[14] المقصود بالأنكتار الملك ريتشارد قلب الأسد ملك إنكلترا.

[15] سيرة السلطان صلاح الدين لابن شداد ص 64

 

المصدر: الإسلام اليوم 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022