من كتاب الدولة الأموية: خلافة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه
فتوحات سلم بن زياد
الحلقة: الثانية والستون
بقلم: د. علي محمد الصلابي
ربيع الأول 1442 ه/ نوفمبر 2020
عزل معاوية بن أبي سفيان سعيد بن عثمان بن عفان سنة سبع وخمسين الهجرية عن خراسان، وأُضيفت إلى ولاية عبيد الله بن زياد في رواية، وفي رواية أخرى: أن معاوية بن أبي سفيان ولّى خراسان عبد الرحمن بن زياد، وكان شريفاً، فلم يصنع شيئاً في مجال الفتح، وكان ذلك في سنة 59 هـومات معاوية وعلى خراسان عبد الرحمن بن زياد.
ولما سار سلم إلى خراسان، كتب معه يزيد إلى أخيه عبيد الله بن زياد، في العراق ينتخب له ستة الاف فارس، وقيل: ألفي فارس، وكان سلم ينتخب الوجوه، فخرج معه عمران بن الفضيل البُرجُميّ، والمهلب بن أبي صفرة، وعبد الله بن خازم السُّلمي، وطلحة بن عبد الله بن خلف الخزاعي، وخلق كثير من رؤساء البصرة وأشرافهم، فأخذ سلم هؤلاء الفرسان معه من البصرة، وتجهز ثم سار إلى خراسان، وبدأ سلم بغزو خوارزم، فصالحوه على أربعمئة درهم وحملوها إليه، وقطع سلم النهر (جيحون) ومعه امرأته أم محمد بنت عبد الله بن عثمان بن أبي العاص الثقفي، وكانت أول امرأة عربية عُبر بها النهر، فأتى (سمرقند) فصالحه أهلها، ووجد (خاتون) ملكة بخارى قد نقضت العهد، واستنجدت بجيرانها من الصُّغد، وأتراك الشمال، فجاء طرخون على جيش الصُّغد، كما جاء ملك الترك في عسكر كثيف، ولم تؤثر تلك الحشود الضخمة من القوات المعادية في معنويات المسلمين، فحاصروا بخارى دون أن يهجموا عليها، ليقفوا أولاً على تفاصيل قوات أعدائهم ومواضعها، وهي متربصة بهم في مواضع ليست بعيدة عن بخارى، وأمر سلم المهلب بن أبي صفرة الأزدي أن يستطلع أحوال العدو، فاقترح المهلب أن يكلف غيره بهذه المهمة، وحجته أنه معروف المكانة بين قومه والمسلمين، وقد يفشي تغيبه عن معسكر المسلمين سرّ الواجب الذي أُلقي على عاتقه، وهذا الواجب ينبغي أن يبقى سرّاً مكتوماً حتى يتم إنجازه بسرية تامة وكتمان شديد وحذر بالغ، لأن إفشاءه يعرّض المسلمين لخطر جسيم، ولكنّ سلم بن زياد أصرّ على إيفاد المهلب دون غيره في هذا الواجب الحيوي الذي قد يعجز غيره عن النهوض به كما ينبغي، وأرسل معه ابن عمه ورجلاً من كل لواء من ألوية المسلمين، واشترط المهلب على سلم إلا يبوح لأحد من الناس كائناً من كان بمهمته، ثم مضى إلى سبيله ليلاً مع جماعته الاستطلاعية، فكمن في موضع مستور، واستطلع قوات العدو دون أن يشعر العدو بموضعه المخفيّ المستور.
ويبدو أن قوم المهلب والمسلمين افتقدوا المهلب في صلاة الفجر من تلك الليلة التي تسلل بها المهلب إلى موضع قريب من العدو، فما كان تغيب مثله أن يخفى على أحد وهو ليس مجهول المكان والمكانة يملأ الأعين قدراً وجلالاً، فألحّوا على سلم بالسؤال عن المهلب وألحفوا عليه، فلم يستطع أن يكتم أمره وأخبرهم أنه أرسله في مهمة استطلاعية ليلاً، وفشا الخبر بسرعة خاطفة في العسكر، فأسرع جمع من المسلمين بالركوب وتوجّهوا صوب موضع المهلب المستور، فكشفوا موضعه وموضع رجاله للعدو، وأبصرهم المهلب مقبلين نحوه يتسابقون بدون نظام ولا تنظيم، فلامهم أشد اللوم على ما أقدموا عليه، لأنهم كشفوا موضع جماعته الاستطلاعية للعدو دون مسوِّغ، فعرّضهم لخطر محدق أكيد، وأصبح موقف المهلب ومن معه من المسلمين في خطر داهم، فبذل المهلب قصارى جهده لمعالجة موقفه الخطير وتدارك ما يمكن تداركه، وأحصى المهلب المسلمين الذين التحقوا به متطوّعين، فكانوا تسعمئة من الفرسان المجاهدين، فقال لهم: والله لتندمنَّ على ما فعلتم، وحدث ما توقعه المهلب، فما كاد ينظِّم المسلمين صفوفاً، حتى هاجمهم الترك وأبادوا منهم أربعمئة فارس مجاهد، ولاذ الباقون منهم على قيد الحياة بالفرار، وأحيط بالمهلب ومن بقي معه من جماعته الاستطلاعية ذات العدد المحدود، ولكنه ثبت ثباتاً راسخاً لا يتزعزع عن موضعه، فالموت بالنسبة لأمثاله أهون عليهم من الفرار، وصاح المهلب بصوته الجهوريّ القوي مستغيثاً بالمسلمين، فسُمع صوته من معسكر المسلمين القريب، الذي كان على نصف فرسخ من موضعه المواجه للعدو، وبادر فوراً إلى نجدته جماعة من قومه الأزد، فشاغلوا الترك ريثما أقبل المسلمون خفافاً لنجدته على عجل بقيادة سَلْم، ونشب القتال بين الجانبين، فقاتل المسلمون الترك حتى هزموهم هزيمة نكراء، حيث هربوا من ساحة المعركة مخلِّفين أموالهم وأثقالهم، فغنمها المسلمون حتى أصاب كلّ فارس ألفين وأربعمئة درهم في رواية، وعشرة الاف درهم في رواية أخرى، وطارد المسلمون الترك المنهزمين، فلم ينجُ منهم إلا الشريد، وكان من بين القتلى (بندون) أو (بيدون) الصُّغدي ملك الصُّغد، وأعادت خاتون الصُّلح من جديد مع سلْم، فاستعاد فتح بخارى، وبعث سَلْم وهو بالصّغد جيشاً من المسلمين إلى (خُجَنْدة)، وفيهم الشاعر أعشى همدان، فهُزم المسلمون، فقال الأعشى:
ليتَ خيلي يومَ الخُجَنْدةِ لم يُهزم
وغودرتُ في المكرِّ سَلِيْبَا
تحضُر الطيرُ مصرعي وتروحت
إلى الله في الدماء خَضيبا
وكان عمّال خراسان قبل سَلْم يغزون، فإذا دخل الشِّتاء رجعوا إلى (مرو الشَّاهجان)، فإذا انصرف المسلمون اجتمع ملوك خراسان بمدينة مما يلي خُوارِزم، فيتعاقدون أن لا يغزو بعضهم بعضاً، ويتشاورون في أمورهم. فلما قدم سَلْم غزا فشتا في تلك السنة، فألحّ عليه المهلّب بن أبي صفرة وسأله التوجه إلى تلك المدينة، فوجّهه في ستة الاف، وقبل: أربعة الاف، فحاصرهم، فطلبوا أن يصالحهم على أن يفدوا أنفسهم، فأجابهم إلى ذلك، وصالحوه على نيِّف وعشرين ألف درهم، وكان في صلحهم أن يأخذ منهم عروضاً، فكان يأخذ الرأس والدّابة بنصف ثمنه، فبلغت قيمة ما أخذ منهم خمسين ألف ألف درهم، وعاد سلم إلى( مَرْو) بعد جهاد هذه السنة الذي استمرّ سنتي إحدى وستين الهجرية واثنتين وستين الهجرية، ويبدو أنه قطع النهر ثانية في سنة ثلاث وستين الهجرية، لأنه علم بأنّ الصُّغد قد جمعت له، فقاتلهم وقتل ملكهم.
ولكنه عاد مسرعاً إلى (مرو) ليعالج مشاكل المنطقة الداخلية، فقد أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، فقد مات يزيد بن معاوية سنة أربع وستين، فبويع بعده معاوية بن يزيد بن معاوية، فلم يمكث إلا ثلاثة أشهر حتى هلك، وقيل: بل ملك أربعين يوماً ثمّ مات، وقيل غير ذلك، ولما بلغ سلم موت يزيد بن معاوية كتم ذلك، ولكنّ الخبر انتشر بين الناس في خُراسان انتشار النار في الهشيم، فمثل هذا الخبر يستحيل كتمانه مدة طويلة، ولما علم سلم بانتشار خبر موت يزيد بين الناس، أظهر موت يزيد وابنه معاوية، ودعا الناس إلى البيعة على الرضا حتى يستقيم أمر الناس على خليفة، فبايعوه ثمّ نكثوا بعد شهرين، وكان سلم محسناً إليهم محبوباً فيهم، ولكن قسماً من القبائل العربية خلعوه عصبية وتعصباً وفتنة، فلم يجد أهل خُراسان أميراً قد أحبهم مثل سَلْم بن زياد، ولكن قائلهم قال: بئس ما ظنّ سَلْم، إن ظنَّ أنه يتأمَّر علينا في الجماعة والفتنة، ووثب أهل خُراسان بعمالهم فأخرجوهم، وغلب كل قوم على ناحية، ووقعت الفتنة، ووقعت الحرب، ونشب الاقتتال بين القبائل العربية، وأصبحت خراسان مناطق؛ في كل منطقة قائد وأمير، وتساقطت القتلى بين المسلمين بالسيوف، وتوقف الفتح وتوجه سَلْم إلى عبد الله بن الزبير في مكة المكرمة.
فتوحات السند في عهد معاوية:
تمكن المسلمون في عهد معاوية رضي الله عنه من بسط نفوذهم إلى ما وراء نهر السند، ففي سنة 44 هـ غزا المهلب بن أبي صفرة ثغر السند فأتى بَنَّة، ولاهور، وهما بين الملتان وكابل، وأما في مستهل سنة 45 هـ؛ فقد أرسل والي البصرة عبد الله بن عامر: عبد الله بن سوّار العبيدي، إلى ثغر السند على رأس حملة قوامها أربعة الاف رجل، ولما وصل ابن سوّار إلى مدينة مكران، بقي هناك أربعة أشهر يعدّ نفسه وجنده للحملة المرتقبة. ثم تقدم وجماعته نحو بلاد القيقان، وفتحها، وكانت هديته إلى معاوية رضي الله عنه خيلاً قيقانيةسلّمها بنفسه إليه في الشام، فأصل البرازين القيقانية من نسل تلك الخيول.
وعلى أية حال، فلم يدم المقام لابن سوّار طويلاً في ثغر السند، فقد قتلته جماعة من الترك هناك في سنة 47هـ، وفي سنة 48 هـ اختار زياد بن أبي سفيان سنان بن سلمة بن المُحَبَّق الهذلي ليكون والياً على الأقاليم المفتوحة من ثغر السند، وما أن وصل سنان إلى هناك حتى تمكن من فتح مدينة مكران (عنوة) ومصَّرها، وأقام بها وضبط البلاد.
ولكن سنان لم يمكث هناك سوى سنة أو سنتان ثم عزله زياد. وولى مكانه راشد بن عمرو الأزدي، فأتى مكران ثم تقدم في بلاد القيقان، فظفر،
ثم اتجه نحو الميد، فقتل هناك، وبعد ذلك تولَّى عباد بن زياد بن أبي سفيان أمر سجستان، فقاد حملة توغل فيها في منطقة حوض نهر السند، فنزل كِشْ، ثم سار إلى قُنْدُهار: فقاتل أهلها فهزمهم، وفتحها بعد أن أصيب رجال من المسلمين، وكان اخر الولاة الذين تولوا أمر الفتوحات في هذا الجزء هو المنذر بن الجارود العبدي أبو الأشعث، والذي وصل ثغر السند معيناً عليه من قبل عبيد الله بن زياد بن أبي سفيان والي البصرة سنة 62 هـ، فقاد المنذر حملة ضد مدينة قُصدار، وتمكن من فتحها.
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC9(1).pdf
الجزء الثاني:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC139.pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي: