السبت

1446-12-11

|

2025-6-7

موقف أحمد الشريف السنوسي من معاهدة أوشي وانسحاب الاتراك من ليبيا

بقلم: الدكتور علي محمّد الصلابي

الحلقة: الحادية عشر

ربيع الأول 1441 ه/ نوفمبر 2019

واجهت القوى الإيطالية في ليبية مقاومة عنيفة، والتحم المجاهدون بالأتراك، وشكلوا قوة عسكرية ضاربة، وأدركت إيطالية عجزها عن إتمام احتلال بقية الولاية، ولذلك قررت أن تهاجم الدولة العثمانية في مراكزها الضعيفة، وتوجهت لهذا السبب نحو الجزر الاثني عشر التي كانت تؤلف الولاية المعروفة باسم «مجموعة جزر بحر إيجة الدردنيل»، ففي الثامن عشر من جمادى الأولى سنة (1330هـ) ،الموافق 4 مايو سنة (1912 م)، قامت أساطيل إيطالية باحتلال الجزر، ثم قامت بتهديد مدخل الدردنيل، وقصفت ميناء بيروت على ساحل الشام، وكأنها بذلك تدعو إلى توسيع رقعة الحرب، وهذا ما أثار الدول الأوروبية؛ خاصة بريطانية العظمى صاحبة الإشراف المباشر على الحركة البحرية المتوجهة إلى البحر الأسود وقناة السويس.
وقد أقامت إيطالية إدارة لهذه الجزر، وأصدرت بها طوابع بريد إيطالية، واستبدلت بالبحارة الذين قاموا بعملية الاحتلال حاميات إيطالية من الجنود وحملة
البنادق الصغيرة، كما استبدلت الأعلام العثمانية أعلاماً إيطالية، حينذاك سارعت الحكومة العثمانية إلى إجراء بعض التحصينات لسواحل اسية الصغرى خوفاً من هجوم إيطالي جديد على تلك السواحل.
في هذه الفترة الحرجة من تاريخ الدولة العثمانية استقالت وزارة الاتحاديين في أواخر شهر رجب (1330 هـ)، المصادف لشهر يوليو (1912 م) لتتولى الحكم وزارة أطلق عليها اسم «الوزارة الكبرى»، وقد ألَّفها أحمد مختار باشا الغازي(1)، وقد استلمت هذه الوزارة الحكم في وقت كانت الحالة السياسية في الدولة العثمانية قد بلغت من الحرج حدّاً لا يمكن لهذه الوزارة أن تخرج منه دون تضحية كبيرة عليها، وهو ما تحقق في معاهدة الصلح مع إيطالية، بعد ذلك ببضعة أشهر حاولت الوزارة الاتحادية التي كان يرأسها سعيد باشا أن تفتح أبواب المفاوضات مع إيطالية عن طريق بعض الدول الأوروبية، وقد لعب بعض رجال الأعمال اليهود المؤيدين لجمعية الاتحاد والترقي دوراً بارزاً في بدء هذه المفاوضات، وكانت محاولات الصلح تجري في طي الكتمان، بينما تعلن الحكومة شديد تمسكها بوحدة الدولة العثمانية، وعدم التفريط في ولاية طرابلس وبنغازي.
ولقد بين وزير خارجية بريطانية لسفير دولته في الآستانة مدى معارضة الحكومة الإيطالية للمقترحات التي طرحها وزير الخارجية العثماني في حكومة الاتحاديين، واقترح الوزير البريطاني بدوره مشروع سلام، يحول دون إراقة ماء الوجه للسياسة التركية كما قال، ويتلخص مشروعه هذا في أن تعترف الدولة العثمانية بسيادة إيطالية على الأمور المدنية، مقابل اعتراف إيطالية بالسيادة الروحية للسلطان، والسماح للمسلمين بممارسة عباداتهم الدينية بحرية تامة، والبقاء على قوانينهم وعاداتهم، وعلى أن تدفع إيطالية مبالغ سنوية عن طريق شيخ الإسلام اعترافاً بالخلافة الروحية.
وقد حاولت كل من حكومة النمسة المجر، والحكومة الفرنسية، أن تقوما بدور الوساطة لإيقاف الحرب بين كل من الدولة العثمانية وإيطالية، غير أن مساعيهما لم تلق نجاحاً يذكر في كلتا الدولتين، وأمام الأزمات الخانقة التي تمر بها الدولة العثمانية رأت حكومة مختار باشا الغازي أن تصل بالمفاوضات مع إيطالية إلى نتيجة حاسمة، فأوفدت وزير الزراعة العثماني وزودته بصلاحيات واسعة، وقد وصل المسؤول العثماني إلى لوزان في (16 شوال سنة 1330 هـ، الموافق 27 سبتمبر 1912 م) ومع وصوله أخذت المباحثات تدخل في دور حاسم، ويتفق الطرفان على الخطوط العريضة لتوقيع الصلح بينهما.
كانت العقبة التي لا تلتقي فيها اراء الطرفين المتفاوضين هي الاعتراف العثماني بإلحاق طرابلس بإيطالية، وانتقال جزر الدوديكانيز إلى إيطالية، فالعثمانيون لا يستطيعون الإعلان صراحة عن إلحاق طرابلس بإيطالية؛ لأن ذلك يؤثر على مكانتهم في العالم الإسلامي والعربي، أما جزر الدوديكانيز فكان أمراً عسيراً، إلا أن نذر الحرب في البلقان جعلت الدولة العثمانية تعقد هدنة للحرب الدائرة في طرابلس، وتتبعها بعقد معاهدة الصلح المعروفة بمعاهدة لوزان أوشي مع إيطالية، والتي منحت الدولة بموجبها الاستقلال لولايتي طرابلس وبنغازي، ومن ثم أبدت استعدادها لسحب قواتها من هناك.
لقد تم توقيع معاهدة الصلح بين الدولة العثمانية، والحكومة الإيطالية في (8 ذي القعدة 1330 هـ، الموافق 18 أكتوبر 1912 م)، وحررت مواده الإحدى عشرة في لوزان سويسرة، ووقعه عن الدولة العثمانية كل من: محمد نابي بك، ورومبيو غلو فخر الدين، وعن الحكومة الإيطالية كل من: لبترو بروتوليني، وقويدو فوزيناتو، وجوسبي فولبي.
ومن المفيد هنا أن نشير بصورة موجزة إلى مضمون مواد المعاهدة كما وردت في النسخة الأصلية المحفوظة في الأرشيف العثماني في إستانبول تحت رقم 335:
المادة الأولى: تعهدت الحكومتان فيها بإيقاف حالة الحرب بينهما، وإرسال مفوضين من الجانبين لتنفيذ ذلك حال توقيع هذه المعاهدة.
المادة الثانية: تعهدت الحكومتان بإصدار أمر بسحب القوات الحربية والضباط من جبهات القتال، فالدولة العثمانية تسحب قواتها من طرابلس وبرقة، والحكومة الإيطالية تسحب قواتها من الجزر التي احتلتها في بحر إيجة.
المادة الثالثة: يتم تبادل أسرى الحرب بين الدولتين في أسرع وقت ممكن.
المادة الرابعة: تتعهد الحكومتان بمنح عفو شامل لكل من ساهم بأعمال عدائية أو حامت حوله الشبهات أثناء الحرب لصالح أيٍّ من الدولتين.
المادة الخامسة: التزام الحكومتين بجميع المعاهدات والاتفاقات التي كانت بينهما قبل الحرب، والعودة بعلاقاتهما إلى وضعها السابق.
المادة السادسة: تلتزم حكومة إيطالية بما تفرضه الدولة العثمانية من زيادة في الجمارك، وما تقيمه من امتيازات في إطار القانون التجاري الذي تلتزم به جميع الدول الأوروبية تجاه الدولة العثمانية.
المادة السابعة: تتعهد الحكومة الإيطالية بإلغاء مكاتب البريد الإيطالية في الدولة العثمانية، إذا علمت الدول الأوروبية ذلك.
المادة الثامنة: تؤيد الحكومة الإيطالية الدولة العثمانية في مطالبتها إلغاء نظام الامتيازات واستبداله بنظام القانون الدولي.
المادة التاسعة: استعداد الدولة العثمانية لإعادة الموظفين الإيطاليين الذين يعملون في الدولة، وفصلوا من عملهم أثناء الحرب، على أن تدفع لهم رواتب الفترة التي أوقفوا فيها عن العمل.
المادة العاشرة: تتعهد الحكومة الإيطالية بدفع قسط سنوي للدولة العثمانية، يعادل المبلغ المستوجب عن إيرادات الولايتين طرابلس الغرب وبنغازي لكل سنة من السنوات الثلاث التي سبقت الحرب، والذي لا يقل عن 2 مليون ليرة إيطالية لكل سنة.
المادة الحادية عشرة: تدخل هذه المعاهدة حيز التنفيذ وسريان المفعول في نفس يوم توقيعها، وإثباتاً لذلك وقع المفوضون ذوو الصلاحية المطلقة هذه الاتفاقية، وختموها بأختامها.
وقد ألحقت بالمعاهدة الرسمية المشار إليها بعاليه أربعة ملاحق اعتبرها الموقعون على المعاهدة جزءاً مكملاً لها، وأهم هذه الملاحق هو المنشور الموقع من السلطان العثماني، والذي تم بموجبه منح الاستقلال الإداري التام لولايتي طرابلس وبنغازي، على أن تدار بقوانين جديدة من قبل الأهالي الذين يجب أن يساهموا بتقديم الوصايا والإرشادات، وأنه سيعين نائب للسلطان لمدة خمس سنوات للمحافظة على المنافع العثمانية، كما يعين قاضٍ للولايتين من قبل السلطان ليقوم بتنفيذ أحكام الشرع الشريف، على أن يعين هذا القاضي بدوره من العلماء المحليين نواباً شرعيين له وفقاً للأحكام الشرعية، وتدفع الدولة العثمانية راتب القاضي من خزينتها، أما رواتب نائب السلطان والموظفين الشرعيين غير القاضي فتصرف رواتبهم من مداخيل الولاية المحلية.
كما أن الملحق الثاني لا يقل عن الملحق الأول أهمية؛ لأنه عبارة عن منشور من ملك إيطالية على غرار منشور السلطان العثماني، إلا أنه يؤكِّد فيه خضوع ولايتي طرابلس وبنغازي لإيطاليا، وفيه منح ملك إيطالية العفو العام لمن ساهم في الحرب إلى جانب جيوش الدولة العثمانية من أهل الولايتين، وترك لهم الحرية بإقامة شعائرهم الدينية، وذكر اسم السلطان العثماني في خطبة الصلوات باعتباره خليفة المسلمين، وذكر أن هناك لجنة سيتم تشكيلها تضم في عضويتها بعض الأهالي تقوم بوضع الأنظمة المدنية والإدارية على النمط الإيطالي.
إن موافقة الدولة العثمانية على عقد معاهدة الصلح مع إيطالية على تلك الصورة السالفة الذكر دليل قاطع على أن الدولة العثمانية كانت تعيش أسوأ مراحل تاريخها، وأن الأزمات العنيفة كانت تهدد كيانها، وهو ما عبَّر عنه السفير البريطاني في
الآستانة الذي اعتبر شروط الصلح التي تمَّ التوصل إليها بين الدولة العثمانية وإيطالية من «أفضل ما يمكن أن تحصل عليه الحكومة العثمانية في ظل الظروف القائمة»، وصدر الأمر من الآستانة إلى القائد العام التركي أنور بك بأن يغادر برقة، فوقع هذا النبأ على نفس أنور وقوع الصاعقة، وتوجَّه إلى الجغبوب لمقابلة أحمد الشريف السنوسي والتفاهم معه.
كان موقف أحمد الشريف واضحاً قبل توقيع الصلح بين إيطالية وتركية، فقد بعث إلى أنور باشا في درنة يذكر فيه ما وصله من أن الدولة تعتزم إعطاء ليبية إلى إيطالية، فقد جاء في رسالته: «نحن والصلح على طرفي نقيض، ولا نقبل صلحاً بوجه من الوجوه»، إذا كان ثمن الصلح تسليم البلاد إلى العدو، وزيادة على ذلك فقد حذَّره مما سوف يحدثه قبول الصلح في نفوس المسلمين في جميع الأقطار من نفور شديد من الدولة العثمانية، وحمل الكتاب أربعون شخصاً من كبار السنوسية المجاهدين إلى القائد العثماني.
استقبل أحمد الشريف أنور بك بسيارته، وكانت هذه أول سيارة تدخل صحراء برقة، وقوبل بحفاوة بالغة، وأقام في ضيافة السيد أحمد ثلاثة أيام، وأبلغ أنور مضيفه أوامر السلطان، وأدلى إليه بتوجيهاته: «إسناد أمر الأمة الطرابلسية إلى سيادته، وإخباره بأن السلطان قد منح الأمة الطرابلسية استقلالها تاركاً لها الحق في أن تقرر مصيرها وتدافع عن نفسها».
وفي هذا اللقاء تم التصديق بين الرجلين على تأسيس الحكومة السنوسية لتسد الفراغ الذي ترتب على انسحاب تركية من ولاية طرابلس وملحقاتها، ولم يطلب أحمد الشريف من أنور بك غير شيء واحد؛ وهو مساعدته بالأسلحة والعتاد الحربي.
ولم يكن المجاهدون في برقة وحدهم الذين قرروا المضي في القتال ورفض الصلح مع إيطالية على أساس غير الجلاء من بلادهم، فقد أرسل سليمان الباروني برقية إلى مجلس النواب العثماني يعارض فيها باسمه وباسم المجاهدين عقد أي صلح مع إيطالية لا يكفل انسحابها الكلي من أراضي ليبية العزيزة.
انسحب أنور باشا إلى بلاده، واستطاع أن يحقق انتصارات للحكومة التركية، وللأسف الشديد استطاعت الصهيونية العالمية والمحافل الماسونية أن تستخدم هذا الرجل في إفساد الخلافة، وإسقاط الخليفة السلطان عبد الحميد الثاني، ولم ينتبه أنه ألعوبة في يد أعداء الإسلام إلا بعد أن سبق السيف العذل، وقد مدح صاحب كتاب (الفوائد الجلية)، وصاحب كتاب (برقة العربية) أنور باشا كثيراً.
لقد اعترف أنور باشا بأنه استغلَّ من قبل أعداء دينه، وأمته وشعبه ووطنه، ولم يكن يدري، لقد قال بعد فوات الأوان: إن مصيبتنا أننا قمنا بالانقلاب ونحن الة في يد الصهيونية، ولم نكن ندري؛ كنا أغبياء!.إنها لعبرة للضباط والزعماء الذين يريدون خدمة شعوبهم الإسلامية: أن يعرفوا أين يضعون أقدامهم؟ وبمن يثقون؟ وكيف يتصرفون؟ حتى لا يندموا حين لا ينفع الندم.

مراجع البحث:

1.علي محمد محمد الصلابي، مِنْ أَعْلَامِ التَّصَوُّفِ السُّنِّيِّ: 7سيرة الزعيم أحمد الشريف السنوسي،دار الروضة،اسطنبول،1438ه،2017م ص(94:82).
2. محمد فؤاد شكري، السنوسية دين ودولة، دار الفكر، 1948، ص (142).
3.الطاهر أحمد الزاوي،جهاد الأبطال في طرابلس الغرب، ط 3، بيروت، دار الفتح للطباعة والنشر، 1962م. ص (98، 99). 4.أحمد الطيب الاشهب، برقة العربية بين الأمس واليوم،دار الهواري:القاهرة،1364ه،1945م، ص (330).
5. مصطفى علي هويدي، الحركة الوطنية في شرق ليبيا خلال الحرب العالمية الأولى، مركز دراسة جهاد الليبيين ضد الغزو الإيطالي، 1988، ص (42).
6 جريدة المقتبس، عدد (1014)، 5 ذو القعدة 1330 هـ.الموافق ل 06/10/1912.
7.جريد المقطم، عدد (6975)، في 19 ربيع الأول عام 1330 هـ. الموافق ل08/03/1912.


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022