ظروف الحرب العالمية الأولى وإقحام أحمد الشريف السنوسي في معامعها (٢)
بقلم: الدكتور علي محمّد الصلابي
الحلقة الثالثة عشر
ربيع الآخر 1441 ه/ نوفمبر 2019
كلف الجنرال ماكسويل رئيس الوفد بأن يبلغ أحمد الشريف باسم حكومته بأنها إذا انتهت الحرب العظمى الأولى، ولم يشترك فيها أحمد الشريف، وحافظ على الحياد، فإن إنكلترة تتعهد بأن تساعده في الحصول على استقلال بلاده، وتوفق بينه وبين إيطالية، كما أنه سيكون أعظم شخصية عربية في البلاد العربية، ومرجعاً لأمراء العرب، وكبرائهم.
واستمرت جهود ضباط منظمة (تشكيلات مخصوصة) لإشعال نار الحرب على الحدود، واستمالوا بعض العناصر بالوعود، والمال والذهب، ومن هؤلاء الذين تأثروا بدعاية الأتراك أحمد مختار الطرابلسي، وأبو القاسم واخرون.
وكان هؤلاء الضباط قد هاجموا القوات الإنكليزية قرب السلوم، وكان كل هذا يجري دون علم أحمد الشريف، وفعلاً هاجم المسلحون نقطة حراسة القوات الإنكليزية في السلوم، وعلم أحمد الشريف بالحادثة في صباح اليوم التالي، فتأثر لذلك كثيراً، واضطرب اضطراباً شديداً، وحاول إصلاح الموقف، إلا أن الأمور سارت بما لا يشتهي، وانفرط زمام الموقف من يده فوجد نفسه هدفاً لهجوم مضاد من قبل الإنكليز، فما كان منه إلا أن يقبل الأمر الواقع الذي أوقعته فيه ضباط منظمة تشكيلات مخصوصة.
وكانت الأحداث تتجاذب أحمد الشريف بشدة، وتضعه في جملة من المواقف الحرجة؛ منها:
1- أن تركية مسلمة، وهي تمثل الخلافة الإسلامية في نظره، وكان طبيعيَّاً أن يميل إلى الإسلام والمسلمين ومساعدتهم.
2- إن قوة الألمان العسكرية، وانتصاراتهم الباهرة مع بداية الحرب العالمية الأولى أقنعت بصورة أو أخرى أحمد الشريف بقوة ألمانية العسكرية، وبأنها ستحقق النصر النهائي على قوات الحلف: «فرنسة، وبريطانية، وإيطالية».
3- إن وعود بريطانية للسيد أحمد الشريف بالتنازل له عن بعض الواحات هي وعود شفوية، أو كتابية فقط، ولن ترى النور، ولن تخرج إلى حيز التطبيق العملي مطلقاً، وهذه هي عادة بريطانية التي كانت تطلق وعوداً غامضة متكررة ومتناقضة تصدر تحت ضغط الحرب.
4- كان أحمد الشريف مديناً بالولاء الودي والجميل للأتراك، فهم الذين قاتلوا وجاهدوا مع الليبيين في برقة وطرابلس، وله ارتباطات متينة مع كبار الضباط الأتراك، وعلى سبيل المثال كعلاقته مع أنور باشا وزير الحربية، كما أنه أصبح نائب السلطان (بحكم فرمان سلطاني) في شمال إفريقية.
5- إن وعود الأتراك «الباب العالي، السلطان، وزارة الحربية، كبار الضباط، منظمة تشكيلات مخصوصة...» للسيد أحمد الشريف بتزويده بالسلاح والعتاد، والمال، وكل مستلزمات الحرب، كانت وعوداً صادقة في البداية، وكان في تصور أحمد الشريف أن ذلك العون سيستمر حتى تحرير البلاد، وخصوصاً أنهم بعثوا له بعض العون عن طريق الغواصات الألمانية قبل قيامه بإعلان الحرب ضد الإنكليز في مصر.
6- التقت مصلحة أحمد الشريف ومصلحة الأتراك والألمان في شيء واحد، ينتفعون جميعاً من فعله، والقيام به، ألا وهو محاربة إيطالية؛ لأنها عدوة لهم جميعاً في تلك الفترة.
ورغم كل ذلك ومهما كانت الظروف، فإن قراره بمهاجمة الإنكليز عبر الحدود المصرية، كان قراراً سريعاً رغم أن السيد أحمد قد رفضه وبشدة في البداية، لأنه على يقين أن ذلك الهجوم لا يتمشى مع مصلحة بلاده، فإن الأتراك والألمان كانوا ينظرون إلى الحرب في شكلها المتكامل، والتي لا تمثل طرابلس إلا جبهة فرعية في تلك الاستراتيجية، اتخذوا من أحمد الشريف مطية لتحقيق أغراضهم، ونحن نستغرب موافقة السيد أحمد على الدخول في تلك الحرب، فهي خارج بلاده، وتنقصه العدة، والأسلحة، كما أنها ليست ضد إيطالية المحتلة لوطنه، لقد كان خطأ في الحكم والتقدير من رجل محنَّك صقلته التجارب، وابتلته الأحداث، وكان له في ميادين السياسة والحرب صولات وجولات.
كان يجب عليه أن يتعاون مع الأتراك والألمان ضد إيطالية لتحرير بلاده أولاً. ومهما يكن من أمر؛ فإن الظروف لعبت دورها، واشترك أحمد الشريف بقواته، وسار بجيشه وعدده أربعة الاف مسلح، وكان معه نوري باشا قائداً أولاً، وجعفر العسكري قائداً ثانياً، وغرضهم الهجوم على السلوم، وجهز الإنكليز جيشاً بلغ تعداده ثلاثين ألفاً من مشاة وفرسان.
وقامت الحرب بالفعل في نوفمبر سنة (1915 م)، وأخذت الفرق العسكرية النظامية والمتطوعة تنحدر إلى الأراضي المصرية، وبدأت القيادة في إعلان وجوب اشتراك رجال القبائل المصرية في الحرب ضد الإنكليز المحتلين لمصر، والوقوف إلى جانب الدولة العثمانية.
وكان الضابط المصري محمد صالح حرب تابعاً للقوات الإنكليزية، فجمع الرؤساء والمشايخ وخاطبهم قائلاً: «نقف اليوم بين معسكرين: الإنكليز أعداء الله والوطن الذين رفعوا علينا الحماية، والاخر معسكر العرب والأتراك الذين يقولون إنهم جاؤوا ليخلصونا، وقد أقنعني ضميري وواجبي الديني بعدم البقاء مع الإنكليز، وقد خرجت في سبيل الجهاد ضدهم، فمن كان منكم يحرص على حياته أو تلزمه أية مسؤولية عائلية بالعودة إلى مرسى مطروح؛ فإنني لا أحول بينه وبين العودة، إنما شريطة أن يترك ما معه من سلاح ومؤونة...».
فلم يرغب أحد منهم في العودة، بل أبدوا جميعاً التصميم على البقاء إلى جانب رئيسهم، وعاهدوه على الجهاد والثورة التي بدأت بصورة علنية، واستجاب لها بعض عرب قبائل أولاد علي، وبغض النظر عن عدد هذه القوة التي انضمت لقوات السيد أحمد، وغالباً ما كانت تقدر بحوالي مئة وخمسين جنديَّاً، فإن هذه القوة المنظمة للمجاهدين أعطتهم دفعاً جديداً، وأججت في نفوسهم الرغبة لمنازلة الإنكليز وتحرير الديار من نير المستعمرين.
بدأ هجوم المجاهدين والأتراك على القوات الإنكليزية عند حدود مصر، ودارت معارك طاحنة؛ من أشهرها معركة وادي ماجد في أواخر شهر ديسمبر عام (1915 م)، ومعركة بوتونس التي قال فيها ضابط بريطاني شارك في هذه المعارك: «... لقد قام العدو بعزم شديد ومقاومة عنيفة، ودام القتال من أجل إحراز قصب السبق أربع ساعات تحت نيران البنادق التي كان العدو يستخدمها بنجاح ودقة بقيادة ضباط أتراك وألمان، وعلى حين كنا نحاول بشق الأنفس أن نصمد دبَّت الفوضى في صف الفرسان على الميسرة، عندها قويت شوكة العرب الذين كانوا يجابهون هذا الجانب من صف الفرسان...».
إلا أن المجاهدين كان ينقصهم الدواء، واللباس، والذخيرة، والسلاح، ولذلك تأثرت بقية المعارك ونتائجها تبعاً لذلك، فأخذ المجاهدون في الانسحاب والتقهقر اضطراراً، وبذلك النقص والانسحاب تأزَّم الموقف، ودب الخلاف بين أحمد الشريف ونوري باشا، لتفاقم واشتداد الضرر الاقتصادي في معسكر المجاهدين وما حوله بشكل تجاوز حد الاحتمال، ولذلك عقد أحمد الشريف اجتماعاً عاجلاً لوضع حد معين لهذه الاحتجاجات والنواقص، ولدراسة الأحداث من كل جوانبها، وعقد الاجتماع في أواخر يناير (1916 م) في خيمة أحمد الشريف، وحضره نوري باشا وجعفر العسكري عن الجانب التركي، ومحمد صالح حرب عن الضباط المصريين، وثلاثة من كبار رجال السيد أحمد الشريف الذي ترأس ذلك الاجتماع، وكانت تبدو على أحمد الشريف علامات الانفعال والغضب، وألقى نقده على الضباط الأتراك الذين تسرَّعوا في بدء العمليات العسكرية بالرغم من
عدم استكمال الاستعدادات اللازمة لها، وكان مما قاله موجهاً حديثه لنوري وجعفر: «لقد قفلتم؛ فمن أين نتنفس؟!.». وقد ختم أحمد الشريف حديثه مخاطباً نوري وجعفر: «فما رأيكم وقد أوصلتموها إلى هذا الحال؟!. وظهر أني كنت على هدى وكنتم على ضلال».
وتناول الحديث محمد حرب بعدما تكلم ضباط الأتراك، وانتقد الخطة الحربية العامة للضباط الأتراك، وكان رأيه مناقضاً لما ذكره نوري وجعفر؛ ذلك أن التقدم من جهة الساحل قرب البحر وعلى أرض تكاد تكون مكشوفة بالكامل؛ يُمكن حسب رأيه القوات الإنكليزية على قوات المجاهدين، وتسليط نيرانهم المختلفة عليهم، هذا إضافة إلى أن الأراضي الساحلية متماسكة، وتساعد الإنكليز في أن يستخدموا عرباتهم وسياراتهم ونقلياتهم بسهولة، وكذلك فإن نشوب المعارك قرب البحر يُمكِّن الإنكليز من استغلال البحر؛ سواء بسفنهم الحربية المزودة بالمدافع، أو بنجدة سريعة للقوات الإنكليزية إذا ما حقق المجاهدون انتصاراً عليها، وبناءً على ذلك، فقد كان رأي الضابط المصري محمد حرب هو أن يتحرك المجاهدون في ناحية الجنوب؛ محاولة منهم لاحتلال الواحات المصرية على التتابع، ويمكنهم بذلك الاتصال بمشايخ العرب ومسلمي الصعيد في المدن والقرى، الذين يرغبون في التخلص من الاستعمار الإنكليزي، لعل حركة الجهاد تشعل ثورة قوية تعصف بالحكم الإنكليزي في مصر، بالإضافة إلى توفر الماء، والتمور، وبالإضافة إلى ذلك فإن القوات الإنكليزية تضطر إلى نشر قواتها على طول وادي النيل، وبشكل يستهلك جزءاً من هذه القوات.
ورأى أحمد الشريف بصفته رئيس الاجتماع ونائب السلطان العثماني، أن تنقسم قوات المجاهدين إلى قسمين: قسم يتوجه إلى الجنوب وهدفه احتلال الواحات المصرية، وكان هذا القسم يتألف من ثلاثة الاف وخمسمئة مجاهد تقريباً، يقوده محمد صالح حرب تحت إشراف السيد أحمد، والقسم الاخر يبقى في الشمال الساحل، ويقوده جعفر العسكري، ويشرف عليه القائد العام نوري باشا، وعدد رجاله ستة الاف مجاهد. وانتهى ذلك الاجتماع على هذه المقررات، واتضح من خلال هذا الاجتماع بعض الأمور الهامة؛ وفي مقدمتها ما يلي:
1- سيطرة أحمد الشريف الكاملة على جميع القوات الزاحفة ضد الإنكليز عبر حدود مصر الغربية.
2- خطأ القادة الأتراك؛ سواء في عدم الاستعداد لهذه الحملة عسكريَّاً، وماليَّاً، وبشريَّاً، أو في رسم الخطط الحربية، ووضع استراتيجية هامة وتنسيق كامل لتحطيم النفوذ الإنكليزي في مصر.
3- إن وعود الأتراك للسيد أحمد الشريف بأن المدد متواصل، ومستمر، ولن ينقطع، ولن يكون هناك نقص في السلاح والذخيرة والعتاد، والمؤن والأموال واللباس والدواء... كانت وعوداً غير عملية، ولم ينفذ منها شيء، بل كان نوعاً من الدعاية لخدمة مصلحة الأتراك وأعوانهم.
4- اتضح وبجلاء أنه ليس بمقدور المجاهدين هزيمة الإنكليز والانتصار عليهم لتفوقهم في الإمكانات والقدرات المتباينة.
5- اتضح الان أن برقة يهددها شبح المجاعة؛ ذلك أن جميع الطرق التجارية أقفلت: مع الإنكليز شرقاً، والفرنسيين جنوباً، والإيطاليين شمالاً.
6- إن الحال الذي عليه المجاهدون يبدو من خلال ما دار في هذا الاجتماع متسماً بالصعوبة والضيق.
7- صواب رأي أحمد الشريف في عدم الرغبة في دخول الحرب مع الإنكليز.
دخلت القوات الشمالية بقيادة نوري باشا في معارك طاحنة مع الإنكليز في معركة وادي مقتلة، ومعركة العقاقير، وكانت النتيجة هزيمة المجاهدين الذين أخذوا في الانسحاب نحو الغرب، ولحقت بهم السيارات المدرعة الإنكليزية بعد أن حلقت فوقهم الطائرات الإنكليزية؛ تنذرهم بالتسليم خلال الأربع والعشرين ساعة، وإلا هاجمتهم حتى الإبادة، واستمرَّت مطاردة المنسحبين إلى الحدود، بل وأكثر من
ذلك داخل أراضي برقة نفسها، واستولى الإنكليز على سيدي براني يوم 28 فبراير سنة (1916 م)، وكان من أثر معركة العقاقير التي أُسر فيها القائد التركي جعفر باشا أن تشتت شمل القوات الشمالية للحملة، واستطاع الإنكليز مطاردة فلول قوات المجاهدين، وتعقبتهم السيارات المدرعة متوغلة في برقة إلى ما وراء بئر واعر، لقد كانت معركة العقاقير تمثل نتيجة حملة أحمد الشريف على مصر، واستمرت القوات الإنكليزية تطارد فلول المجاهدين، فوقعت معركة بقبق شرق السلوم، انتصر فيها الإنكليز، الذين احتلوا بعد ذلك السلوم، ودخل الإنكليز الأراضي الليبية، ووصلوا بئر حكيم في جنوب غرب طبرق، واستطاعوا تخليص الأسرى الإنكليز، وكان عددهم 92 بحاراً بعد أن أبادوا قوات الحراسة.
أما قوات المجاهدين في الجنوب فكان يقودها اللواء محمد صالح حرب تحت إشراف أحمد الشريف؛ زحفت هذه القوات جنوباً، وتمكنت من احتلال الواحات البحرية، والفرافرة والداخلة، وانضم إليها كل من كان بهذه الواحات من الموظفين المصريين، وكذلك الضباط والجنود، واتصل محمد صالح حرب بشيوخ العرب في المنيا، وأسيوط، والفيوم، ولم تعط هذه الاتصالات نتائج مشجعة، وبدأت قوات الإنكليز تتزايد وتتكاثف بعد أن صدت الحملة العثمانية الشرقية على قناة السويس، وفشلت ثورة السلطان علي دينار في منطقة دارفور، واضطر المجاهدون للانسحاب من الواحات الداخلة إلى الغرب جنوب سيوة والجغبوب، وكان لاعتماد الإنكليز على الطائرات العسكرية في عمليات الكشف والإغارة، واستخدام قواتهم العسكرية للسيارات المصفحة والمدرعة والمزودة بالمدافع السريعة الطلقات أثر كبير في قلب ميزان القوى لصالحهم.
وتمكنت قوات المجاهدين من الوصول إلى واحة سيوة في أمان تام، وكان أول ما عني به قائد المجاهدين محمد صالح حرب في سيوة هو إرسال التمور إلى الجغبوب ليتزود به المجاهدون هناك.
وفي سيوة لحقت القوات الإنكليزية بالمجاهدين، وحصلت بينهم معركة كبيرة بتاريخ (8 فبراير 1917 م) دامت نحو يوم كامل، وكانت معركة فاصلة جهز لها الإنكليز كل إمكانياتهم لقتال وهزيمة وإفناء المجاهدين الذين دافعوا دفاعاً مستميتاً، وانسحبوا من سيوة إلى الجنوب مسيرة ثلاثة أيام، وكان وصولهم إليها في شهر فبراير (1917 م)، وحاول الإنكليز مطاردة قوات المجاهدين المنسحبة إلى الغرب نحو الجغبوب، وبالقرب منها دارت بينهما اخر معركة في تلك الحرب، وهي معركة (قرب) إحدى ضواحي الجغبوب، ولم يستطع الإنكليز مواصلة السير، والتجؤوا بعد ذلك إلى الوسائل السياسية، وكان قبل وصول أحمد الشريف إلى الجغبوب قد أرسلوا إليه رسالة مطولة، وهذا نص رسالة الجنرال السير جون مكسويل القائد العام لجنود جلالة ملك بريطانية العظمى:
مصر في 4 جمادى الأولى سنة (1334 هـ)، الموافق 8 مارس سنة (1916 م).
حضرة صاحب السيادة الأستاذ أحمد السنوسي الكبير! تحية وسلاماً، وبعد: فقد وصلني كتابكم المرسل بيد رسولكم موسى، وليس لي أن أرد عليه عما قلته في كتبي السابقة، إني كنت دائماً أحذركم من خطر الإصغاء إلى نصائح نوري بك، وجعفر وغيرهما؛ لأن مصلحة هؤلاء تناقض مصلحتكم على خط مستقيم، فإنكم بالإصغاء إلى نصائحهم قد أثرتم حرباً على مصر، ونسيتم جميل بيت محمد علي باشا الكبير الذي يمثله صاحب العظمة السلطان حسين سلطان مصر الحالي.
إنكم تعديتم الحدود، ودخلتم الأراضي المصرية برجال مسلحين ومدافع، وقد أطلقتم نيرانكم على العساكر المصرية والإنكليزية، وأظهرتم بكل جلاء ووضوح أن مقاصدكم عدائية.
تقولون: إني صدقت مقالة سنوبك ولم أصدق ما قلتموه أنتم؛ فما هو الصحيح؟
إن جماعات من المحافظية المسلحين كانت على الدوام تأتي إلى الأراضي المصرية، إما بعلم منكم أو بغير علم منكم، وتسيء معاملة العرب الذين تحت إدارتنا، وتأخذ منهم ضرائب بالقوة، وقد أطلق أتباعكم النيران على الغواصات
الإنكليزية لغير ما سبب، وأنزلت الغواصات الألمانية الأسلحة والعساكر وغيرها بقرب بردية، وأطلقت نيرانها على طراد لخفر السواحل وأغرقته، وأتباعكم لم يطلقوا النار على الغواصات الألمانية، بل استقبلوها بالترحاب، ثم إنكم حفظتم في الأسر جماعة من رعايا الدولة البريطانية الذين غرق وابورهم، ولجؤوا إلى سواحلكم، وقد هاجم أتباعكم نقطتنا في البراني والسبيل، وأسروا عساكر الحرس، وسرقوا بنادقهم، وقطعوا خطوطنا التلغرافية، وهددوا نقطتنا بالسلوم، حتى اضطررت أن أصدر الأوامر إلى سنوبك بالرجوع إلى مرسى مطروح، وفي الوقت الذي كنتم فيه تصرحون بأن علاقتكم معنا على غاية الوداد كنتم تكتبون وترسلون مع رسلكم كتباً كالتي أرفقها بكتابي هذا، وإني مرسلها إليكم لتعلموا الحقيقة، أرى أنكم لا زلتم تذكرون أمر معاهدة عقدت مع الطليان، ووجدت بين أوراق سنوبك، وأنا أعود فأكرر القول: إن ذلك غير صحيح لسببين: الأول: لأنه لم نعمل معاهدة مثل هذه قط، والثاني: لأن سنوبك لمن يكن عنده السلطة لأن يعقد معاهدة كهذه.
إن جعفر هو الان أسير حرب؛ يقول: إن الإنكليز الذين نجوا من الوابور والان في الأسر عندكم هم في شقاء عظيم، وليس عندهم ما يلزمهم من الثياب والطعام، وأنتم تقولون: إنهم على أتم الراحة والأمان، فأي القولين أصدق؟ إنكم تشكون من أني حجزت رسلكم هنا، وأنا لم أفعل ذلك إلا بعد أن بدأتموني بالعداء، إن الله وحده يعلم بالخفايا، وما هو في ضميركم، وكل ما يمكنني أن أقول لكم: إن أعمالكم كلها دلت على عدم تبصر و روية، ويلزم أن تحصدوا الزرع الذي غرستموه.
إنكم بأعمالكم قد وقفتم موقف العدو، وما دام في الأراضي المصرية رجل مسلح من رجالكم فإني أعتبركم عدوَّاً، وقد سبقتُ فأخبرتكم عن الشروط التي بها وحدها يمكنني أن أبدأ بالمفاوضة معكم، وهذه الشروط أرسلتها في كتاب مؤرخ في 28 صفر سنة (1334 هـ)، الموافق 4 يناير (1916 م)؛ وهي كما يأتي:
1- أن تردوا بسلام جميع الأسرى البريطانيين أو الهنود أو الأوروبيين الذين في أيديكم.
2- يجب أن تبعدوا كل الأتراك أو الألمان الذين عندكم، وإن كنتم تجدون صعوبة في إبعادهم، فيمكنكم أن تسلموهم لي أسرى حرب.
3- يجب أن تخرجوا جميع رجالكم المسلحين من الأراضي المصرية، وتتعهَّدوا بعدم دخول رجال مسلحين إلى الأراضي المصرية، وإذا دخلوا عوملوا معاملة أعداء حيثما وجدوا.
4- يجب أن تجلوا جلاءً تامّاً عن سيوة والسلوم، وعن جميع البلاد التي إلى الشرق منها، وتقيموا بسلام في الجغبوب.
فإذا كنتم الان تجيبون هذه المطالب، وتظهرون بالأعمال أنكم تريدون أن تكونوا على الوداد؛ فإني مستعد للتساهل معكم أكثر مما تؤملون.
الجنرال السير جون مكسويل: القائد العام لجيوش جلالة ملك بريطانية العظمى
كانت تلك الرسالة قد كتبها ماكسويل قائد الجيش البريطاني في مصر بعد الاستيلاء على معسكر السنوسي، واحتلال السلوم.
كان إدريس المهدي السنوسي أثناء تلك الحوادث ببرقة وكيلاً عامّاً عن أحمد الشريف، وقد عرف سيادته ببعد النظر، والتضلع في معرفة الأمور، وكان قد نبه أكثر من مرة أحمد الشريف وأوضح له رأيه، وكان يرى عدم الدخول مع الأتراك ضد بريطانية في الحدود المصرية، وقد أصبحت البلاد في حال يُرثى لها؛ فقد تفشت فيها المجاعة، كما تسرب إليها مرض الطاعون، وسدت السبل في وجوه الليبيين بعد ما كانت السوق المصرية مفتوحة الأبواب، وأصيبت الحيوانات بالجدب، وهي أهم موارد البلاد، وقد أمسكت السماء، ودخلت البلاد في حروب مع إيطالية من جهة، ومع الإنكليز من جهة أخرى، والتفَّت القبائل وشيوخها حول زعامة إدريس المهدي السنوسي، وكتبت إلى إدريس بمقره في إجدابية بصفته صاحب الحق الشرعي في إمامة السنوسيين، ليتدارك ما وقع فيه ابن عمه أحمد الشريف الوصي على الإمارة بمحاربته الإنكليز جرياً وراء الأتراك، خصوصاً أنهم لم يوفوا بوعودهم
التي قطعوها له، فلم يرسلوا إليه بما يسد حاجة جيشه وبلاده كما وعدوه، بل ورطوا البلاد في نكبة الحرب ضد بريطانية، وتركوا شعبها الأبي يموت جوعاً، وكتب الأمير إدريس السنوسي إلى ابن عمه أحمد الشريف شارحاً له ما كان يجري في برقة، فرد الأخير برسالة مماثلة في أواخر سنة (1916 م)؛ جاء فيها: «... اعمل ما تراه مناسباً، والحاضر يرى ما لا يراه الغائب، وأنا موافق على مطالب أهل الوطن؛ حيث إن لهم حقّاً في ذلك...».
كان فشل الحملتين الشرقية والغربية على مصر، وتدهور الحالة الاقتصادية في برقة من الأسباب التي ساعدت على ظهور الأمير إدريس على مسرح الأحداث، بعد أن أصبحت حاجة البلاد إلى قيادة جديدة تتولى معالجة تلك المواقف الحرجة، وسوف نرى بإذن الله تعالى الخطوات السياسية التي اتخذها الأمير إدريس، بعد أن نكمل مسيرة أحمد الشريف إلى وفاته.
مراجع البحث:
1.علي محمد محمد الصلابي، مِنْ أَعْلَامِ التَّصَوُّفِ السُّنِّيِّ: 7سيرة الزعيم أحمد الشريف السنوسي،دار الروضة،اسطنبول،1438ه،2017م ص(134:121).
2. محمد فؤاد شكري، السنوسية دين ودولة، دار الفكر، 1948، ص (179).
3.أحمد الطيب الاشهب، برقة العربية بين الأمس واليوم،دار الهواري:القاهرة،1364ه،1945م، ص (317).
4. مصطفى علي هويدي، الحركة الوطنية في شرق ليبيا خلال الحرب العالمية الأولى، مركز دراسة جهاد الليبيين ضد الغزو الإيطالي، 1988، ص (86، 87).