الأحد

1446-12-12

|

2025-6-8

أدلة إثبات وجود الله .... دليل الهداية

بقلم: د. علي الصلابي

ربيع الآخر ١٤٤١ه/ ديسمبر ٢٠١٩م

قال تعالى: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ۝ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ۝ وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾ [سورة الأعلى: 1-3] . وقال تعالى: ﴿قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ [سورة طه: 50]، والمقصودُ بالهداية المرادةِ في هذه الآيات إعطاءُ كلِّ مخلوقٍ من الخلق والتصوير ما يصلحُ به لما خُلِقَ له، وإرشادُه إلى ما يُصْلِحُه في معيشته، ومطعمه، ومشربه، ومنكحه، وتقلبه، وتصرفه .
ومن أسماء الله الحسنى "الهادي" سبحانه وتعالى، الذي يُبصِّرُ عبادَه ويعرّفهم طريقَ الإيمان به، والإقرار بألوهيته، ومعرفة طريق بناء الحياة، ومعرفة نواميسها وسننها، حتى هدى الطيورَ والحيواناتِ والهوام والوحوش إلى ما فيه مصالحها وعيشها، ومحاذرة ما يضرُّها أو يُعْطِبُها. وقد جاء اسم "الهادي" في القرآن الكريم في قوله سبحانه: ﴿وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا﴾ [سورة الفرقان: 31]، وقوله: ﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [سورة الحج: 54].
إنّها أولاً: هدايةُ المعارِفِ الفطريةِ الضروريةِ لكلّ مخلوق: ﴿قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ [سورة طه: 50].
وهي ثانياً: هداية الإرشاد والبيان التي بَعَثَ بها أنبياءه، وأنزل بها كتبه: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ [سورة السجدة: 24].
وهي ثالثاً: الأخذُ بالقلوب والعقول إلى مواضع رضاه بالتوفيق والإلهام والحفظ، كما وعد سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ﴾ [سورة يونس: 9] ، ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ [سورة العنكبوت: 69]. وهو منزل الكتاب، الذي مَنْ تركه ضاعَ في بيداءِ الحياةِ، ومن ابتغى الهُدى في غيره أضلَّه الله . وقد نبّه العلماء على كثيرٍ من هداية الله لمخلوقاته، وكتبوا في ذلك كُتباً نافعة، فتحدّثوا عن هداية الله للنملِ والهدهدِ والنحلِ وغيرِها من مخلوقات الله الكثيرة، وهذا بابٌ واسعٌ يكفي فيه قوله تعالى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ [سورة الأنعام: 38]، وهذه الأمم تعبدُ الله وتسبّحه وتحمده، قال تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ [سورة الإسراء: 44]. وقال أيضاً: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ﴾ [سورة النور: 41].
وتأمل معي في كل من:
1- النحل: قال تعالى: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ۝ ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [سورة النحل: 68-69]، فانظر إليها وإلى اجتهادِها في صنع العسل، وبنائها البيوت المسدّسة، التي هي من أتمِّ الأشكالِ، وأحسنِها استدارةً، وأحكمِها صنعاً، وتلك مِنْ أثرِ صنع الله وإلهامه إياها، وإيحائه إليها. ثم انظر إلى حسن الامتثال؛ اتخذتِ البيوتَ أولاً، فإذا استقرّ لها بيت خرجت منه، فرعت وأكلت من الثمار، ثم أوت إلى بيوتها لأنَّ ربها سبحانه أمرها باتخاذ البيوت أولاً، ثم بالأكل بعد ذلك، ثم إذا سلكتْ سُبُلَ ربها مذلّلةً، لا يستوعِرُ عليها شيءٌ، ثم ترعى، ثم تعود. ومن العجيبِ أنَّ لها أميراً يسمّى "اليعسوب"، لا يتمُّ لها رواحٌ ولا إيابٌ، ولا عملٌ ولا مرعىً إلا به، فهي مؤتمرةٌ بأمره، سامعةٌ له مطيعةٌ، وله عليها تكليفٌ وأمرٌ ونهيٌ، وهي منقادةٌ لأمره، متبعةٌ لرأيه، يدبّرها كما يدبّرُ الملِكُ أمرَ رعيتِه، حتى إنّها إذا أوت إلى بيوتها وقف على بابِ البيت، فلا يدعُ واحدةً تزحم الأُخرى، لا تتقدّم عليها في العبور، بل تعبرُ بيوتها واحدةً بعد واحدةٍ بغير تزاحمٍ، ولا تصادم ولا تراكمٍ، كما يفعلُ الأميرُ إذا انتهى بعسكره إلى معبرٍ ضيّقٍ، لا يجوز إلا واحداً واحداً. ومن تدبَّر أحوالها وسياساتها وهدايتها، واجتماعَ شملها، وانتظامَ أمرِها، وتدبيرَ مُلكها، وتفويض كلِّ عملٍ إلى واحدٍ منها، يتعجَّب منها كلَّ العجب، ويعلمُ أنّ هذا ليسَ في مقدورِها، ولا هو من ذاتها، فإنَّ هذه أعمالٌ محكمةٌ متقنةٌ في غايةِ الإحكام والإتقان، فمنِ الذي أوحى إليها أمرَها، وجعل ما جعل في طباعها؟! ومن الذي هداها لشأنها؟! ومن الذي أنزلَ لها من الطَّلِّ ما إذا جنتْهُ ردّتْهُ عسلاً صافياً، مختلفاً ألوانُه، في غايةِ الحلاوة واللذاذة والمنفعة؟ . إنه ﴿قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ [سورة طه: 50].
2- الهدهد: ومن هدايته ما حكاه الله عنه في كتابه أن قال لنبيِّ الله سليمان عليه السلام، وقد فقده وتوعّده، فلمّا جاء بَدَرَهُ بالعذر قبل أن ينذره سليمان بالعقوبة وخاطبه خطاباً هيّجه به على الإصغاء إليه، والقبول منه، ومن ضمن هذا: إنّي أتيتُك بأمرٍ قد عرفتُه حقَّ المعرفة ﴿فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ﴾ بحيث أحطتُ به، وهو خبر عظيم له شأن، فلذلك قال: ﴿وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾ [سورة النمل: 22]. و"النبأُ" هو الخبر الذي له شأن، والنفوس متطلعة إلى معرفته، ثم وصفه بأنه "نبأ يقين" لا شكّ فيه ولا ريب، فهذه مقدّمةٌ بين يدي إخباره لنبيّ الله سليمان بذلك النبأ، استفرغتْ قلب المخبَر لتلقّي الخبر، وأوجبتْ له التشويقَ التامَّ إلى سماعهِ ومعرفتهِ، وهذا نوعٌ من براعةِ الاستهلالِ، وخطابِ التهييجِ، ثم كشفَ عن حقيقةِ الخبرِ كشفاً مؤكداً بأدلّةِ التأكيد فقال: ثم أخبر عن شأنِ تلك ﴿إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ﴾ [سورة النمل: 23]، وأنها من أجلِّ الملوك، بحيث أوتيت من كل شيء يَصْلُحُ أن يُؤتاه الملوك، ثم زادَ في تعظيم شأنها بذكر عرشها الذي تجلس عليه، وأنه عرش عظيم. ثم أخبرَه بما يدعوه إلى قصدهم وغزوهم في عُقرِ دارهم بعد دعوتهم إلى الله فقال: ﴿وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [سورة النمل: 24]، وحذفَ أداةَ العطفِ من هذه الجملةِ، وأتى بها مستقلّةً غيرَ معطوفةٍ على ما قبلَها؛ إيذاناً بأنّها المقصودةُ وما قبلَها توطئةٌ لها. ثم أخبر عن الـمُغوِي لهم، الحامل لهم على ذلك ﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ﴾ [سورة النمل: 24] المستقيم، وهو السجود لله وحده. ثم أخبر أنَّ ذلك الصدَّ حالَ بينهم وبين الهداية والسجود لله الذي لا ينبغي السجود إلا له ﴿فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ﴾ [سورة النمل: 24]، ثم ذكرَ مِنْ أفعاله سبحانه إخراجَ الخَبْء في السماواتِ والأرض، وهو المخبوءُ فيهما من المطر، والنبات والمعادن، وأنواع ما ينزل من السماء، وما يخرجُ من الأرض. وفي ذكر الهدهدِ هذا الشأنَ من أفعال الربِّ تعالى بخصوصهِ إشعارٌ بما خصّه اللهُ به من إخراج الماء المخبوءِ تحتَ الأرضِ، قال صاحب "الكشاف": وفي إخراجِ الخَبْءِ أمارةٌ على أنّه من كلامِ الهدهدِ؛ لهندسته ومعرفته الماء تحت الأرض، وذلك بإلهام ﴿الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [سورة النمل: 25]، جلّت قدرتُه، ولطفَ علمُه، ولا يكاد يخفى على ذي الفِراسة الناظرِ بنورِ الله مخايل كلِّ شخصٍ بصناعة أو فَنّ منَ العلم في روائه ومنطقه وشمائله، فما عَمِلَ آدميٌّ عملاً إلا ألقى الله عليه رداءَ عمله.

مراجع:

- علي الصلابي، مسودة كتاب قصة الخلق وآدم عليه السلام، ص ٤٣ - ٤٧.

- محمد بن أبي بكر ابن القيم، الصواعق المرسلة في الرد
على الجهمية والمعطلة، تحقيق علي بن محمد الدخيل الله، دار العاصمة، الرياض، ط 1، 1408، 3/464.

- محمد بن جرير الطبري، جامع البيان في تأويل القرآن، تحقيق أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، ط 1، 2000، 13/17.


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022