السبت

1446-12-11

|

2025-6-7

ما يُستفاد من سيرة أحمد الشريف السنوسي... الخلاصات والاستنتاجات

بقلم: الدكتور علي محمّد الصلابي

الحلقة: السابعة عشر

ربيع الآخر 1441 ه/ ديسمبر 2019م

تولى القيادة الفعلية لحركة الجهاد بعد خروج أنور باشا أحمد الشريف؛ الذي بذل كل جهوده لتنظيم حركة الجهاد بعد انسحاب الأتراك، وكتب منشوراً إلى مشايخ الزوايا والقبائل يعلن فيه استمرارية مواصلة الجهاد، وطلب من كل مسلم من سن الرابعة عشرة حتى الخامسة والستين أن يذهب إلى ميدان الجهاد مزوداً بمؤونته وسلاحه.
عزم الإيطاليون على سحق قوات أحمد الشريف، فدبَّروا تنظيم حملة قوية قوامها خمسة الاف جندي مسلح تسليحاً حديثاً؛ لضرب معسكري المجاهدين في سيدي عزيز وسيدي القرباع على ضفتي وادي درنة، وفي اليوم الذي وصل فيه أحمد الشريف إلى منطقة الظهر الحمر جرت معركة مهولة عرفت باسم سيدي القرباع، واشتهرت باسم (يوم الجمعة)، وقد تمكن المجاهدون بفضل الله من تحقيق الانتصار الحاسم في تلك المعركة.
بعد تلك المعركة شرع أحمد الشريف في جولات تفتيشية ابتدأت من الغريان، وانتهت بجدابية، فمر بجميع معسكرات الجبل الأخضر، وفتشها واطلع على سير الأمور فيها، ورتب أمور الضباط، ونظم المجالس الاستشارية، والمعسكرات، ووقعت معارك بين الطليان والمجاهدين أثناء مروره بدواخل البلاد، فاشترك في الكثير منها، لقد طاف أحمد الشريف بين المدن والقبائل يحض الناس على الجهاد وحمل السلاح ضد الغزاة، وحضر بنفسه في المعارك، ونبه المجاهدين إلى ضرورة اعتماد حرب العصابات القائمة على الكر والفر، وأكد لهم صعوبة اعتماد الخطط السابقة التي كان الأتراك يعتمدونها خلال المراحل الأولى.
حاولت إيطالية أن تضغط على أحمد الشريف بوساطة الخديوي عباس باشا بعد أن فشلت جميع وفودها التي كانت تتوافد على المجاهد أحمد الشريف وتعرض عليه أن تضمن له إمارة تحت سلطانه، وتحتفظ هي بالموانأى والثغور الساحلية، فضرب بقولها عرض الحائط.
استمر المجاهدون في جهادهم بالرغم من احتياجاتهم ونواقصهم الحربية، والضغوط الخارجية التي تدفعهم لوقف مسيرة الجهاد.
بدأت ملامح الحرب العالمية الأولى تلوح في الأفق، وكان أحمد الشريف يقظاً لما يجرى حوله، فأقام معسكرات التدريب، ورسم خطة للدفاع، وحماية الشعب، والاستعداد للجهاد، وشرع في تشكيل جيش نظامي مدرب، ليخوض به غمار حرب طويلة المدى ضد العدو الصليبي الإيطالي، ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى بدأت الدول تتسارع وتتسابق لكسب ود أحمد الشريف وقواته المجاهدة.
كانت القوى المهتمة بكسب أحمد الشريف إلى جانبها هي: تركية، وألمانية بالدرجة الأولى، وبريطانية ومصر بعد ذلك.
كانت بريطانية حريصة على استمالة أحمد الشريف إليها قبيل الحرب العالمية الأولى، وزاد حرصها بعد اندلاع الحرب الكونية، وحفظ التاريخ بعض الرسائل من القادة الإنكليز في مصر مرسلة إلى أحمد الشريف.
بعد دخول تركية الحرب العالمية الأولى بجانب ألمانية، رأت الحكومات التركية والألمانية الاستفادة من جهود السنوسيين لتشتيت القوات الإنكليزية وفق خطة لاحتلال قناة السويس، وتطهير مصر من الوجود الإنكليزي.
أقحم الأتراك أحمد الشريف في حربهم ضد الإنكليز رغم رفض أحمد الشريف بشدة في البداية، لأنه كان على يقين أن ذلك الهجوم لا يتماشى مع مصلحة بلاده، فإن الأتراك والألمان كانوا ينظرون إلى الحرب في شكلها المتكامل، والتي لا تمثل طرابلس إلا جبهة فرعية في تلك الاستراتيجية.
فشلت هجمات الأتراك على القوات الإنكليزية في القناة وفي الصحراء الغربية، وتدهورت الحالة الاقتصادية في برقة، وساعدت تلك الظروف في ظهور الأمير إدريس على مسرح الأحداث، بعد أن أصبحت حاجة البلاد إلى قيادة جديدة تتولى معالجة تلك المواقف الحرجة.
فشلت حملة أحمد الشريف في تحقيق أهدافها لعدة أسباب؛ منها: الضعف العسكري، والضعف الاقتصادي، وعدم التخطيط الاستراتيجي... إلخ.
كان رأي الأمير إدريس السنوسي بأن الحرب ضد بريطانية لا تحقق أيَّ نتيجة، وعلى السنوسيين استغلال الظروف الدولية، لتحقيق استقلال ليبية، وكان يرى أن بريطانية هي المؤهلة لأن تأخذ على عاتقها إنجاز هذا الأمر.
كان لفشل حملة أحمد الشريف اثار سلبية على سير حركة الجهاد في برقة ضد القوات الإيطالية؛ نذكر منها: ضاعت فرصة مواصلة القتال ضد إيطالية، تزعزت العلاقات الروحية التي كانت تربط أحمد الشريف بالقبائل المصرية بسبب المواجهة بين الطرفين وسقوط القتلى من كل جانب، انقطع الشريان الاقتصادي لحركة الجهاد، وسدت المنافذ المصرية.
غادر أحمد الشريف ليبية إلى إستانبول بوساطة غواصة ألمانية إثر طلب من
الحكومة التركية، ليقوم أحمد الشريف بفتح المفاوضات بينها وبين الشريف حسين ابن علي أمير مكة، الذي أعلن الانفصال عن الدولة التركية.
وصل أحمد الشريف إلى تركية، واستقبله كبار رجال الدولة استقبالاً حافلاً ورسمياً (سركه جي)، حضره بعض المسؤولين العثمانيين يتقدمهم صديقه أنور باشا وزير الحربية العثمانية.
دخلت جيوش الحلفاء إلى إستانبول، واستولت على عموم الولايات والموانأى، وعقدوا العزم على إبادة تركية، وتشتيتها وتقسيمها، وأراد الإنكليز أن يستغلوا هذا الظرف لصالحهم، وبدؤوا في تنفيذ مخططهم الهادف إلى تدمير الدولة العثمانية.
ظهر مصطفى كمال في ثوب المسلم الوطني المتدين الثائر، وأصبح السلطان تحت قيود الحلفاء، وأصبحت تركية تحت زعامتي مصطفى كمال، والسلطان وحكومته، وعمل مصطفى كمال على كسب أحمد الشريف لصفِّه لعلمه بما له من المكانة الروحية في قلوب المسلمين، وكان مصطفى كمال ابتدأ حركته باسم الدين؛ حتى إنه أمر بإحراق جميع الخمور وتكسير أدواتها، ومعاملها، وإبعاد جميع النساء المومسات، وإغلاق دور الدعارة، وأصدر أوامر شديدة بلزوم المحافظة على الصلوات في وقتها.
قرر أحمد الشريف بعد تفكير طويل الذهاب إلى الأناضول والانضمام إلى مصطفى كمال؛ رغم ما جاء من الرسل والرسائل من طرف السلطان وحكومته يحذرونه من الانخداع بمظاهر مصطفى كمال المصطنعة وادعاءاته الكاذبة.
كان انضمام أحمد الشريف نصراً عظيماً لمصطفى كمال؛ لما له من المنزلة الروحية الكبيرة في قلوب مختلف الشعوب الإسلامية، وكان الناس يعتقدون أن أحمد الشريف لا يميل إلا إلى الجبهة التي على الحق.
ساهم أحمد الشريف بطلب من مصطفى كمال في إخماد ثورة الأكراد، وخرج إليهم والتقى بشيوخهم، ودعاهم إلى الوحدة والوقوف صفاً واحداً ضد أعداء الدين.
بعد الانتهاء من حروب اليونان تهيأت القوات الكمالية لدخول ولاية إستانبول، وبعد حصار دام ما يقارب من الأربعة أشهر، ومحاولات طويلة مع دول
الحلفاء، تم الاتفاق على إخلاء إستانبول من قوات الاحتلال، ودخلت القوات الكمالية إستانبول، ثم تدرجت حكومة مصطفى كمال بعد أن تمكنت من الوضع، وخلعت الخليفة الصوري عبد المجيد، وأبعدته كما أبعدت كل من له صلة أو محبة أو انتماء لال عثمان.
بدأت نوايا مصطفى كمال الشريرة تظهر رويداً رويداً، فتدخل في الأحكام، وغيَّر القوانين الشرعية، فانزعج أحمد الشريف غاية، وغضب نهاية، وخاطب مصطفى كمال وقال له: إننا والمسلمون لم نناصرك، ونقف معك إلا لأجل حفظ كيان الدين الإسلامي.
من طرف خفي بدأت السلطات التركية تضايق أحمد الشريف، وتعد عليه أنفاسه، وأحكمت الرقابة على كل من له تعلق بالسيد، أو يزوره، وانتهى الأمر بإخراجه من تركية وسافر إلى الشام.
اشتد ضغط الحكومة الفرنسية على أحمد الشريف للخروج من الشام، وانتهى به المقام بالحجاز، وأصبح ينتقل بين المدينة ومكة المكرمة ويتصل بأهل ليبية عن طريق الحجاج، ويجمع لهم الأموال والمساعدات ويقوم بتوجيههم خير قيام.
توفي أحمد الشريف في تمام الساعة الثامنة من يوم الجمعة (13 ذي القعدة سنة 1351 هـ)، الموافق العاشر من شهر مارس سنة (1933 م) في الزاوية السنوسية في المدينة المنورة إثر مرض عضال لم يمهله، ودفن في مقبرة البقيع قرب قبر الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة، بعد أن عاش إحدى وستين سنة قضاها في خدمة الإسلام والمسلمين، ورفع شأن الدين، ومجاهدة الكافرين الغاصبين في شتى الميادين، فعليه وعلى أمثاله الرحمة والمغفرة والرضوان من رب العالمين، وأعلى الله ذكره في المصلحين.
هذه هي الخلاصة التي وصلت إليها، وقد ملت إلى الاختصار الشديد خوفاً من الإطالة والإطناب.
وأسأل الله العلي العظيم رب العرش الكريم أن يتقبل هذا الجهد المتواضع قبولاً حسناً، وأن يبارك فيه، وأن يجعله من أعمالي الصالحة التي أتقرب بها إليه، وأن لا يحرم إخواني الذين أعانوني على إكماله من الأجر والمثوبة، وأختم هذا الكتاب بقول الله تعالى: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحَشر: 10]
وبقول الشاعر:
أنا الفقير إلى رب البريات أنا المسيكين في مجموع حالاتي
أنا الظلوم لنفسي وهي ظالمتي والخير أن يأتينا من عنده ياتي
لا أستطيع لنفسي جلب منفعة ولا عن النفس لي دفع المضرّات
والفقر لي وصف ذات لازم أبداً كما الغنى أبداً وصف له ذاتي
وهذه الحال حال الخلق أجمعهم وكلهم عنده عبد له اتِ


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022