أحمد الشريف السنوسي بين تركيا و الحجاز... تفاصيل هجرته الأخيرة ووفاته
بقلم: الدكتور علي محمّد الصلابي
الحلقة: الخامسة عشر
ربيع الآخر 1441 ه/ ديسمبر 2019
أولا: طرد أحمد الشريف من تركية وهجرته إلى الحجاز
ومن طرف خفي بدأت السلطات التركية تضايق أحمد الشريف وتعد عليه أنفاسه، وأحكمت الرقابة على كل من له تعلق بالسيد، أو يزوره، وعلى المكاتبات الواردة إليه، والصادرة منه، ثم سحب بعض الجنود والضباط الذين كانوا مرافقين للسيد للقيام بحراسته وخدمته، ومرافقته، وأخيراً توقفت المصاريف التي كانت تعطى لسيادته لمدة أربعة أشهر، واشتدت الضائقة في بلاد الغربة، وقام الأتراك المحبين للسيد بواجب الضيافة، وخشيت الحكومة حدوث ما لا تحمد عقباه، فقلبت المجن، وعدلت عن خطتها، وسارعت بحوالة الصرف، وبدأت تكيد في الخفاء لإيجاد أمر تدين به سيادة أحمد الشريف، فأرسلوا إليه شخصاً ادعى أنه طالب علم، وطلب منه أن يعطيه تزكية لحفيد السلطان عبد الحميد (الشهزادة سليم) الذي كان مقيماً في بيروت ليعينه على مهمته، وهي وصوله لطلب العلم بالجامع الأزهر، وبالغ الطالب الذي يدعى ضياء الدين جودت في الترجي والاستعطاف، والتردد؛ حتى أخجل أحمد الشريف، فكتب إليه: إن حامل هذا الكتاب إليكم هو أحد طلبة العلم المحتاجين للمساعدة، ويأمل أن تمدوا له يد العون بقدر المستطاع لإتمام مهمته؛ وإذ بالكتاب يصل إلى مصطفى كمال الذي طلب من مجلس الحكومة الاجتماع، وقرأ عليهم الرسالة، فقالوا: هذه خيانة عظمى للدولة.
وقرروا حالاً إبعاد سيادة أحمد الشريف عن تركية في مدة لا تتجاوز العشرة أيام، أو إلزامه بالإقامة الجبرية في قرية عثمانية تابعة لولاية (أضنة) مدة حياته دون اتصال بأحد ما، وبذلك أبلغت حكومة أنقرة أمرها هذا لسيادة أحمد الشريف بوساطة والي ولاية (أضنة)، فقال أحمد الشريف عندما سمع القرار: كنت أتوقع منذ خلع عبد المجيد؛ لأن بقائي في تركية لا يروق لمن يريد أن يتلاعب بأمر الشرع الشريف، ويطمس معالم الدين الحنيف، وإنني أختار الخروج من تركية، وهذا جزاء معاضدتي ومناصرتي لها، وسوف تخسر تركية ميزتها بين عموم الشعوب العربية، والأمم الإسلامية، فرفع الوالي اختياره، وبذلك حددت لسيادته إقامة عشرة أيام، وتحصل على تأشيرة لدخول سورية لمدة محدودة.
ونزل في دمشق ضيفاً على سعيد الجزائري حفيد المجاهد عبد القادر الجزائري، وفرح به أهل الشام فرحاً عظيماً، وتوافد الأعيان والشيوخ والزعماء لزيارته، ونشطت الحمية الإسلامية، وزار القدس ونزل ضيفاً عزيزاً على أمين الحسيني رئيس المجلس الأعلى الإسلامي، وضايقه البريطانيون من أجل خروجه من القدس ورجوعه إلى دمشق، وعاملته فرنسة معاملة حذرة، وطلبت منه الخروج، وأرادت إيطالية أن تستغل الموقف، وعرضت عليه مساعدات، والرجوع إلى ليبية للتفاوض مع الحكومة الإيطالية من أجل مصلحة البلاد والعباد، فأجاب السيد الجليل، والجبل الشامخ رحمه الله: أما وأنا خارج حدود الوطن، فلن أساوم أو أصالح على شبر منه، كما لا حق لي في ذلك، وإذا كانت الحكومة الإيطالية صادقة في قولها؛ فعندها الأمير السيد محمد إدريس المهدي السنوسي في مصر، وعندها رؤساء الوطن فتتفاهم معهم، وهم أسهل لها وأخف شروطاً مني، وبهذا قفل باب المفاوضات، ولقد قال لمندوب الحكومة الإيطالية في تركية من قبل: «.... لأن طرابلس وبرقة ليستا ملكي لأجود به على الطليان، بل هما ملك أهلها».
واشتد ضغط الحكومة الفرنسية على سيادة السيد أحمد الشريف للخروج من سورية، فطلب مقابلة القنصل الإنكليزي بدمشق، فقدم إلى سيادته، وبعد مقابلة المجاملة قال له: إني أريد الخروج من سورية إلى الحجاز عن طريق شرق الأردن، فقال القنصل: الحكومة الإنكليزية لا توافق، فقال له: إذاً إلى العراق، فقال له: أيضاً لا توافق، فقال له إلى مصر، فقال له: ملك مصر لا يوافق، فقال له: إلى اليمن، أو الهند، أو السودان، فقال له: لا نوافق، وكل بلد يعتليه العلم البريطاني لا يمكن أن تدخلوه، فغضب أحمد الشريف، واشتاط غضباً، وقال للقنصل: «إذاً مفاتيح الدنيا كلها بيد الإنكليز، أليس الأرض كلها لله وأن الأمر بيده؟! ثم قال له: أما أنا فسيجعل الله لي فرجاً ومخرجاً؛ وأما الحكومة البريطانية، والله، ثم والله سيأتي يوم تندم فيه على هذا التصرف، وستخسر كل ما تحت يدها من الممالك، وستندم ولا ينفعها الندم»، فقال القنصل كالمستهزأى: عندكم طريق نجد، فقال له: نعرفها ولا حاجة لدلالتكم، فغضب القنصل وخرج محمر الوجه.
يقول عبد القادر بن علي بعد فترة من الزمن: وها هو اليوم تحقق ما أقسم عليه سيادته، فقد خرج العراق، وشرق الأردن، والهند، ومصر، والسودان... وغيرها من يد الإنكليز.
واتصل سعيد الجزائري بمندوب الملك عبد العزيز في دمشق الشيخ عبد العزيز الشقيحي، وعرض عليه رغبة السيد أحمد الشريف للحجاز، واتصل مندوب الملك، وجاء الرد بالموافقة، وبدأت الرحلة إلى الحجاز عن طريق أراضي نجد تأخذ وضعها للاستعداد، وأعدوا ثلاث سيارات مع ثلاثة خبراء بمبلغ 270 جنيهاً ذهبياً، ولم يكن هذا المبلغ متوفراً، وضايقته السلطات الفرنسية وهددته، بإرجاعه إلى تركية، وعندما ضاق الأمر، واشتدت الكربة جاء فرج الله، وكان السبب الأمير شكيب أرسلان الذي أرسل للسيد أحمد الشريف 400 جنيه إسترليني، أهداها الشيخ جاسم بن إبراهيم أحد تجار اللؤلؤ ببمباي [الطلاق: {قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطّلاَق: 3]، فعندما جاء الخبر لأحمد الشريف خرَّ ساجداً لله تعالى يحمده ويشكره على هذا الغوث الرباني، والمدد الإلـهي، ثم رفع رأسه، ورفع يديه إلى السماء، وقال: فرجت علينا يا شكيب، فرج الله عنك كرب الدنيا والاخرة، وساعدتنا في محنتنا ساعدك الله في كل أمور دينك ودنياك، ودعوات كثيرة نالها شكيب أرسلان بسبب إرسال ذلك المبلغ ووصوله في الوقت الحرج.
قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ً ïوَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطّلاَق: 2-3].
وتحركت الرحلة إلى الحجاز عن طريق نجد، وكانت عناية الله وحفظه ورعايته محيطة به، ووصل إلى منطقة الجوف (دومة الجندل)، وظن أهل المنطقة أنهم أعداء، فألقوا القبض عليهم، وبعد أن عرف أميرهم عبد الله بن عقيل أن الذي أمامه أحمد الشريف السنوسي صاحب الجهاد في برقة وطرابلس، وأنه يقصد حج بيت الله الحرام، ثم زيارة الملك عبد العزيز بن سعود، ارتمى عليه الرجل وعانقه ورحب به، واعتذر لسيادته، وأحسن نزله، وأرسل إلى الملك عبد العزيز؛ فرد عليهم بإكرامه واحترامه وإرجاع السيارات إلى محلها؛ لأن هذا من إكرام أحمد الشريف؛ لأن الأمير عبد الله بن عقيل فكر في إحراقها، وكانت هذه السيارات هي أول سيارات تشق هذا الطريق وتقطع هذه الصحراء العظيمة، وكان قد أشيع أن أحمد الشريف مات في الصحراء هو ومن معه، ونهبتهم الأعراب، ولم ينفِ هذه الإشاعات إلا رجوع السيارات إلى دمشق، واستمر في رحلته حتى وصل مكة واعتمر، ثم جاءه وفد الملك عبد العزيز، ثم سافر إلى جدة والتقى بالملك عبد العزيز؛ فأكرمه وأحسن نزله، وأصبح في ضيافته، وقدم خدمات عظيمة للإصلاح بين القبائل وتوحيدها تحت زعامة الملك عبد العزيز الذي كان يحارب الحسين بن علي في جدة، وأصبح أحمد الشريف يتردد بين مكة والمدينة في ضيافة الملك عبد العزيز.
ثانيا: نصيحة الملك عبد العزيز لأحمد الشريف
في عام (1346 هـ) أراد أحمد الشريف أن يحج بيت الله الحرام في ذلك العام، فأهلَّ من ذي الحليفة، وعند وصوله إلى جدة، وجد الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن ال سعود بها نازلاً في بيت أحد وجهاء جدة المسمى الشيخ محمد حسين نصيف، وزار أحمد الشريف الملك عبد العزيز، وطلب الملك منه البقاء في جدة لمدة يومين لأمر خاص، وتم اللقاء بين الملك عبد العزيز، وأحمد الشريف، وكان المقصود من هذا الاجتماع هو التفاهم والمباحثة لإيجاد طريق لحل مسألة الحرب القائمة في برقة، وعرض عليه فتح باب المفاوضات مع الحكومة الإيطالية، وعقد هدنة على شروط تعودون بموجبها إلى وطنكم، وتتداركون البقية الباقية من أهله المتعبين.
وقال الملك عبد العزيز: إن أهل وطنكم في ذمتكم ويحتاجون إلى تفكيركم في راحتهم، وتداركهم قبل القضاء عليهم، وهم مهما يقاومون فلابد أن يكلُّوا لأن هذه الحكومة قوية قائمة، ولديها ما يحتاجون من لوازم الحرب، وعقد الهدنة معها يجعل لكم فرصة تجتمعون خلالها بأهل وطنكم وتلمون شتاتهم، وترتبون أموركم على حسب ما تستطيعون من مصالحة أو محاربة فيما بعد، وهذا الذي دعاني إلى طلبكم.
فأجاب أحمد الشريف: صدقتم في كل ما قلتم، ولكن يا حضرة الملك؛ الحكومة الإيطالية غادرة وماكرة، ولا عهد لها ولا ذمة، وإذا كانت صادقة في رغباتها فعندها أهل الوطن، وهم المحاربون لها، وأمامها الأمير السيد محمد إدريس المهدي السنوسي، عرفته وعرفها، وهو ينوب عني وعن أهل الوطن فتتفاهم معه، وهو أهون لها مني وألين، أما أنا ما دمت خارجاً عن الوطن بعيداً عنه فلن نساوم فيه، وحكومة إيطالية تريد أن تحكم الوطن باسمي نظير إغرائها بأموالها ووعودها الخلابة، وأنا أريد تخليص الوطن منها كليّاً، كما سيكون إن شاء الله عاجلاً أو اجلاً، ولذلك أرجو أن تتموا إحسانكم لي، وتساعدوني على هجرتي، وإعفائي من ألاعيب إيطالية، وعدم انشغالكم وانشغالي بما لا يأتي بنتيجة.
فقال الملك عبد العزيز رحمه الله: أما مساعدتكم على هجرتكم فهذا حاصل إن شاء الله، ولا لنا فيه جميل، وأما موضوع الوطن وأهله، فأنتم أدرى به، ولن نشغلكم ثانياً إن شاء الله، نرجو الله أن يقدر للجميع ما فيه الخير والنصر والتوفيق.
ثم توجه أحمد الشريف إلى مكة وأدى مناسك العمرة، ثم أدى مناسك الحج، ثم رجع إلى المدينة، وكان يتصل بأهل ليبية عن طريق الحجاج، ويجمع لهم الأموال والمساعدات ويقوم بتوجيهم خير قيام.
ثالثا: وفاته
أخذ أحمد الشريف بعد وصوله للحجاز ينتقل بين المدينة المنورة، ومكة المكرمة، وإذا بداعي الموت يناديه في تمام الساعة الثامنة من يوم الجمعة 13 ذي القعدة سنة (1351 هـ)، الموافق العاشر من شهر مارس سنة (1933 م) في الزاوية السنوسية في المدينة المنورة إثر مرض عضال لم يمهله، ودفن في مقبرة البقيع قرب قبر الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة، بعد أن عاش إحدى وستين سنة قضاها في خدمة الإسلام والمسلمين، ورفع شأن الدين، ومجاهدة الكافرين الغاصبين في شتى الميادين، فعليه وعلى أمثاله الرحمة والمغفرة والرضوان من رب العالمين، وأعلى الله ذكره في المصلحين.
مراجع البحث:
1.علي محمد محمد الصلابي، مِنْ أَعْلَامِ التَّصَوُّفِ السُّنِّيِّ: 7سيرة الزعيم أحمد الشريف السنوسي،دار الروضة،اسطنبول،1438ه،2017م ص(170:164).
2. لوثروب ستودارد، حاضر العالم الإسلامي، المحقق: شكيب أرسلان -عجاج نويهض، دار الفكر، ط3، 1971، (2/158).
3. عبد القادر بن علي، الفوائد الجلية في تاريخ العائلة السنوسية، مطبعة دار الجزائر العربية، دمشق، 1956م، (2/122، 123).
4. مصطفى علي هويدي، الحركة الوطنية في شرق ليبيا خلال الحرب العالمية الأولى، مركز دراسة جهاد الليبيين ضد الغزو الإيطالي، 1988، ص (179).
بقلم: الدكتور علي محمّد الصلابي
الحلقة: الخامسة عشر
ربيع الآخر 1441 ه/ ديسمبر 2019
أولا: طرد أحمد الشريف من تركية وهجرته إلى الحجاز
ومن طرف خفي بدأت السلطات التركية تضايق أحمد الشريف وتعد عليه أنفاسه، وأحكمت الرقابة على كل من له تعلق بالسيد، أو يزوره، وعلى المكاتبات الواردة إليه، والصادرة منه، ثم سحب بعض الجنود والضباط الذين كانوا مرافقين للسيد للقيام بحراسته وخدمته، ومرافقته، وأخيراً توقفت المصاريف التي كانت تعطى لسيادته لمدة أربعة أشهر، واشتدت الضائقة في بلاد الغربة، وقام الأتراك المحبين للسيد بواجب الضيافة، وخشيت الحكومة حدوث ما لا تحمد عقباه، فقلبت المجن، وعدلت عن خطتها، وسارعت بحوالة الصرف، وبدأت تكيد في الخفاء لإيجاد أمر تدين به سيادة أحمد الشريف، فأرسلوا إليه شخصاً ادعى أنه طالب علم، وطلب منه أن يعطيه تزكية لحفيد السلطان عبد الحميد (الشهزادة سليم) الذي كان مقيماً في بيروت ليعينه على مهمته، وهي وصوله لطلب العلم بالجامع الأزهر، وبالغ الطالب الذي يدعى ضياء الدين جودت في الترجي والاستعطاف، والتردد؛ حتى أخجل أحمد الشريف، فكتب إليه: إن حامل هذا الكتاب إليكم هو أحد طلبة العلم المحتاجين للمساعدة، ويأمل أن تمدوا له يد العون بقدر المستطاع لإتمام مهمته؛ وإذ بالكتاب يصل إلى مصطفى كمال الذي طلب من مجلس الحكومة الاجتماع، وقرأ عليهم الرسالة، فقالوا: هذه خيانة عظمى للدولة.
وقرروا حالاً إبعاد سيادة أحمد الشريف عن تركية في مدة لا تتجاوز العشرة أيام، أو إلزامه بالإقامة الجبرية في قرية عثمانية تابعة لولاية (أضنة) مدة حياته دون اتصال بأحد ما، وبذلك أبلغت حكومة أنقرة أمرها هذا لسيادة أحمد الشريف بوساطة والي ولاية (أضنة)، فقال أحمد الشريف عندما سمع القرار: كنت أتوقع منذ خلع عبد المجيد؛ لأن بقائي في تركية لا يروق لمن يريد أن يتلاعب بأمر الشرع الشريف، ويطمس معالم الدين الحنيف، وإنني أختار الخروج من تركية، وهذا جزاء معاضدتي ومناصرتي لها، وسوف تخسر تركية ميزتها بين عموم الشعوب العربية، والأمم الإسلامية، فرفع الوالي اختياره، وبذلك حددت لسيادته إقامة عشرة أيام، وتحصل على تأشيرة لدخول سورية لمدة محدودة.
ونزل في دمشق ضيفاً على سعيد الجزائري حفيد المجاهد عبد القادر الجزائري، وفرح به أهل الشام فرحاً عظيماً، وتوافد الأعيان والشيوخ والزعماء لزيارته، ونشطت الحمية الإسلامية، وزار القدس ونزل ضيفاً عزيزاً على أمين الحسيني رئيس المجلس الأعلى الإسلامي، وضايقه البريطانيون من أجل خروجه من القدس ورجوعه إلى دمشق، وعاملته فرنسة معاملة حذرة، وطلبت منه الخروج، وأرادت إيطالية أن تستغل الموقف، وعرضت عليه مساعدات، والرجوع إلى ليبية للتفاوض مع الحكومة الإيطالية من أجل مصلحة البلاد والعباد، فأجاب السيد الجليل، والجبل الشامخ رحمه الله: أما وأنا خارج حدود الوطن، فلن أساوم أو أصالح على شبر منه، كما لا حق لي في ذلك، وإذا كانت الحكومة الإيطالية صادقة في قولها؛ فعندها الأمير السيد محمد إدريس المهدي السنوسي في مصر، وعندها رؤساء الوطن فتتفاهم معهم، وهم أسهل لها وأخف شروطاً مني، وبهذا قفل باب المفاوضات، ولقد قال لمندوب الحكومة الإيطالية في تركية من قبل: «.... لأن طرابلس وبرقة ليستا ملكي لأجود به على الطليان، بل هما ملك أهلها».
واشتد ضغط الحكومة الفرنسية على سيادة السيد أحمد الشريف للخروج من سورية، فطلب مقابلة القنصل الإنكليزي بدمشق، فقدم إلى سيادته، وبعد مقابلة المجاملة قال له: إني أريد الخروج من سورية إلى الحجاز عن طريق شرق الأردن، فقال القنصل: الحكومة الإنكليزية لا توافق، فقال له: إذاً إلى العراق، فقال له: أيضاً لا توافق، فقال له إلى مصر، فقال له: ملك مصر لا يوافق، فقال له: إلى اليمن، أو الهند، أو السودان، فقال له: لا نوافق، وكل بلد يعتليه العلم البريطاني لا يمكن أن تدخلوه، فغضب أحمد الشريف، واشتاط غضباً، وقال للقنصل: «إذاً مفاتيح الدنيا كلها بيد الإنكليز، أليس الأرض كلها لله وأن الأمر بيده؟! ثم قال له: أما أنا فسيجعل الله لي فرجاً ومخرجاً؛ وأما الحكومة البريطانية، والله، ثم والله سيأتي يوم تندم فيه على هذا التصرف، وستخسر كل ما تحت يدها من الممالك، وستندم ولا ينفعها الندم»، فقال القنصل كالمستهزأى: عندكم طريق نجد، فقال له: نعرفها ولا حاجة لدلالتكم، فغضب القنصل وخرج محمر الوجه.
يقول عبد القادر بن علي بعد فترة من الزمن: وها هو اليوم تحقق ما أقسم عليه سيادته، فقد خرج العراق، وشرق الأردن، والهند، ومصر، والسودان... وغيرها من يد الإنكليز.
واتصل سعيد الجزائري بمندوب الملك عبد العزيز في دمشق الشيخ عبد العزيز الشقيحي، وعرض عليه رغبة السيد أحمد الشريف للحجاز، واتصل مندوب الملك، وجاء الرد بالموافقة، وبدأت الرحلة إلى الحجاز عن طريق أراضي نجد تأخذ وضعها للاستعداد، وأعدوا ثلاث سيارات مع ثلاثة خبراء بمبلغ 270 جنيهاً ذهبياً، ولم يكن هذا المبلغ متوفراً، وضايقته السلطات الفرنسية وهددته، بإرجاعه إلى تركية، وعندما ضاق الأمر، واشتدت الكربة جاء فرج الله، وكان السبب الأمير شكيب أرسلان الذي أرسل للسيد أحمد الشريف 400 جنيه إسترليني، أهداها الشيخ جاسم بن إبراهيم أحد تجار اللؤلؤ ببمباي [الطلاق: {قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطّلاَق: 3]، فعندما جاء الخبر لأحمد الشريف خرَّ ساجداً لله تعالى يحمده ويشكره على هذا الغوث الرباني، والمدد الإلـهي، ثم رفع رأسه، ورفع يديه إلى السماء، وقال: فرجت علينا يا شكيب، فرج الله عنك كرب الدنيا والاخرة، وساعدتنا في محنتنا ساعدك الله في كل أمور دينك ودنياك، ودعوات كثيرة نالها شكيب أرسلان بسبب إرسال ذلك المبلغ ووصوله في الوقت الحرج.
قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ً ïوَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطّلاَق: 2-3].
وتحركت الرحلة إلى الحجاز عن طريق نجد، وكانت عناية الله وحفظه ورعايته محيطة به، ووصل إلى منطقة الجوف (دومة الجندل)، وظن أهل المنطقة أنهم أعداء، فألقوا القبض عليهم، وبعد أن عرف أميرهم عبد الله بن عقيل أن الذي أمامه أحمد الشريف السنوسي صاحب الجهاد في برقة وطرابلس، وأنه يقصد حج بيت الله الحرام، ثم زيارة الملك عبد العزيز بن سعود، ارتمى عليه الرجل وعانقه ورحب به، واعتذر لسيادته، وأحسن نزله، وأرسل إلى الملك عبد العزيز؛ فرد عليهم بإكرامه واحترامه وإرجاع السيارات إلى محلها؛ لأن هذا من إكرام أحمد الشريف؛ لأن الأمير عبد الله بن عقيل فكر في إحراقها، وكانت هذه السيارات هي أول سيارات تشق هذا الطريق وتقطع هذه الصحراء العظيمة، وكان قد أشيع أن أحمد الشريف مات في الصحراء هو ومن معه، ونهبتهم الأعراب، ولم ينفِ هذه الإشاعات إلا رجوع السيارات إلى دمشق، واستمر في رحلته حتى وصل مكة واعتمر، ثم جاءه وفد الملك عبد العزيز، ثم سافر إلى جدة والتقى بالملك عبد العزيز؛ فأكرمه وأحسن نزله، وأصبح في ضيافته، وقدم خدمات عظيمة للإصلاح بين القبائل وتوحيدها تحت زعامة الملك عبد العزيز الذي كان يحارب الحسين بن علي في جدة، وأصبح أحمد الشريف يتردد بين مكة والمدينة في ضيافة الملك عبد العزيز.
ثانيا: نصيحة الملك عبد العزيز لأحمد الشريف
في عام (1346 هـ) أراد أحمد الشريف أن يحج بيت الله الحرام في ذلك العام، فأهلَّ من ذي الحليفة، وعند وصوله إلى جدة، وجد الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن ال سعود بها نازلاً في بيت أحد وجهاء جدة المسمى الشيخ محمد حسين نصيف، وزار أحمد الشريف الملك عبد العزيز، وطلب الملك منه البقاء في جدة لمدة يومين لأمر خاص، وتم اللقاء بين الملك عبد العزيز، وأحمد الشريف، وكان المقصود من هذا الاجتماع هو التفاهم والمباحثة لإيجاد طريق لحل مسألة الحرب القائمة في برقة، وعرض عليه فتح باب المفاوضات مع الحكومة الإيطالية، وعقد هدنة على شروط تعودون بموجبها إلى وطنكم، وتتداركون البقية الباقية من أهله المتعبين.
وقال الملك عبد العزيز: إن أهل وطنكم في ذمتكم ويحتاجون إلى تفكيركم في راحتهم، وتداركهم قبل القضاء عليهم، وهم مهما يقاومون فلابد أن يكلُّوا لأن هذه الحكومة قوية قائمة، ولديها ما يحتاجون من لوازم الحرب، وعقد الهدنة معها يجعل لكم فرصة تجتمعون خلالها بأهل وطنكم وتلمون شتاتهم، وترتبون أموركم على حسب ما تستطيعون من مصالحة أو محاربة فيما بعد، وهذا الذي دعاني إلى طلبكم.
فأجاب أحمد الشريف: صدقتم في كل ما قلتم، ولكن يا حضرة الملك؛ الحكومة الإيطالية غادرة وماكرة، ولا عهد لها ولا ذمة، وإذا كانت صادقة في رغباتها فعندها أهل الوطن، وهم المحاربون لها، وأمامها الأمير السيد محمد إدريس المهدي السنوسي، عرفته وعرفها، وهو ينوب عني وعن أهل الوطن فتتفاهم معه، وهو أهون لها مني وألين، أما أنا ما دمت خارجاً عن الوطن بعيداً عنه فلن نساوم فيه، وحكومة إيطالية تريد أن تحكم الوطن باسمي نظير إغرائها بأموالها ووعودها الخلابة، وأنا أريد تخليص الوطن منها كليّاً، كما سيكون إن شاء الله عاجلاً أو اجلاً، ولذلك أرجو أن تتموا إحسانكم لي، وتساعدوني على هجرتي، وإعفائي من ألاعيب إيطالية، وعدم انشغالكم وانشغالي بما لا يأتي بنتيجة.
فقال الملك عبد العزيز رحمه الله: أما مساعدتكم على هجرتكم فهذا حاصل إن شاء الله، ولا لنا فيه جميل، وأما موضوع الوطن وأهله، فأنتم أدرى به، ولن نشغلكم ثانياً إن شاء الله، نرجو الله أن يقدر للجميع ما فيه الخير والنصر والتوفيق.
ثم توجه أحمد الشريف إلى مكة وأدى مناسك العمرة، ثم أدى مناسك الحج، ثم رجع إلى المدينة، وكان يتصل بأهل ليبية عن طريق الحجاج، ويجمع لهم الأموال والمساعدات ويقوم بتوجيهم خير قيام.
ثالثا: وفاته
أخذ أحمد الشريف بعد وصوله للحجاز ينتقل بين المدينة المنورة، ومكة المكرمة، وإذا بداعي الموت يناديه في تمام الساعة الثامنة من يوم الجمعة 13 ذي القعدة سنة (1351 هـ)، الموافق العاشر من شهر مارس سنة (1933 م) في الزاوية السنوسية في المدينة المنورة إثر مرض عضال لم يمهله، ودفن في مقبرة البقيع قرب قبر الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة، بعد أن عاش إحدى وستين سنة قضاها في خدمة الإسلام والمسلمين، ورفع شأن الدين، ومجاهدة الكافرين الغاصبين في شتى الميادين، فعليه وعلى أمثاله الرحمة والمغفرة والرضوان من رب العالمين، وأعلى الله ذكره في المصلحين.
مراجع البحث:
1.علي محمد محمد الصلابي، مِنْ أَعْلَامِ التَّصَوُّفِ السُّنِّيِّ: 7سيرة الزعيم أحمد الشريف السنوسي،دار الروضة،اسطنبول،1438ه،2017م
2. لوثروب ستودارد، حاضر العالم الإسلامي، المحقق: شكيب أرسلان -عجاج نويهض، دار الفكر، ط3، 1971، (2/158).
3. عبد القادر بن علي، الفوائد الجلية في تاريخ العائلة السنوسية، مطبعة دار الجزائر العربية، دمشق، 1956م، (2/122، 123).
4. مصطفى علي هويدي، الحركة الوطنية في شرق ليبيا خلال الحرب العالمية الأولى، مركز دراسة جهاد الليبيين ضد الغزو الإيطالي، 1988، ص (179).