تأملات في الآية الكريمة:
{فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ}
من كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ
الحلقة: 166
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
30 جمادى الأولى 1444ه/ 24 ديسمبر 2022م
لقد أسلما رغم محاولة الشيطان أن يلعب دوراً في الاختبار والابتلاء، حين جاء الشيطان يوسوس إلى إبراهيم - عليه السّلام - مُوحياً بأن الأمر لا يخرج عن أن يكون رُؤيا، وكم في الرؤى من أضغاث أحلام، وهل من العقل أن يذبح إنسان ابنه مطيعاً رؤياه؟ لعلها وهم من الأوهام ولعلها خيال، مجرد خيال على أنه في الرؤيا -حسب وسوسة الشيطان- لم يؤمر بذبح ابنه، ولكنه رأى أن يذبحه، وفرق بين أن يؤمر بذبحه، وبين أن يرى أنه يذبحه، وأحسّ سيدنا إبراهيم بالشيطان يريد أن ينفذ إلى قلبه، فرجم الشيطان بسبع حصيات، وردّه خاسئاً مدحوراً، ولم ييأس الشيطان وهو العنيد اللجُوج، لقد انصرف من الأب إلى الابن قائلاً: إنّها مجرد رؤيا، أيذبحك أبوك من أجل رؤيا ؟ وأحسّ الابن بالمحاولة الخبيثة، وعرف أنّها محاولة شيطانية، فرجم الشيطان بسبع حصيات، ولم ييأس الشيطان، وهو العنيد اللجوج، فذهب مسرعاً إلى أم إسماعيل قائلاً لها: أدركي ابنك، إنّ أباه يريد أن يذبحه، استنقذيه منه قبل فوات الأوان، ورجمته الأم لثقتها بأن زوجها لا يتصرّف إلا في إطار الوحيّ، لقد رجمته هي الأخرى بسبع حصيات.
لقد رجم الجميع مصدراً من أهم مصادر الشرّ وهو الشيطان، وهذا الرمز الجميل - أعني: رجْم مصدر من مصادر الشرِّ- هو الذي يتكرر كل عام حينما يوشك الحجاج إلى بيت الله الحرام أن ينتهوا من حجِّهم، إنَّ حكمة رمي الجمار في الحج إنما هي رمي مصدر من أهم مصادر الشر والإثم والمعصية وهو "إبليس"، ورجمه مراراً وتكراراً، وتنتهي أعمال الحج بهذه الصورة الرائعة، صورة العزم المصمّم على الابتعاد المطلق عن الإثم والمعصية، وذلك تسجيل مؤكد وإعلان مشهود وإشهاد سافر على أنَّ الحاجَّ قد عزم عزماً لا تزعزعه أعاصير الشهوة أو مغريات الفتنة على أن يصبح خيراً كله، لا مجال لنزغات الشيطان للتسلل إلى نفسه، فقد أصبح - بتطهير نفسه وبرجم الشيطان- من عباد الله المخلصين الذين لا سلطان للشيطان عليهم(1).
لقد أسلم إبراهيم وإسماعيل - عليهما السّلام - فلما أسلما أيّ: خلصا لله كلية واستسلما إليه استسلاماً مطلقاً، ثقة وطاعة لله ورضى وتسليم له سبحانه وتعالى، وكلاهما لا يجد في نفسه إلا هذه المشاعر التي لا يصنعها غير الإيمان العظيم، وهذا هو الإسلام في حقيقته، عن الذي صنعه إبراهيم وإسماعيل - عليهما السّلام- إنما هو الاستسلام لمراد الله، الاستسلام الواعي المتعقّل القاصد المريد، العارف بما يفعل، المطمئن لما يكون مع الرضى الهادئ المستبشر المتذوّق للطاعة وطعمها الجميل(2).
وهنا كان إبراهيم وإسماعيل - عليهما السّلام- قد أدّيا، وكانا قد أسلما، وكانا قد حققا الأمر والتكليف، ولم يكن باقياً إلا أن يُذبح إسماعيل- بعد أن تلّه للجبين- أي أكبه على وجهه، ليذبحه من قفاه ولا يشاهد وجهه عند ذبحه؛ ليكون أهون عليه(3).
قال ابن عباس رضي الله عنهما: فلما عزم إبراهيم - عليه السّلام - على ذبح ولده ورماه على شقه، قال الابن: يا أبت اشدُد رباطي حتى لا اضطرب، واكفف ثيابك لئلا ينتضح عليها شيء من دمّي، فتراه أمي فتحزن، وأحِدَّ شفرتك، وأسرع بها على حلقي؛ ليكون الموت أهون عليَّ، فقال إبراهيم - عليه السّلام -: نعم العبد أنت يا بني على أمر الله، ثم ضمّه إلى صدره، وأخذ يقبّله ويودّعه الوداع الأخير ثم أسلم إبراهيم ابنه إسماعيل عليهما السلام، فصرعه على شقه، وأوثقه بكتافه، ووضع السكين على حلقه وأمرّها فوق عنقه، ولكن السكين لم تقطع؛ لأنَّ الله سبحانه وتعالى الذي قد سلب خاصية الإحراق من النار التي أُلقي فيها من قبل إبراهيم - عليه السّلام - هو سبحانه وتعالى الذي سلب خاصية القطع من السكين التي مرّرها إبراهيم على رقبة ابنه إسماعيل - عليه السّلام -، فقال إسماعيل الغلام الحليم: يا أبتِ كُبّني على وجهي، فإنك إذا نظرت إليّ أدركتك رحمة بي تحول بينك وبين أمر الله، ففعل إبراهيم الشفوق الرحيم، ثم وضع السكين على قفا ابنه المطيع، فلم تمضِ الشفرة، ولم تفُرِ الأوداج(4).
والمهم في القصة، أنه كان الابتلاء قد تمَّ، والامتحان قد وقع، ونتائجه قد ظهرت، وغاياته قد تحققت، ولم يعد إلا الألم البدني وإلا الدم المسفوح والجسد الذبيح، والله لا يريد أن يعذب عباده بالابتلاء، ولا يريد دماءهم وأجسادهم في شيء، ومتى خلصوا له واستعدوا للأداء بكليّتهم، فقد أدّوا وقد حققوا التكليف، وقد جازوا الامتحان بنجاح، وعرف الله من إبراهيم وإسماعيل - عليهما السّلام – صدقهما، فاعتبرهما قد أدّيا وحقّقا وصدَقا(5).
مراجع الحلقة السادسة والستون بعد الثلاثمائة:
(( قصص الأنبياء في رحاب الكون، عبد الحليم محمود، ص129.
(2) في ظلال القرآن، سيد قطب، (5/2996).
(3) تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير)، (4/15).
(4) من لطائف التعبير القرآني حول سير الأنبياء والمرسلين، محمد فؤاد سندي، ص205.
(5) في ظلال القرآن، سيد قطب، (5/2996).
يمكنكم تحميل كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي: