الأحد

1446-11-06

|

2025-5-4

من كتاب الدولة الأموية: خلافة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه

(كرامات للمجاهدين في عهد معاوية رضي الله عنه)

الحلقة: الخامسة والستون

بقلم: د. علي محمد الصلابي

ربيع الأول 1442 ه/ نوفمبر 2020

حدثت كرامات للمجاهدين في عهد معاوية رضي الله عنه؛ منها: ما كان لأبي مسلم الخولاني والتي مرّ ذكرها، وما حدث لعقبة رحمهما الله، حينما نادى الوحوش والدواب وطلب منها الرحيل، فرحلت بإذن الله تعالى؛ حيث قال: فارحلوا عنّا؛ فإنّا نازلون، ومن وجدناه بعد هذا قتلناه، فنظر الناس بعد ذلك إلى أمر مُعْجِب، من أن السباع تخرج من الشَّعْراء، وهي تحمل أشبالها سمعاً وطاعة، والذئب يحمل جرْوَه، والحية تحمل أولادها. ونادى في الناس: كُفُّوا عنهم، حتى يرحلوا عنها، فخرج ما فيها من الوحش والسباع والهوامّ والناس ينظرون إليها، حتى أوجعهم حرُّ الشمس، فلمَّا لم يروا منها شيئاً، دخلوا، فأمرهم أن يقطعوا الشجر.
فأقام أهل إفريقية ـ بالقيروان ـ بعد ذلك أربعين عاماً لا يرون بها حيَّة، ولا عقرباً، ولا سَبُعاً، فاختط عقبة أولاً دار الإمارة، ثم أتى إلى موضع المسجد الأعظم فاختطَّه، ولم يُحدث فيه بناء، وكان يصلي فيه وهو كذلك، فاختلف الناس عليه في القبلة وقالوا: إن جميع أهل المغرب يضعون قِبلتهم على قبلة هذا المسجد، فأجهد نفسك في تقويمها، فأقاموا أيّاماً ينظرون إلى مطالع الشتاء والصيف من النجوم ومشارق الشمس، فلمَّا رأى أمرهم قد اختلف بات مغموماً، فدعا الله ـ عز وجل ـ أن يُفرج عنه، فأتاه ات في منامه فقال له: إذا أصبحت فخذ اللواء في يدك، واجعله على عُنُقك؛ فإنك تسمع بين يديك تكبيراً لا يسمعه أحد من المسلمين غيرك، فانظر الموضع الذي ينقطع عنك فيه التكبير فهو قبلتك ومحرابك، وقد رضي الله لك أمر هذا العسكر وهذا المسجد وهذه المدينة، وسوف يعز الله بها دينه، ويذل بها من كفر به، فاستيقظ من منامه وهو جزع، فتوضأ للصلاة، وأخذ يصلي وهو في المسجد ومعه أشراف الناس، فلما انفجر الصبح وصلى ركعتي الصبح بالمسلمين إذا بالتكبير بين يديه، فقال لمن حوله: أتسمعون ما أسمع؟ فقالوا: لا، فعلم أنَّ الأمر من عند الله، فأخذ اللواء فوضعه على عُنُقه، وأقبل يتبع التكبير حتى وصل إلى موضع المحراب، فانقطع التكبير فركز لواءه، وقال: هذا محرابكم، فاقتدى به سائر مساجد المدينة، ثم أخذ الناس إليها المطايا من كل أُفق وعظم قدرها... وكان عقبة خير والٍ وخير أمير، مستجاب الدعوة.
وفي هذه القصة عبرة بليغة فيما حدث من عقبة حينما نادى تلك الوحوش والدواب، فاستجابت له وغادرت ذلك المكان، وهذه كرامة من الله تعالى يكرم بها أولياءه لما يريد بهم نصر الإسلام ونشره في الأرض، حيث أسمع تلك الدواب كلام عقبة وأوقع في قلوبها الخوف منه، وقدَّر لها أن تسمع وتطيع كما لو كانت ذات عقل وإدراك، وقد رأى ذلك قبيل كبير من البربر فأسلموا، كما ذكر ابن الأثير في روايته.
هذا وقد حمل بعض الباحثين هذا الخبر على أنه من الأساطير التي نسجها الرواة حول عقبة، وعللوا هذا الخبر بأن تلك الدواب فزعت لما سمعت ضجيج الجيش الإسلامي فحملت أولادها وولَّت هاربة، وهذا التأويل من عجائب بعض الباحثين؛ حيث يُغفلون تفكيرهم الصحيح من أجل ردِّ ما لا يؤمن به العقل المجرد، كما أنهم يستغفلون المؤرخين الذين رووا هذه الحادثة وأمثالها على أنها من الأمور الخارقة للعادة، ويتهمونهم بالسذاجة لتحويلهم الوقائع المعتادة في حياة الناس إلى ما يشبه الأساطير، فإن التفكير الصحيح يرى أن التأويل الذي اعتمدوه لا ينسجم مع العقل السليم، لأن الوحوش والدواب البرية إذا تعرضت للفزع تأوي إلى جحورها الامنة لتستخفي بها، ولا تلجأ إلى الهرب حتى لا تتعرض للأذى مما فزعت منه، ثم إنه لو حصل خلاف الغالب من المعتاد فهربت تلك الدواب من أمر عادي وهو فزعها من الجيش؛ لم يكن هناك ما يدعو إلى عجب البربر وانبهارهم الذي حملهم على الدخول في الإسلام من أجل ذلك، ولم يكن في ذلك ما يحمل طائفة من المؤرخين على رواية هذه الحادثة الغريبة، وقد جاء في إحدى روايات ابن عبد الحكم، عن الليث بن سعد قال: فحدثني زياد بن العجلان: أن أهل إفريقية أقاموا بعد ذلك أربعين سنة، ولو التُمست حية أو عقرب بألف دينار ما وجدت.
وعبرة أخرى في تلك الرؤيا التي راها عقبـة بن نافع في أمر تحديد القبلـة، وما تلا ذلك من سماعه التكبير الذي لم يسمعه من حوله، وهذه كرامة أخرى لهذا الولي الصالح فرج الله تعالى بها عن المسلمين كربة كانوا يعانون منها من عدم مقدرتهم على تحديد القبلة بدقة، وهذا هو أحد المقاصد التي تظهر فيها الكرامات على أيدي أولياء الله الصالحين، وقد كان عقبة مستجاب الدعوة، فاستجاب الله تعالى دعاءه في تفريج همه وهموم المسلمين في هذا الأمر.
وأهل السنة والجماعة يثبتون الكرامات للصالحين: فأولياء الله المتقون هم المقتدون بمحمد ﷺ، فيفعلون ما أمر الله به وينتهون عما عنه زجر، ويقتدون به فيما بين لهم أن يتبعوه فيه، فيؤيدهم بملائكته وروح منه، ويقذف الله في قلوبهم من أنواره، ويجعل لهم الكرامات التي يكرم الله بها أولياءه المتقين، وخيار أوليائه كراماتهم لحاجة في الدين أو لحاجة بالمسلمين، كما كانت معجزات نبيهم ﷺ كذلك، وكرامات أولياء الله إنما حصلت ببركة اتباع رسول الله ﷺ. ومما ينبغي أن يعرف أن الكرامات قد تكون بسبب حاجة الرجل، فإذا احتاج إليها ضعيف الإيمان أو المحتاج، أتاه منها ما يقوِّي إيمانه أو يسد حاجته، ويكون من هو أكمل ولاية منه مستغنياً عن ذلك، فلا يأتيه مثل ذلك لعلو درجته وغناه عنها، لا لنقص ولايته، ولهذا كانت هذه الأمور في التابعين أكثر منها في الصحابة. ومن عقيدة أهل السُّنة والجماعة الإيمان بكرامات الأولياء.
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC9(1).pdf
الجزء الثاني:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC139.pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022