الجمعة

1447-01-16

|

2025-7-11

من كتاب الدولة الأموية: خلافة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه

ولاية العهد ومسألة انتقال السلطة من معاوية رضي الله عنه إلى ابنه يزيد

الحلقة: السادسة والستون

بقلم الدكتور: علي محمد الصلابي

ربيع الأول 1442 ه/ نوفمبر 2020

أولاً: بداية التفكير ببيعة يزيد:
يُحمِّل كثير من الباحثين المغيرة بن شعبة المسؤولية عن بيعة يزيد بن معاوية، وذلك باعتباره العقل المدبر، وصاحب الفكرة الأولى، حين عرض على معاوية بأن يتولى يزيد الخلافة من بعده، وتكفَّل بالدعوة ليزيد وتهيئة أهل الكوفة لتقبل خبر اختيار يزيد لولاية العهد، وكل من اتهم المغيرة بن شعبة كانت حجته في ذلك تلك الرواية التي أوردتها بعض المصادر القديمة؛ ومفادها: أن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه دخل على معاوية واستعفاه من ولاية الكوفة فأعفاه، وأراد معاوية أن يولي بدلاً منه سعيد بن العاص، فبلغ ذلك أحد الموالين للمغيرة، وتأثر المغيرة عند ذلك، وتمنى العودة للإمارة، فقام فدخل على يزيد وعرّض له بالبيعة، فأخبر يزيد والده بما قال له المغيرة، فاستدعى معاوية المغيرة بن شعبة وأمره بالرجوع والياً مرة أخرى على الكوفة، وأن يعمل في بيعة يزيد.
وأسانيد هذه الرواية ضعيفة، فسند هذه الرواية لا يشجع على قبولها أو الاستئناس بها بأي حال من الأحوال، كما أن المغيرة رضي الله عنه صحابي جليل تمّ التعريف به في موضعه من هذا الكتاب، وقد توفي عام 50 هقبل ظهور فكرة ولاية العهد عند معاوية، حيث بدأت هذه الفكرة في الظهور في عهد زياد بن أبيه على العراق، وقد صرّح
الطبري بأن معاوية إنما دعا إلى بيعة يزيد سنة 56 هـ، فلماذا تأخر كل هذه السنين إذا كان المغيرة قد شرع في التمهيد لهذه الفكرة قبل موته؟!.
ثانياً: الخطوات التي اتبعها معاوية لبيعة يزيد:
1 ـ المشاورات:
لم نعثر في المصادر التاريخية على تحديد دقيق لتلك الفترة التي بدأ فيها معاوية رضي الله عنه يفكر تفكيراً جدياً في تولية ولده يزيد من بعده خليفة المسلمين. ولكنه بالتأكيد لم يفكر إلا بعد سنة خمسين من الهجرة، وذلك بعد أن خلت الساحة من وجود الصحابة الكبار المبشرين بالجنة؛ من أمثال: سعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد بن عمرو، وبعد وفاة الحسن بن علي رضي الله عنهم جميعاً، وبعد أن عرف يزيد عند قيادته لجيش المسلمين الذي حاصر القسطنطينية، وبعدها أصبح معاوية يهيِّأى الأمور لترشيح يزيد للخلافة.
وكان من الطبيعي يستشير زياد بن أبيه بعدما أصبح أخاً له، وصار يقال له: زياد بن أبي سفيان، وولاه العراق، ولنسمع إلى رواية الطبري لهذه الاستشارة، وماذا صنع زياد، قال الطبري: لما أراد معاوية أن يبايع ليزيد، كتب إلى زياد يستشيره، فبعث زياد إلى عبيد بن كعب النميري، فقال: إن لكل مستشير ثقة، ولكل سر مستودع، وإن الناس قد أبدعت بهم خصلتان: إذاعة السر، وإخراج النصيحة إلى غير أهلها، وليس موضع السر إلا أحد رجلين: رجل اخرة يرجو ثواباً، ورجل دنيا له شرف في نفسه، وعقل يصون حسبه، وقد عجمتهم منك، فأحمدت الذي قبلك. وقد دعوتك لأمر اتهمت عليه بطون الكتب: إن أمير المؤمنين كتب إليّ يزعم أنه قد عزم على بيعة يزيد، وهو يتخوّف نفرة الناس، ويرجو مطابقتهم، ويستشيرني. وعلاقة أمر الإسلام، وضمانه عظيم، ويزيد صاحب رَسْلة، وتهاون، مع ما قد أولع به من الصيد، فالق أمير المؤمنين مؤدياً عني، فأخبره عن فعلات يزيد، فقال له: رويدك بالأمر، فأقمن أن يتم لك ما تريد، ولا تعجل فإن دركاً في تأخير، خير من تعجيل عاقبته الفَوْت. فقال عبيد له: أفلا غير هذا ؟ قال: ما هو؟ قال: لا تفسد على معاوية رأيه، ولا تمقِّت إليه ابنه، وألقى أنا يزيد سراً من معاوية، فأخبره عنك أن أمير المؤمنين كتب إليك يستشيرك في بيعته، وأنك تخوَّفُ خلاف الناس لهنات ينقمونها عليه، وأنك ترى له ترك ما يُنقَمُ عليه، فيستحكم لأمير المؤمنين الحجة على الناس ويسهل لك ما تريد، فتكون قد نصحت يزيد وأرضيت أمير المؤمنين، فسلمت مما تخاف من علاقة أمر الأمة. فقال زياد: لقد رميت الأمر بحجره، اشخص على بركة الله، فإن أصبت فما لا ينكر، وإن يكن خطأ فغير مستغَشّ، وأبعد بك إن شاء الله من الخطأ، قال: أتقول بما ترى، ويقضي الله بغيب ما يعلم. فقدم على يزيد فذاكره ذلك. وكاتب زياد إلى معاوية يأمره بالتؤدة، وألا يعجل، فقبل ذلك معاوية وكفّ يزيد عن كثير مما كان يصنع.
إن تحليل هذا النص يكشف لنا عن الحقائق التالية:
أ ـ إن بداية الفكرة كانت من معاوية، وأنه كان يدرك أنه كان يقدم على أمر خطير، لا بل على حدث لم يسبق إليه، ولهذا اصطفى زياداً للاستشارة، وزياد هو الذي قال عنه الأصمعي: الدهاة أربعة: معاوية للروية، وعمرو بن العاص للبديهة، والمغيرة بن شعبة للمعضلة، وزياد لكل صغيرة وكبيرة. وقد أشار عليه زياد بالتؤدة فقبل. ولهذا لم يُقدم معاوية على الأمر الخطير إلا بعد وفاة زياد. قال الطبري: لما مات زياد، دعا معاوية بكتاب فقرأه على الناس باستخلاف يزيد، إن حدث به حدث الموت، فيزيد ولي عهد، فاستوثق له الناس على البيعة ليزيد غير خمسة.
ب ـ إن معاوية لم يكن يريد حين الاستشارة الاكتفاء بالعهد، وإنما أراد الناس على مبايعة يزيد وهو حي، وهو حدث جديد أيضاً لم يعهد من قبل، لأن الناس لم يبايعوا عمر إلا بعد وفاة أبي بكر رضي الله عنه.
جـ. إن زياداً قد أحسَّ خطورة الأمر، فلم يشأ بادأى الأمر أن يكتب لمعاوية بنصيحته، بل أراد أن يحمّلها لرسول خاص، وهو (عبيد الله بن كعب النميري) ليؤديها عنه إلى معاوية شفهياً، وفي ذلك من الحيطة الشيء الكثير، لئلا يشيع خبر الكتاب، فيحدث ما لا يحمد. ولهذا قال لعبيد: ولهذا دعوتك لأمر اتهمت عليه بطون الصحف.
د ـ إن معاوية كان يتخوف نفرة الناس، فليس العهد لولد الخليفة والخليفة حي بالأمر اليسير.
هـ. إن زياداً كان يخشى على الأمة من يزيد، ولذلك يقول: وعلاقة أمر الإسلام وضمانه عظيم، ويزيد صاحب رسلة وتهاون مع ما قد أولع به من الصيد. ولهذا أيضا نرى في جواب عبيد له أن سيلقى يزيد وينقل إليه: أن زياداً يرى ترك ما ينقم عليه، وبذلك يسلم ما تخاف من علاقة.
و ـ إن زياداً كتب أخيراً إلى معاوية، ولكن لينصحه بالتؤدة وألا يعجل، فقبل ذلك معاوية.
ـ وممن شاورهم معاوية رضي الله عنه: الأحنف بن قيس، فقد روي: أن معاوية لما نصّب ولده يزيد لولاية العهد، أقعده في قبة حمراء، فجعل الناس يسلمون على معاوية ثم يميلون إلى يزيد، حتى جاء رجل ففعل ذلك، ثم رجع إلى معاوية، فقال: يا أمير المؤمنين ! اعلم أنك لو لم تولِّ هذا أمور المسلمين لأضعتها، والأحنف بن قيس جالس. فقال له معاوية: ما بالك لا تقول يا أبا بحر؟ قال: أخاف الله إن كذبت، وأخافكم إن صدقت، فقال له معاوية: جزاك الله عن الطاعة خيراً، وأمر له بألوف، فلما خرج لقيه ذلك الرجل بالباب، فقال: يا أبا بحر ! إني لأعلم أن شر من خلق الله سبحانه وتعالى هذا وابنه، ولكنهم قد استوثقوا من هذه الأموال بالأبواب والأقفال، فليس نطمع في استخراجها إلا بما سمعت، فقال له الأحنف: أمسك عليك، فإن ذا الوجهين خليق أن لا يكون عند الله وجيهاً.
2 ـ الحملات الإعلامية:
ومن التمهيدات الإعلامية الناجحة التي قدمها معاوية رضي الله عنه لابنه توليته أميراً على الجيش الذي وجهه إلى غزو القسطنطينية، وبعد أن رجع من الغزو ولاه إمارة الحج، ولكنه كان يتخوَّف نفرة الناس، ويتهيَّب من بعض المعارضين، ولذلك كان يواصل إعداد العدة للأمر، ويستشير ولاته ورجال دولته ويستعين بهم في تذليل العقبات وتهيئة الأجواء لأخذ البيعة ليزيد، ومما يذكر في هذا الجانب: أن الشاعر ربيعة بن عامر الدارمي المعروف بـ (مسكين الدارمي)، وكان ممن يؤثره يزيد ويصله، أنشد في مجلس معاوية، وكان المجلس حافلاً ويحضره وجوه بني أمية؛ فقال:
ألا ليتَ شِعري ما يقولُ ابنُ عامرٍ
ومروانُ أمْ ماذا يقولُ سعيدُ

بني خلفاء الله مهلاً فإنَّما
يُبَوِّئُها الرحمن حيثُ يريدُ

إذا المنبرُ الغربيُّ خلاّه ربُّه
فإن أميرَ المؤمنين يزيدُ

فقال معاوية: ننظر فيما قلت يا مسكين، ونستخير الله. ولم يتكلم أحد من بني أمية إلا بالإقرار والموافقة.
3 ـ قبول أهل الشام لبيعة يزيد:
أدرك معاوية رضي الله عنه حرص أهل الشام على بقاء الخلافة فيهم، فقد حسم أهل الشام أمرهم وأصبح خيارهم في ولاية العهد ليزيد، ووجدوا فيه ضالتهم لاستمرار صدارتهم في الدولة الإسلامية، ولم يكن أهل الشام يستغربون فكرة توريث الخلافة كما كان يستغربها أهل الحجاز، فقد عهدوها من قبل إبان حكم البيزنطيين لهم، بل إن بعض أهل العراق أيضاً كانوا فيما يبدو مهيئين لتقبل فكرة توريث الخلافة، ولكن من منظور خاص، حيث يرون أحقية أهل البيت بها واستمرارها فيهم، وقد تأثروا في ذلك بنظام الحكم الساساني للفرس قبل الفتح الإسلامي لهذه البلاد.
إن أهل الشام استجابوا لرغبة معاوية في تولية يزيد ولياً لعهده من بعده، وكان ذلك بعد رجوع يزيد من غزوة القسطنطينية، وقد أدى طرح هذه الفكرة إلى قبول وإجماع من أهل الشام بالموافقة على بيعة يزيد، ولم يكن هناك أي معارض، وقد أسهم أهل الشام فيما بعد في أخذ البيعة ليزيد من الأمصار الأخرى مثل الحجاز.
4 ـ بيعة الوفود:
عقد معاوية رضي الله عنه اجتماعاً موسعاً في دمشق بعد ما جاءت الوفود من الأقاليم، وكانت هذه الوفود تضم مختلف رجالات القبائل العربية، فمثلاً من بلاد الشام: الضحاك بن قيس الفهري، ثور بن معن السلمي، عبد الله بن عضاة الأشعري، عبد الله بن مسعدة الفزاري، عبد الرحمن بن عثمان الثقفي، حسان بن مالك بن بحدل الكلبي وغيرهم، كما حضر عن أهل المدينة: عمرو بن حزم الأنصاري ـ وذلك في وقت متأخر ـ، وحضر عن أهل البصرة: الأحنف بن قيس التميمي، ثم تكلم كل زعيم من هؤلاء الزعماء ورحبوا بالفكرة وأثنوا عليها، وأكدوا أن هذه هي الطريقة الأصوب لحقن الدماء وحفظ الألفة والجماعة، فحصلت المبايعة ليزيد بولاية العهد، على أن الشيء المؤكد أن عمرو بن حزم الأنصاري لم يحضر هذا الاجتماع وذلك لأحد أمرين:
الأمر الأول: هو أن أهل المدينة لم يوافقوا في الأصل على البيعة، وعارضوها بشدة، فلم يرسلوا في موعد الوفود أحداً.
الأمر الثاني: هو أن معاوية قد رفض الالتقاء بعمرو بن حزم، وما ذلك إلا لأنه بلغه معارضة أهل المدينة، وعرف أن عمرو بن حزم مندوب عن أولئك المعارضين، فخشي إن حضر الاجتماع سوف يشتت الاراء، ويحدث بلبلة من خلال معارضته، ولهذا استجاب له أخيراً فالتقى به على انفراد، وحصل بالفعل ما كان يظن معاوية، ولكن معاوية تقبَّل الانتقاد وأجزل له العطاء، وكان ذلك بعدما عزل رأي ابن حزم عن الوفود.
5 ـ طلب البيعة من أهل المدينة:
مثلما أرسل معاوية رضي الله عنه إلى الأقاليم يطلب منهم البيعة ليزيد، أرسل إلى المدينة يطلب من أميرها أخذ البيعة ليزيد، فقام مروان بن الحكم أمير المدينة خطيباً، فحض الناس على الطاعة وحذَّرهم الفتنة، ودعاهم إلى بيعة يزيد، وقال مروان: سنة أبي بكر الراشدة المهدية، واستدل على ذلك بولاية العهد من أبي بكر لعمر، فرد عليه عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهم، ونفى أن تكون هناك مشابهة بين هذه البيعة وبيعة أبي بكر، وقال: فقد ترك أبو بكر الأهل والعشيرة وعمد إلى رجل من بني عدي بن كعب؛ إذ رأى أنه لذلك أهل فبايعه. ثم قال: هذه البيعة شبيهة ببيعة هرقل وكسرى، ثم حدث بينه وبين مروان نزاع.
وجاء في رواية: قال عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما: يا معشر بني أمية اختاروا منها بين ثلاثة: بين سنة رسول الله، أو سنة أبي بكر، أو سنة عمر.. ألا وإنما أردتم أن تجعلوها قيصرية؛ كلما مات قيصر كان قيصر، فقال مروان: خذوه، فدخل بيت عائشة، فلم يقدروا عليه، فقال: إن هذا الذي أنزل الله فيه {وَٱلَّذِي قَالَ لِوَٰلِدَيۡهِ أُفّٖ لَّكُمَآ أَتَعِدَانِنِي}[سورة الأحقاف:17] فقالت عائشة من وراء الحجاب: أنزل الله فينا من القرآن إلا أن الله أنزل عذري.
وقد سبق طلب مروان بن الحكم من أهل المدينة البيعة ليزيد تمهيدٌ من معاوية رضي الله عنه؛ حيث أرسل رسالة لم يذكر فيها يزيد، وإنما جاء فيها: إني قد كبرت سني وخشيت الاختلاف على الأمة بعدي، وقد رأيت أن أتخير لهم من يقوم بالأمر بعدي، وكرهت أن أقطع أمراً دون مشورة من عندك، فاعرض عليهم ذلك، وأعلمني بالذي يردون عليك، فقام مروان في الناس فأخبرهم بما أراد معاوية، فقال الناس: أصاب معاوية، ووفق، وقد أحببنا أن يتخير لنا فلا يألو، ولكن عندما ذكر في المرة التالية اسم يزيد امتنع أهل المدينة في بداية الأمر، وعبَّر عبد الرحمن بن أبي بكر عمّا في نفوسهم.
ومما سبق نلاحظ أن مروان بن الحكم لم يوفَّقْ في المهمة التي كلفه بها معاوية رضي الله عنه، وعند ذلك قرر معاوية المجيء بنفسه إلى الحجاز ومعرفة موقف الصحابة من هذه القضية المهمة، فجاء رضي الله عنه معتمراً في شهر رجب من سنة 56 هـ، فلما علم عبد الرحمن بن أبي بكر وابن عمر وابن الزبير بقدوم معاوية خرجوا من المدينة، واتجهوا من المدينة إلى مكة، فلما قدم معاوية المدينة خطب الناس وحثهم على البيعة وبيّن أن يزيد هو أحق الناس بالخلافة، ثم قال: قد بايعنا يزيد فبايعوه.
ويبدو أن معاوية قد ذكر أنه يخشى على ابن عمر وغيره من القتل إن مانعوا، ويقصد بخوفه عليهم من أهل الشام، الذين لا يمكن أن يتصوروا أن أحداً يخالف أمير المؤمنين في أمر اتفق عليه كثير من الناس، فقد ذكر أن معاوية قال: والله ليبايعنَّ ابن عمر أو لأقتلنّه، فلما بلغ الخبر عبد الله بن صفوان، غضب وعزم على مقاتلة معاوية إن ثبت هذا. فلما سأل معاوية أنكر ذلك وقال: أنا اقتل ابن عمر ؟! إني والله لا أقتله.
أ ـ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في مجلس معاوية رضي الله عنه:
فلما قدم معاوية مكة وقضى نسكه، بعث إلى ابن عمر، فقدم عليه، فتشهد معاوية وقال: أما بعد يا بن عمر فإنك قد كنت تحدثني أنك لا تحب أن تبيت ليلة سوداء وليس عليك أمير، وإني أحذرك أن تشق عصا المسلمين، وأن تسعى على فساد ذات بينهم، فرد ابن عمر على معاوية، وبين له كيف كانت طريقة بيعة الخلفاء الراشدين، وذكر له كيف أن لهم أبناء خيراً من يزيد، فلم يروا في أبنائهم ما يرى معاوية في يزيد، ثم بين له أيضاً أنه لا يريد أن يشق عصا المسلمين، وأنه موافق على ما تجتمع عليه أمة محمد ﷺ، فأثلج هذا القول صدر معاوية رضي الله عنه، وقال: يرحمك الله.
قد اشترط ابن عمر حدوث الإجماع على بيعة يزيد حتى يعطيه البيعة، وكان معاوية رضي الله عنه قد أرسل بمئة ألف درهم لابن عمر، فلما دعا معاوية لبيعة يزيد، قال: أترون هذا أراد ؟! إن ديني إذاً عندي لرخيص، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يرى أنه لا يجوز أن يؤخذ على البيعة الدراهم، لأنها من باب الرشوة؛ فإن كانت البيعة حقاً فلا يجوز له أن يأخذ على الحق أجراً، وإن كانت باطلاً، فلا يجوز له أن يبذل البيعة لمن لا يستحقها من أجل المال. موقف ابن عمر رضي الله عنهما هو عدم الرضا بالأسلوب الوراثي للحكم، أو أخذ البيعة عن طريق المال.
ب ـ عبد الرحمن بن أبي بكر في مجلس معاوية رضي الله عنهم:
وخرج ابن عمر ـ من مجلس معاوية ـ واستدعى عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهم، فأخذ معاوية في الكلام، فقاطعه عبد الرحمن، وردَّ عليه بلهجة شديدة، وذكر أنه يمانع بيعة يزيد، وطلب أن يكون الأمر شورى، وتوعد معاوية بالحرب. ثم قام فقال معاوية: اللهم اكفنيه بما شئت، وطلب منه أن يتمهل وأن لا يعلن رفضه أمام أهل الشام فيقتلوه، فإذا جاء العشي وبايع الناس، ثم يكون بعد ذلك على ما عنده من رأي. وكان الأولى بمعاوية رضي الله عنه أن يطلب من أهل الشام ألا يتعرضوا لمن خالفه.
جـ. عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما:
ثم استدعى ابن الزبير، واتهمه معاوية بأنه السبب في منع البيعة، وأنه وراء ما حدث من ابن عمر وابن أبي بكر، فردّ عليه ابن الزبير وطلب منه أن يتنحى عن الإمارة إن كان ملّها، ثم طلب من معاوية أن يضع يزيد خليفة بدلاً منه فيبايعه. ثم استدل على عدم موافقته على المبايعة بما استنبطه من حديث الرسول ﷺ بأنه لا يجوز مبايعة اثنين في ان واحد، ثم قال: وأنت يا معاوية أخبرتني أن رسول الله ﷺ قال: إذا كان في الأرض خليفتان فاقتلوا أحدهما.
د ـ الحسين بن علي رضي الله عنهما:
ومن الملاحظ أن الرواية السابقة لم تذكر الحسين بن علي ضمن من استشارهم معاوية في بيعة يزيد، ولعل السبب يعود إلى أن معاوية أدرك العلاقة بين أهل العراق وبين الحسين، وأنهم كانوا يكتبون له ويمنونه بالخلافة من بعد معاوية، ثم إن الحسين قد قابل معاوية بمكة فكلمه طويلاً ـ كما يبدو ـ في أمر الخلافة، الأمر الذي أغضب يزيد فقال لأبيه: لا يزال رجل قد عرض لك، فأناخ بك، قال: دعه، لعله يطلبها من غيري فلا يسوغه، فيقتله.
ويتبين لنا من خلال الحوار الذي دار بين معاوية وعبد الله بن عمر، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم أنهم يمانعون البيعة لسببين:
أ ـ اعتراضهم على تولية يزيد؛ للعلاقة بين الأب والابن، وأن هذه لم تكن طريقة الخلفاء الراشدين.
ب ـ الاستدلال على بطلان هذه البيعة ورفضها لمخالفتها النص الصريح الذي ورد في الحديث النبوي، والذي لا يجيز البيعة لشخصين في ان واحد.
والملاحظ هنا هو أن المعارضين لم يذكروا قدحاً في يزيد، وإلا كيف يمكن أن يتجاهلوا صفات يزيد التي اتهم بها فيما بعد ؟! وخاصة في ذلك الموقف الذي يتطلب حشد أي دليل في مقابل الخصم.
والحقيقة أنه كان هناك شعور قوي بين بعض الناس؛ خاصة بين أبناء المهاجرين؛ هو كيف أن معاوية الذي أسلم في فتح مكة يتولى خلافة المسلمين، وهناك من هو أقدم إسلاماً وأحق منه، وكان البعض معترضاً على تقديم يزيد خوفاً من القيصرية والهرقلية على حد تعبير عبد الرحمن بن أبي بكر.
ولما رأى معاوية أوجه الانتقادات التي انتقد فيها أبناء الصحابة بيعة يزيد، ورأى أنها لا تمس يزيد شخصياً، بل إنها وجهات نظر ارتأوها ورأى معاوية خلافها، فهؤلاء مدفوعون بحرصهم على جعل منصب الخلافة لا تتطرق إليه العلاقات الأسرية والرغبات الشخصية، ومن ثم تكون قيمة الخليفة واختياره مبنية على علاقته بالخليفة الذي قبله. قام معاوية بعد اجتماعه مع ابن عمر وابن الزبير وابن أبي بكر، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن وجدنا أحاديث الناس ذات عوار؛ زعموا أن ابن عمر، وابن الزبير، وابن أبي بكر الصديق لم يبايعوا يزيد، قد سمعوا وأطاعوا وبايعوا له. فقال أهل الشام: لا والله لا نرضى حتى يبايعوا على رؤوس الناس، وإلا ضربنا أعناقهم، فانتهرهم معاوية وقال: مه سبحان الله ما أسرع الناس إلى قريش بالسوء، لا أسمع هذه المقالة من أحد بعد اليوم، ثم نزل. فقال الناس بايع ابن عمر وابن الزبير وابن أبي بكر، ويقولون: لا والله ما بايعنا، ويقول الناس: بلى لقد بايعتم، وارتحل معاوية ولحق بالشام.
وبهذه الرواية الصحيحة يتبين لنا كذب تلك الرواية التي تتهم معاوية رضي الله عنه بأنه أقام على رأس كل رجل من الصحابة الأربعة؛ وهم: عبد الله بن عمر، عبد الله بن الزبير، عبد الرحمن بن أبي بكر، والحسين بن علي رضوان الله عليهم؛ أقام على رأس كل واحد منهم رجلين، وأعطى الإشارة لكل حارس بقتل من يمانع البيعة، فبايع الناس وبايع ابن عمر، وابن الزبير، وابن أبي بكر تحت تهديد السلاح؛ فبالإضافة إلى ضعف الرواية سنداً، فإن متنها لا يقل عن سندها من حيث الضعف، ولا يقف أمام النقد الدقيق، فمثلاً في بداية الرواية: أن معاوية لما كان قريباً من مكة قال لمرقال صاحب حرسه: لا تدع أحداً يسير معي إلا من حملته أنا، فخرج يسير وحده، حتى إذا كان وسط الأراك لقيه الحسين بن علي، فوقف وقال: مرحباً وأهلاً بابن بنت رسول الله ﷺ، سيد شباب المسلمين، دابة لأبي عبد الله يركبها، ثم طلع عبد الرحمن بن أبي بكر فقال: مرحباً وأهلاً بصاحب رسول الله ﷺ وابن الصديق وسيد المسلمين، ودعا له بدابة فركبها، ثم طلع ابن الزبير، فقال: مرحباً وأهلاً بابن حواري رسول الله ﷺ وابن الصديق وابن عمة رسول الله ﷺ، ثم دعا له بدابة فركبها، ولم يعرض لهم شيء حتى قضى نسكه.
وأما ما يتعلق بباقي الرواية التي تذكر أن معاوية أوقف على رأس كل رجل حارسين وأمرهما بقتل من يحاول الاعتراض على البيعة إذا بويع يزيد؛ فهذا مستبعد لأمرين:
أحدهما: أليس من الغريب جداً على معاوية أن يستخدم العنف بهذه الصفة مع أبناء الصحابة والصحابة أنفسهم ومن ثم يتسبب في توسيع الخلاف ويباعد الشقة بينه وبين يزيد من جهة وبين الصحابة وأبنائهم من جهة أخرى؟!.
والأمر الاخر: عندما يقف الحراس على رؤوس الأربعة: ابن عمر، وابن الزبير، وابن أبي بكر، والحسين، أليس هذا المنظر أمام الناس يجعل الشك عند الناس يتضاعف حول مكانة يزيد، ويعرف الناس أن أولئك الحراس الذين يقفون على رأس كل شخص إنما يتربصون به ويبغونه شراً، ثم يصبح لدى الناس اقتناع كامل بأن هذه البيعة بيعة إكراه وخديعة، فيمانعوا ؟!.
ثالثاً: تاريخ ترشيح يزيد بن معاوية لولاية العهد:
اختلفت المصادر حول تاريخ ترشيح يزيد بن معاوية لولاية العهد على النحو التالي:
1 ـ ذكر خليفة بن خياط، والذهبي، أنه كان في سنة 51 هـ.
2 ـ ذكر ابن عبد ربه: أن ذلك كان في سنة 55 هـ.
3 ـ ذكر الطبري، وابن الجوزي، وابن الأثير، وابن كثير: أن ذلك كان في سنة 56 هـ .
هذا وبعد دراسة التواريخ السابقة اتضح عدم صحة ترشيح يزيد بن معاوية سنة 51 هـ؛ للأسباب التالية:
أ ـ أن وفاة الحسن بن علي رضي الله عنهما كانت في السنة نفسها؛ أي: في سنة 51 هـ، واتخاذ قرار ترشيح يحتاج لوقت من طرف معاوية لكي يدرسه ويستشير فيه، كما أنه ليس من الحكمة إعلان قرار الترشيح بعد وفاة الحسن رضي الله عنه مباشرة.
ب ـ قتل حجر بن عدي رضي الله عنه في السنة نفسها، أي: في سنة 51 هـ، لذا فإنه أيضاً ليس من الحكمة إعلان ترشيح يزيد بن معاوية في هذه السنة، لأن الأنفس لم تكن مهيأة لمثل هذه القرارات الجريئة، التي يعتبر توقيت إعلانها على الناس من أهم عوامل نجاحها.
جـ. أن ترشيح يزيد بن معاوية لولاية العهد كان أثناء ولاية مروان بن الحكم على الحجاز، وهي بلا شك الفترة الثانية من ولاية مروان بن الحكم، والتي امتدت من سنة (54 ـ 57 هـ)، وذلك أن الفترة الأولى من ولاية مروان بن الحكم كانت من سنة (42 ـ 49 هـ).
بعد ذلك يتبقى تاريخان لإعلان ترشيح يزيد بن معاوية لولاية العهد؛ وهما 55 هـ وسنة 56 هـ، وهذان التاريخان يكمل أحدهما الاخر ـ كما سيتضح لاحقاً ـ ولكن يرد في هذا المقام سؤال حول السبب الذي جعل معاوية رضي الله عنه يؤخر ترشيح ابنه يزيد ولياً للعهد إلى سنة 55 هـ أو سنة 56 هـ، مع أن الحسن بن علي رضي الله عنهما توفي سنة 51 هـ، وجواب هذا السؤال يكمن في معرفة أهم حدث وقع في سنة 55هـ؛ حيث توفي في هذه السنة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، اخر الستة الذين رضيهم ورشحهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه للخلافة من بعده.
رابعاً: وفاة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد:
حاول بعض الأخباريين أن يوجدوا علاقة بين وفاة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد وبين بيعة يزيد بن معاوية؛ فذكر البعض أن معاوية رضي الله عنه لما رأى مكانة
عبد الرحمن بن خالد بن الوليد عند أهل الشام ـ بسبب ماثر عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، ولغنائه عن المسلمين في أرض الروم وبأسه ـ خافه معاوية، فأمر ابن أثال الطبيب النصراني فدس إليه السم. في حين يرجح ابن الكلبي سبب القتل إلى أمر اخر؛ وهو: أن معاوية لما أراد أن يولي الأمور رجلاً من بعده خطب في أهل الشام. عن عزمه ذاك دون ذكر اسم أحد، وقال: فماذا ترون؟ فقالوا: عليك بعبد الرحمن بن خالد، وكان فاضلاً، فسكت معاوية وأضمرها في نفسه، ثم إن عبد الرحمن اشتكى، فدعا معاوية طبيبه بن أثال، وأمره بدس السم إلى عبد الرحمن.
فهذه الروايات بالإضافة إلى ضعف سندها يوجد اختلاف في متنها مع الواقع الملموس؛ فمعاوية رضي الله عنه بيده عزل الأمراء أو توليتهم كما هو معروف، وليس بالصعوبة على معاوية أن يطلب من عبد الرحمن بن خالد أن يتنحى عن قيادة الصوائف على الثغر الرومي، ويهمل عبد الرحمن بن خالد، ثم لا يكون له أية مكانة يُخشى منها، وقد ورد أن معاوية عزله وولى بدلاً منه سفيان بن عوف الغامدي على إحدى الصوائف، وليس هذا يشكل صعوبة على معاوية، بل إن معاوية كان يعزل عن الإمارة من هو أعظم وأقوى من عبد الرحمن بن خالد، ثم كيف يقوم معاوية بقتله وقد أورد الطبري ذكر غزوة البحر سنة 48 هـ، وكان قائد أهل مصر عقبة بن عامر الجهني، وعلى أهل المدينة المنذر بن زهير، وعلى جميعهم خالد بن عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ؟! فكيف يرضى معاوية أن يكون ولده قائداً كبيراً من بعد أبيه ؟! هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى: كيف يرضى أن يقوم ولده بقيادة الجيش لمعاوية إن كان معاوية قاتل أبيه ؟! وهل يمكن أن يخفى على ولده هذا الأمر وهو أقرب الناس إليه؟ فهذه أكاذيب واضحة حاولت أن توجد علاقة بين موت عبد الرحمن بن خالد بن الوليد والبيعة ليزيد، ومثلها مثل الأكاذيب التي حاولت أن تربط بين موت الحسن بن علي، والبيعة ليزيد ـ كما مرّ ذكره ـ.
إن خبر وفاة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد بالسم أورده القاسم بن سلام، وابن حبيب البغدادي، وذكر أن الدافع هو الخوف من منافسة عبد الرحمن ليزيد في ولاية العهد، كذلك أورد الخبر البلاذري، وأبو الفرج الأص فهان، وأبو هلال العسكري، وخبر اتهام معاوية رضي الله عنه بحادثة سم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد لم يرد بإسناد صحيح، بل هو من الأخبار المكذوبة على هذا الصحابي الكريم وفي ذلك يقول ابن كثير: وقد ذكر بن جرير وغيره: أن رجلاً يقال له: ابن أثال ـ وكان رئيس الذمة بأرض حمص ـ سقاه شربة فيها سم فمات، وزعم بعضهم أن ذلك عن أمر معاوية له في ذلك، ولا يصح.
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC9(1).pdf
الجزء الثاني:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC139.pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022