الأربعاء

1446-11-02

|

2025-4-30

من كتاب الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار (ج1)

الانتقادات التي وجهت لمعاوية بشأن البيعة ليزيد

الحلقة: الثامنة والستون

بقلم الدكتور: علي محمد الصلابي

ربيع الأول 1442 ه/ نوفمبر 2020


لقد حمل كثير من المؤرخين السابقين والمعاصرين معاوية رضي الله عنه مسؤولية البيعة الكاملة، وبالتالي حملوه جميع الأخطاء التي يقع فيها الحكام من زمان معاوية حتى عصرنا الحاضر، فمنهم من اتهمه بالخروج على نظام الشورى في الإسلام؛ فكان أول محطم لنظام الإسلام. ومنهم من اتهم معاوية بأنه أقر النظام الذي يعتمد على السياسة أولاً وعلى الدين ثانياً، والبعض شبه معاوية بالملوك الأقدمين من الفرس والروم، والبعض يجعل معاوية بهذه البيعة هو رائد المدرسة (المكيافيلية) في السياسة القائمة على تسويغ الوسيلـة من أجل الغايـة، والبعض حكم على معاويـة بارتكابـه كبيرة أضافها إلى كبائره السابقة، والبعض اعتبر معاويـة خارجـاً على إجماع المسلمين بهذه البيعة.
ولمعرفة صحة هذه الاتهامات من عدمها يجدر بنا أن نعرف ماهية الشورى وكيفية تطبيقها، فالشورى دعامة من دعائم الحكم في الإسلام، وقاعدة صلبة من قواعده، كما أن اختيار الحاكم في الإسلام وتولي أمر الأمة المسلمة لا تعطيه صفة مقدسة، أو سلطة مطلقة، بل إنه مسؤول عن كل عمل يقوم به وينفذ فيه ما ينفذ في شعبه، وأما طريقة الشورى فلم يحدد لها نظام خاصاً، فتطبيقها إذن متروك للظروف والمقتضيات الجارية، فقد كان رسول الله ﷺ يستشير المسلمين فيما لم ينزل فيه وحي، ويأخذ برأيهم فيما هم أعرف به من شؤون دنياهم، وكذلك سار الخلفاء الراشدون في استشارة المسلمين، وإليك استعراض موجز لكيفية انعقاد إمامة الخلفاء الراشدين:
1 ـ طريقة انعقاد بيعة أبي بكر رضي الله عنه:
قام أهل الحل والعقد في سقيفة بني ساعدة ببيعة الصديق بيعة خاصة، ثم رشحوه للناس في اليوم الثاني وبايعته الأمة في المسجد البيعة العامة، وقد أفرز ما دار في سقيفة بني ساعدة مجموعة من المبادأى؛ منها: أن قيادة الأمة لا يقام إلا بالاختيار، وأن البيعة هي أصل من أصول الاختيار وشرعية القيادة، وأن الخلافة لا يتولاها إلا الأصلب ديناً والأكفأ إدارة، فاختيار الخليفة يكون وفق مقومات إسلامية، وشخصية، وأخلاقية، وأن الخلافة لا تدخل ضمن مبدأ الوراثة النسبية أو القبلية، وإن إثارة (قريش) في سقيفة بني ساعدة باعتباره واقعاً يجب أخذه في الحسبان، ويجب اعتبار أي شيء مشابه ما لم يكن متعارضاً مع أصول الإسلام، وأن الحوار الذي دار في سقيفة بني ساعدة قام على قاعدة الأمن النفسي السائد بين المسلمين؛ حيث لا هرج ولا مرج، ولا تكذيب ولا مؤامرات، ولا نقض للاتفاق، ولكن تسليم للنصوص التي تحكمهم؛ حيث المرجعية في الحوار إلى النصوص الشرعي.
أ ـ وأوَّلُ ما قرره اجتماع يوم السقيفة هو أن (نظام الحكم ودستور الدولة) يقرر بالشورى الحرة، تطبيقـاً لمبدأ الشورى الذي نـص عليـه القران الكريـم، ولذلك كان هذا المبدأ محل إجماع، وسند هذا الإجمـاع هو النصوص القرانية التي فرضت الشورى، أي: أن هذا الإجماع كشف وأكـد أول أصل شرعي لنظام الحكم فـي الإسلام وهو الشورى الملزمـة، وهـذا أول مبـدأ دستوري تقرر بالإجمـاع بعـد وفـاة رسولنا ﷺ، ثم إن هذا الإجماع لم يكن إلا تأييداً وتطبيقاً لنصوص الكتاب والسنّة التي أوجبت الشورى.
ب ـ تقرر يوم السقيفة أيضاً أن اختيار رئيس الدولة أو الحكومة الإسلامية وتحديد سلطاته يجب أن يتم بالشورى، أي: البيعة الحرة التي تمنحه تفويضاً ليتولى الولاية بالشروط والقيود التي يتضمنها عقد البيعة الاختيارية الحرة ـ الدستور في النظم المعاصرة ـ، وكان هذا ثاني المبادأى الدستورية التي أقرها الإجماع، وكان قراراً إجماعياً كالقرار السابق.
جـ. تطبيقاً للمبدأين السابقين قرر اجتماع السقيفة اختيار أبي بكر ليكون الخليفة الأول للدولة الإسلامية، ثم إن الترشيح لم يصح نهائياً إلا بعد أن تمت له البيعة العامة، أي موافقة جمهور المسلمين في اليوم التالي بمسجد الرسول ﷺ، ثم قبوله لها بالشروط التي ذكرها في خطابهالمشهور الذي جاء فيه: أما بعد: أيها الناس ! فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أرجع عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى اخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمّهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.
وقال عمر لأبي بكر يومئذ: اصعد المنبر، فلم يزل به حتى صعد المنبر فبايعه الناس عامة.
وتعتبر هذه الخطبة الرائعة من عيون الخطب الإسلامية على إيجازها، وقد قرر الصديق فيها قواعد العدل والرحمة في التعامل بين الحاكم والمحكوم، وركز على أن طاعة ولي الأمر مترتبة على طاعة الله ورسوله، ونص على الجهاد في سبيل الله لأهميته في إعزاز الأمة، وعلى اجتناب الفاحشة لأهمية ذلك في حماية المجتمع من الانهيار والفساد.
2 ـ طريقة انعقاد بيعة عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
لما اشتد المرض بالصديق رضي الله عنه جمع الناس إليه فقال: إنه قد نزل بي ما قد ترون ولا أظنني إلا ميتاً لما بي، وقد أطلق الله إيمانكم من بيعتي، وحل عنكم عقدتي، ورد عليكم أمركم، فأمّروا عليكم من أحببتم؛ فإنكم إن أمّرتم في حياة مني كان أجدر أن لا تختلفوا بعدي، وقد قام أبو بكر رضي الله عنه بعدة إجراءات لتتم عملية اختيار الخليفة القادم.
أ ـ استشارة أبي بكر كبار الصحابة:
تشاور الصحابة رضي الله عنهم، وكلٌّ يحاول أن يدفع الأمر عن نفسه ويطلبه لأخيه، إذ يرى فيه الصلاح والأهلية، لذا رجعوا إليه، فقالوا: رأينا يا خليفة رسول الله رأيك، قال: فأمهلوني حتى أنظر لله ولدينه ولعباده، فدعا أبو بكر عبد الرحمن بن عوف فقال له: أخبرني عن عمر بن الخطاب، فقال له: ما تسألني عن أمر إلا وأنت أعلم به مني، فقال أبو بكر: وإن، فقال عبد الرحمن: هو والله أفضل من رأيك فيه، ثم دعا عثمان بن عفان فقال: أخبرني عن عمر بن الخطاب. فقال: أنت أخبرنا به. فقال: على ذلك يا أبا عبد الله، فقال عثمان: اللهم علمي به أن سريرته خير من علانيته، وأنه ليس فينا مثله. فقال أبو بكر: يرحمك الله، والله لو تركته ما عدتك. ثم دعا أسيد بن حضير فقال له مثل ذلك، فقال أسيد: اللهم أعلمه الخيرة بعدك، يرضى للرضا، ويسخط للسخط، والذي يسر خير من الذي يعلن، ولن يلي هذا الأمر أحد أقوى عليه منه، وكذلك استشار سعيد بن زيد وعدداً من الأنصار والمهاجرين، وكلهم تقريباً كانوا برأي واحد في عمر؛ إلا طلحة بن عبيد الله خاف من شدته، فقد قال لأبي بكر: ما أنت قائل لرَبِّك إذا سألك عن استخلافك عمر علينا وقد ترى غلظته؟ فقال أبو بكر: أجلسوني؛ أبالله تخوفوني؟ خاب من تزوَّد من أمركم بظلم، أقول: اللهم استخلفت عليهم خير أهلك. وبين لمن نبهه إلى غلظة عمر وشدته فقال: ذلك لأنه يراني رقيقاً، ولو أفضى الأمر إليه لترك كثيراً مما عليه.
ب ـ نص العهد الذي كتبه أبو بكر لكي يُقرأ على الناس:
بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة في اخر عهده بالدنيا خارجاً منها، وعند أول عهده بالاخرة داخلاً فيها، حيث يؤمن الكافر، ويوقن الفاجر، ويصدق الكاذب، إني أستخلف عليكم بعدي عمر بن الخطاب، فاستمعوا له وأطيعوا، وإني لم آلُ الله ورسوله ودينه ونفسي وإياكم خيراً، فإن عدل فذلك ظني به وعلمي به وعلمي فيه، وإن بدل فلكل امرأى ما اكتسب، الخير أردت، ولا أعلم الغيب:{وَسَيَعۡلَمُ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓاْ أَيَّ مُنقَلَبٖ يَنقَلِبُونَ} [سورة الشعراء:227]
جـ. إبلاغ الناس بنفسه:
إنه أراد إبلاغ الناس بلسانه واعياً مدركاً حتى لا يحصل أي لبس، فأشرف أبو بكر على الناس وقال لهم: أترضون بما أستخلف عليكم، فإني والله ما ألوت من جهد الرأي ولا وليت ذا قربة، وإني قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب فاسمعوا له وأطيعوا. فقالوا: سمعنا وأطعنا.
د ـ التوجه بالدعاء إلى الله:
أنه توجه بالدعاء إلى الله يناجيه ويبثه كوامن نفسه، وهو يقول: اللهم وليته بغير أمر نبيك، ولم أرد بذلك إلا إصلاحهم، وخفت عليهم الفتنة، واجتهدت لهم رأيي، فولَّيت عليهم خيرهم وأحرصهم على ما أرشدهم، وقد حضرني من أمرك ما حضر فاخلفني فيهم، فهم عبادك.
هـ. تكليف عثمان بقراءة العهد على الناس:
كلف أبو بكر رضي الله عنه عثمان بن عفان أن يتولى قراءة العهد على الناس، وأخذ البيعة لعمر قبل موت أبي بكر، بعد أن ختمه؛ لمزيد من التوثيق والحرص على إمضاء الأمر، دون أي اثار سلبية، وقال عثمان للناس: أتبايعون لمن في هذا الكتاب؟ فقالوا: نعم. فأقروا بذلك جميعاً ورضوا به.
و ـ وصية الصديق لعمر بن الخطاب رضي الله عنهما:
اختلى الصديق بالفاروق وأوصاه بمجموعة من التوصيات لإخلاء ذمته من أي شيء، حتى يمضي إلى ربه خالياً من أي تبعة بعد أن بذل قصارى جهده واجتهاده، وقد جاء في الوصية: اتق الله يا عمر، واعلم أن لله عملاً بالنهار لا يقبله بالليل، وعملاً بالليل لا يقبله بالنهار، وأنه لا يقبل نافلة حتى تؤدى فريضة، وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق في دار الدنيا وثقله عليهم، وحق لميزان يوضع فيه الحق غداً أن يكون ثقيلاً، وإنما خفَّت موازين من خفت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل غداً وحق لميزان يوضع فيه الباطل غداً أن يكون خفيفاً، وإن الله تعالى ذكر أهل الجنة فذكرهم بأحسن أعمالهم، وتجاوز عن سيئه، فإذا ذكرتهم قلت: إني أخاف أن لا ألحق بهم، وأن الله تعالى ذكر أهل النار، فذكرهم بأسوأ أعمالهم، ورد عليهم أحسنه، فإذا ذكرتهم، قلت: إني لأرجو أن لا أكون مع هؤلاء؛ ليكون العبد راغباً راهباً، لا يتمنى على الله، ولا يقنط من رحمة الله، فإن أنت حفظت وصيتي فلا يك غائب أبغض إليك من الموت، وليست تعجزه.
ونلاحظ أن عمر رضي الله عنه ولي الخلافة باتفاق أصحاب الحل والعقد وإرادتهم؛ فهم الذين فوضوا لأبي بكر انتخاب الخليفة، وجعلوه نائباً عنهم في ذلك، فشاور ثم عين الخليفة، ثم عرض هذا التعيين على الناس فأقروه وأمضوه، ووافقوا عليه، وأصحاب الحل والعقد في الأمة هم النواب «الطبيعيون» عن هذه الأمة، وإذن فلم يكن استخلاف عمر رضي الله عنه إلا على أصح الأساليب الشورية وأعدلها.
إن الخطوات التي سار عليها أبو بكر الصديق في اختيار خليفته من بعده لا تتجاوز الشورى بأي حال من الأحوال، وإن كانت الإجراءات المتبعة فيها غير الإجراءات المتبعة في تولية أبي بكر نفسه. وهكذا تم عقد الخلافة لعمر رضي الله عنه بالشورى والاتفاق، ولم يرد في التاريخ أي خلاف وقع حول خلافته بعد ذلك، ولا أن أحداً نهض طوال عهده لينازعه الأمر، بل كان هناك إجماع على خلافته وعلى طاعته في أثناء حكمه، فكان الجميع وحدة واحدة.
3 ـ طريقة انعقاد بيعة عثمان رضي الله عنه:
استطاع الفاروق رضي الله عنه في اللحظات الأخيرة وهو على فراش الموت، رغم ما يعانيه من الام جراحاته البالغة أن يبتكر طريقة جديدة لم يسبق إليها في اختيار الخليفة الجديد، وكانت دليلاً ملموساً، ومعلماً واضحاً على فقهه في سياسة الدولة الإسلامية، لقد مضى قبله الرسول ﷺ ولم يستخلف بعده أحداً بنص صريح، ولقد مضى أبو بكر الصديق واستخلف الفاروق بعد مشاورة كبار الصحابة، ولما طلب من الفاروق أن يستخلف وهـو على فراش الموت، فكر في الأمـر ملياً وقرر أن يسلك مسلكـاً اخر يتناسب مع المقام، فرسول الله ﷺ ترك الناس وكلهم مقر بأفضلية أبي بكر وأسبقيته عليهم، فاحتمـال الخلاف كـان نادراً، وخصوصاً أن النبي ﷺ وجـه الأمة قولاً وفعلاً إلى أن أبا بكر أولى بالأمر من بعـده، والصديق لمـا رشح عمر كـان يعلم أن عنـد الصحابة أجمعين قناعة بأن عمر أقوى وأقدر وأفضل من يحمل المسؤولية بعده، فاستخلفه بعد مشاورة كبار الصحابة، ولم يخالف رأيه أحد منهم، وحصل الإجماع على بيعة عمر.
وأما طريقة انتخاب الخليفة الجديد فتعتمد على جعل الشورى في عدد محصور، فقد حصر في ستة من صحابة رسول الله ﷺ كلهم بدريون، وكلهم توفي رسول الله ﷺ وهو عليهم راضٍ، وكلهم يصلحون لتولي الأمر، ولو أنهم يتفاوتون، وحدد لهم طريقة الانتخاب ومدته وعدد الأصوات، وأمر مجموعة من جنود الله لمراقبة سير الانتخابات في المجلس ومنع الفوضى؛ بحيث لا يسمحون لأحد يدخل أو يسمع ما يدور في مجلس أهل الحل والعقد.
وبهذا يكون أمير المؤمنون أرسى نظاماً صالحاً للشورى لم يسبقه إليه أحد، ولا يشك أن أصل الشورى مقرر في القرآن والسنة القولية والفعلية، وقد عمل بها رسول الله ﷺ وأبو بكر، ولم يكن عمر مبتدعاً بالنسبة للأصل، ولكن الذي عمله عمر هو تعيين الطريقة التي يختار بها الخليفة وحصر عدداً معيناً جعلها فيهم، وهذا لم يفعله الرسول ﷺ ولا الصديق ـ رضي الله عنهم ـ بل أول من فعل ذلك عمر ونعم ما فعل، فقد كانت أفضل الطرق المناسبة لحال الصحابة في ذلك الوقت.
وبهذا جعل أمير المؤمنين هيئة سياسية عليا وهم أهل الشورى، وأناط بهم وحدهم اختيار الخليفة من بينهم، ومن المهم أن نشير إلى أن أحداً من أهل الشورى لم يعارض هذا القرار الذي اتخذه عمر، كما أن أحداً من الصحابة الاخرين لم يثر أي اعتراض عليه، ذلك ما تدل عليه النصوص التي بين أيدينا، فنحن لا نعلم: أن اقتراحاً اخر صدر عن أحد من الناس في ذلك، أو أن معارضة ثارت حول أمر عمر خلال السَّاعات الأخيرة من حياته، أو بعد وفاته وإنما رضي الناس كافة هذا التدبير، ورأوا فيه مصلحة لجماعة المسلمين، وفي وسعنا أن نقول: إنَّ عمر قد أحدث هيئة سياسية عليا مهمَّتها انتخاب رئيس الدولة أو الخليفة، وهذا التنظيم الدستوري الجديد، الذي أبدعته عبقرية عمر لا يتعارض مع المبادأى الأساسية التي أقرها الإسلام، ولا سيما فيما يتعلق بالشورى، لأن العبرة من حيث النتيجة العامة التي تجري في المسجد الجامع.
وعلى هذا لا يتوجّه السؤال الذي قد يرد على بعض الأذهان، وهو: من أعطى عمر هذا الحق؟ ما هو مستند عمر في التدبير؟ ويكفي أن نعلم أن جماعة من المسلمين قد أقرت هذا التدبير، ورضيت به ولم يُسمع صوت اعتراض عليه حتى نتأكَّد: أنَّ الاجماع ـ وهو مصدر من مصادر التشريع ـ قد انعقد على صحته ونفاذه، ولا ننسى: أن عمر خليفة راشد، كما ينبغي أن نؤكِّد أن أهل الشورى أعلى هيئة سياسية قد أقرّها نظام الحكم في الإسلام في العهد الراشدي، كما: أنَّ الهيئة التي سمّاها عمر، تمتَّعت بمزايا لم يتمتع بها
غيرها من جماعة المسلمين، وهذه المزايا منحت لها من الله وبلغها الرسول، فلا يمكن عند المؤمنين أن يبلغ أحد من المسلمين مبلغ هؤلاء العشرة من التقوى، والأمانة.
ومن الأمور المهمة حرص الفاروق على إبعاد الإمارة عن أقاربه، مع أن فيهم من هو أهل لها، فهو يبعد قريبه سعيد بن زيد عن قائمة المرشحين للخلافة، وقد أوصى بأن يحضر عبد الله بن عمر مع أهل الشورى وأن ليس له من الأمر شيء، ولكن قال لهم: فإن رضي ثلاثة رجلاً منهم، وثلاثة رجلاً منهم، فحكِّموا عبد الله بن عمر، فأي الفريقين حكم له، فليختاروا رجلاً منهم، فإن لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر، فيكون مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، فوصف عبد الرحمن بن عوف بأنه مسدد رشيد، له من الله حافظ فاسمعوا له.
وقد أشرف على العملية الانتخابية عبد الرحمن بن عوف، وشاور الناس في أمر علي وعثمان رضي الله عنهما، وكان يشاور كل من يلقاه في المدينة من كبار الصحابة، وأشرافهم، ومن أمراء الأجناد ومن يأتي للمدينة، وشملت مشاوراته النساء في خدورهنَّ، وقد أبدين رأيهنّ، كما شملت الصِّبيان، والعبيد في المدينة، وكانت نتيجة مشاورات عبد الرحمن بن عوف: أن معظم المسلمين كانوا يشيرون بعثمان بن عفان رضي الله عنه، ومنهم من كان يشير بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ... ثم بعد ذلك أعلن عبد الرحمن بعد صلاة الصبح من اليوم الأخير من شهر ذي الحجة سنة 23 هـ النتيجة التي وصل إليها، فبعد أن تشهد عبد الرحمن، ثم قال: أما بعد: يا علي إني قد نظرت في أمر الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان، فلا تجعل على نفسك سبيلاً، ثم بايع عثمان على سنة الله ورسوله والخليفتين من بعده. فبايعه الناس: المهاجرون، والأنصار، وأمراء الأجناد والمسلمون.
وجاء في رواية صاحب التمهيد والبيان: أن علي بن أبي طالب أول من بايع عبد الرحمن بن عوف، وقد اعتبر الذهبي ما قام به عبد الرحمن بن عوف من أفضل أعماله حيث قال: ومن أفضل أعمال عبد الرحمن عزله نفسه من الأمر وقت الشورى، واختياره للأمة من أشار به أهل الحلِّ، والعقد، فنهض في ذلك أتمَّ نهوض على جمع الأمَّة على عثمان، ولو كان محابياً فيها، لأخذها لنفسه، أو لولاها ابن عمّه وأقرب الجماعة إليه سعد بن أبي وقاص، وبهذا تحققت صورة أخرى من صور الشورى في أحد الخلفاء الراشدين: وهي الاستخلاف عن طريق مجلس الشورى، ليعينوا أحدهم بعد أخذ المشورة العامّة، ثم البيعة العامّة.
4 ـ طريقة انعقاد بيعة علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
تمت بيعة علي رضي الله عنه بالخلافة بطريقة الاختيار، وذلك بعد أن استشهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه على أيدي الخارجين المارقين الشذاذ الذين جاؤوا من الافاق ومن أمصار مختلفة وقبائل متباينة لا سابقة لهم، ولا أثر خير في الدين، فبعد أن قتلوه رضي الله عنه ظلماً وزوراً وعدواناً، يوم الجمعة لثماني عشرة ليلة مضت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين، قام كل من بقي بالمدينة من أصحاب رسول الله ﷺ بمبايعة علي رضي الله عنه بالخلافة، وذلك لأنه لم يكن أحد أفضل منه على الإطلاق في ذلك الوقت، فلم يدَّع الإمامة لنفسه أحد بعد عثمان، ولم يكن أبو السبطين رضي الله عنه حريصاً عليها، وذلك أنه لم يقبلها، إلا بعد إلحاح شديد ممن بقي من الصحابة بالمدينة، وخوفاً من ازدياد الفتن وانتشارها، ومع ذلك لم يسلم من نقد بعض الجهال الذين أثاروا تلك الفتن كموقعة الجمل وصفين التي أوقد نارها وأنشبها الحاقدون على الإسلام؛ كابن سبأ وأتباعه الذين استخفهم فأطاعوه لفسقهم ولزيغ قلوبهم عن الحق والهدى.
وقد روى الكيفية التي تم بها اختيار علي رضي الله عنه للخلافة بعض أهل العلم، فقد روى أبو بكر الخلال بإسناده إلى محمد ابن الحنفية قال: كنت مع علي رحمه الله وعثمان محصر، قال: فأتاه رجل فقال: إن أمير المؤمنين مقتول الساعة، قال: فقال علي رحمه الله: قال محمد: فأخذت بوسطه تخوفاً عليه، فقال: خل لا أم لك، قال: فأتى علي الدار وقد قتل الرجل رحمه الله، فأتى داره فدخلها وأغلق بابه، فأتاه الناس فضربوا عليه الباب فدخلوا عليه فقالوا: إن هذا قد قتل، ولا بد للناس من خليفة، ولا نعلم أحداً أحق بها منك، فقال لهم علي: لا تريدوني؛ فإني لكم وزير خير مني لكم أمير، فقالوا: لا والله لا نعلم أحداً أحق بها منك، قال: فإن أبيتم علي فإن بيعتي لا تكون سراً، ولكن أخرج إلى المسجد، فبايعه الناس.
5 ـ طريقة انعقاد بيعة الحسن بن علي رضي الله عنهما:
كانت بيعة الحسن بن علي رضي الله عنهما في شهر رمضان من سنة 40 هـ، وذلك بعد استشهاد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقد اختار الناس الحسن بعد والده، ولم يعين أمير المؤمنين أحداً من بعده، فعن عبد الله بن سبع قال: سمعت علياً يقول: لتخضبن هذه من هذا، فما ينتظر بي الأشقى. قالوا: يا أمير المؤمنين، فأخبرنا به نبير عترته، قال: إذن تالله تقتلون بي غير قاتلي. قالوا: فاستخلف علينا قال: لا، ولكن أترككم إلى ما ترككم إليه رسول الله ﷺ، قالوا: فما تقول لربك إذا أتيته ؟ قال: أقول: اللهم تركتني فيهم ما بدا لك، ثم قبضتني إليك وأنت فيهم، فإن شئت أصلحتهم، وإن شئت أفسدتهم. وفي رواية: أقول: اللهمّ استخلفتني فيهم ما بدا لك، ثم قبضتني وتركتك فيهم.
وبعد مقتل علي صلى عليه الحسن بن علي، وكبر عليه أربع تكبيرات، ودفن بالكوفة، وكان أول من بايعه قيس بن سعد بن عبادة الخزرجي، قال له: ابسط يدك أبايعك على كتاب الله عز وجل وسنه نبيه، وقتال المُحلين، فقال له الحسن رضي الله عنه: على كتاب الله وسنة نبيه، فإن ذلك يأتي من وراء كل شرط: فبايعه وسكت، وبايعه الناس.
وقد اشترط الحسن بن علي على أهل العراق عندما أرادوا بيعته فقال لهم: إنكم سامعون مطيعون، تسالمون من سالمت، وتحاربون من حاربت، وفي رواية: قال لهم: والله لا أبايعكم إلا على ما أقول لكم، قالوا: ما هو؟ قال: تسالمون من سالمت، وتحاربون من حاربت، وفي رواية ابن سعد: إن الحسن بن علي بن أبي طالب بايع أهل العراق بعد علي على بيعتين، بايعهم على الإمرة، وبايعهم على أن يدخلوا فيما دخل فيه، ويرضوا بما رضي به.
6 ـ طريقـة انعقـاد بيعـة معاويـة رضي الله عنـه:
تمَّت بيعة معاوية بتنازل الحسن بن علي رضي الله عنهما عن الخلافة، وتهيأت له جميع أسبابها، فبويع أميراً للمؤمنين عام واحد وأربعين للهجرة، وسمي هذا العام بعام الجماعة، وقد بايع معاوية رضي الله عنه كل الصحابة الأحياء، وأجمعت الأمة عليه وعدُّوا خلافته شرعية ورضوا إمامته، ورأوا أنه خير من يلي أمر المسلمين ويقوم به خير قيام.
7 ـ الماخـذ على فكـرة ولايـة العهـد في عهـد معاويـة:
صحيح أن النظام الإسلامي للحكم لم ينصَّ على طريقة معينة لاختيار ولي الأمر، ولكنه وضع الأساس التي لا تجوز الحيدة عنه، إلا في حالات الضرورة والاضطرار، وهو الشورى، وليس للشورى أسلوب خاص، وطريقة واحدة، لا تتحقق إلا بها، ولكن تتحقق بأساليب شتى كما مرّ معنا في اختيار الأمة للخلفاء الراشدين، ولئن قصد معاوية رضي الله عنه بإحداث ولاية العهد في نظام الحكم الإسلامي جمع كلمة المسلمين، وحقن دمائهم، فهو إن شاء الله تعالى مأجور على أنه كان قادراً على أن يجعل العهد بعده لغير ولده من كبار الصحابة الموجودين في تلك الفترة، وكان فيهم كفاءات لو أسند إليهم الأمر، فقد كان الحسين بن علي، وعبد الله بن الزبير، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وعبد الله بن عمر وغيرهم موجودين في هذا الوقت، ولكن معاوية رضي الله عنه عدل عن هؤلاء وقصد لولده ليكون خليفة بعده، وبذلك حصل التغير الحقيقي في نظام الحكم الإسلامي، فليس التغيير في إيجاد نظام ولاية العهد... ولكن التغيير في أن يكون ولي العهد ولد الخليفة أو أحد أقاربه، حتى أصبحت الحكومة ملكية بعد أن كانت خلافة راشدة، وإذا كنا مأمورين باتباع سنة الرسول ﷺ وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده، فإن التزام نظام الوراثة ليس من سنة النبي ﷺ ولا من سنة خلفائه الراشدين.
كما أن ترشيح يزيد لم يكن موفَّقاً؛ لأسباب منها: أن المجتمع الإسلامي يومئذ كان فيه من أحق وأولى بالخلافة من يزيد في سابقته وعلمه وعمله ومكانه وصحبته؛ كعبد الله بن عمر، وابن عباس وغيرهم؛ فأين الثرى من الثريا؟ ومنها: مبدأ توريث الحكم من الأب لابنه.
وعلى كل تقدير فهذا لا يقدح فيما عليه أهل السنة، فإنهم لا ينزهون معاوية ولا من هو أفضل منه من الذنوب، فضلاً عن تنزيههم عن الخطأ في الاجتهاد، بل يقولون إن للذنوب أسباباً تدفع عقوبتها من التوبة والاستغفار والحسنات الماحية، والمصائب المكفرة، وغير ذلك، وهذا أمر يعم الصحابة وغيرهم، ومعاوية رضي الله عنه من خيار الملوك الذين غلب عدلهم على ظلمهم، وما هو ببريء من الهنات، والله يعفو عنه، والذي يجب أن نعتقده في معاوية أن قلوبنا لا تنضوي على غل لأحد من أصحاب محمد ﷺ، بل نقول: {وَٱلَّذِينَ جَآءُو مِنۢ بَعۡدِهِمۡ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱغۡفِرۡ لَنَا وَلِإِخۡوَٰنِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلۡإِيمَٰنِ وَلَا تَجۡعَلۡ فِي قُلُوبِنَا غِلّٗا لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٞ رَّحِيمٌ ١٠} [سورة الحشر:10] . ونقول بأن معاوية اجتهد للأمة خوفاً عليها من الانقسام و الفتن، ولا يمكن أن يحمل تبعات كل أخطاء الملوك والأمراء الذين جاؤوا من بعده، كما قرره عبد القادر عودة ـ رحمه الله ـ: حيث يقول: وأقام معاوية أمر الأمة الإسلامية على المحجات والظلم وإهدار الحقوق، وقضى على الشورى، وعطَّل قول الله تعالى: { وَأَمۡرُهُمۡ شُورَىٰ بَيۡنَهُمۡ} [سورة الشورى:38] وحول الحكم العادل النظيف إلى حكم قذر قائم على الأهواء و الشبهات، ووجه الناس إلى النفاق والذلة والصغار، ولا شك في أن كل من جاؤوا بعده إلى عصرنا هذا قد عمل بسنته وتشبَّثوا ببدعته؛ حاشا عمر بن عبد العزيز، فعلى معاوية وقد استنَّ هذه السنة السيئة إثمها وإثم من عمل بها إلى يوم القيامة، و إذا كان معاوية أو الخلفاء الأمويون قد حول الخلافة من الشورى إلى الملك، فإن حفيده معاوية بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، ثالث خلفاء الأمويين قد أعاد الخلافة من الملك العضوض إلى الشورى الكاملة.. وإنه لما يستوجبه الإنصاف أن تصاغ القضية على هذا النحو بدلاً من التركيز على الشق الأول الخاص بتوريث الخلافة فقط، ولم تستطع الأمة التي أعطيت حقها في اختيار خليفتها أن تعود إلى شكل من أشكال الاختيار السابق في عصر الراشدين، وبرز بوضوح دور العصبية الإقليمية والقبلية، وحسم في النهاية الصراع الدائر حول منصب الخلافة لمصلحة البيت الأموي، واستطاعت الشام أن تحقق الحسم التاريخي بعمق الالتحام بين بنائها القبلي والوجود الأموي بها، وسيأتي بإذن الله التفصيل عند حديثنا عن معاوية الثاني، والحقيقة أن بيعة يزيد قد قبلها الكثير من الصحابة رضوان الله عليهم؛ فقد بايعه ستون من أصحاب محمد ﷺ؛ فيهم: ابن عم؛ خوفاً من الفتنة، وحرصاً على وحدة الصف، فقد توفي عبد الرحمن بن أبي بكر بعيد خروج معاوية من المدينة، ولم يبق من المعارضين إلا ثلاثة؛ هم: ابن عمر، وابن الزبير، والحسين بن علي، أما ابن عمر فلما رأى الناس مجتمعة على يزيد بايعه وأرسل بيعته بعد وفاة معاوية رضي الله عنه، وقال: إن كان خيراً رضينا به، وإن كان بلاءً صبرنا، وانحصرت المعارضة في شخص ابن الزبير والحسين بن علي رضي الله عنهم.
وقد حاول بعض الناس أن يلفقوا على معاوية رضي الله عنه تحسره من بيعة يزيد، فنقلوا عنه أنه قال: لولا هواي في يزيد لأبصرت رشدي. والسند من طريق الواقدي وهو متروك، ونسبوا إليه أيضاً: أنه قال ليزيد: ما ألقى الله بشيء أعظم من نفسي من استخلافك. والسند من طريق الهيثم بن عدي؛ وهو كذاب، ولقد اعتمد محمد رشيد رضا رحمـه الله على هذه الرواية، وتحامل على معاوية تحاملاً قاسياً، ولقد تورط الكثير من الباحثين في الروايات الضعيفة والموضوعة فيما يتعلق بتاريخ صدر الإسلام، وبنوا عليها تصورات وأفكاراً وأحكاماً تحتاج إلى إعادة نظر من جديد.
ومع ما وقع من انحراف في تغيير النموذج الأعلى لنظام الحكم الإسلامي، الذي تتمثل فيه روح الإسلام كاملة وهو الخلافة، واستبدال الملك العضوض به، إلا أن الطابع الإسلامي هو الصفة الغالبة على مظهر الدولة، وتصرفات الحكام، فالصلاة تؤدى في أوقاتها، والزكاة تحصَّل من أربابها، والصوم فريضة لا يُعارض في أدائها، وإقامة الحدود دون هوادة لم يقف شيء دون تنفيذها، والجهاد في سبيل الله فريضة ماضية بين رجالها، وبالجملة كانت تعاليم الإسلام مطبقة بحذافيرها.


يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC9(1).pdf
الجزء الثاني:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC139.pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022