من كتاب الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار (ج1)
(عبيد الله بن زياد وخطواته للقضاء على مسلم بن عقيل وأنصاره)
الحلقة: السادسة والسبعون
بقلم: د. علي محمد الصلابي
ربيع الآخر 1442 ه/ نوفمبر 2020
1 ـ اختراق تنظيم مسلم بن عقيل:
حرص عبيد الله بن زياد على جمع المعلومات بواسطة جواسيسه على الفئات المعارضة، واستطاع أن يخترق أتباع مسلم بن عقيل، وقد كلّف أحد رجاله بهذه المهمة، فأعطاه مبلغاً من المال، وكان الرجل من أهل الشام يقال له: معقلاً، وكان مقدار المبلغ ثلاثة الاف درهم، وقال: خذ هذا المال، وانطلق فالتمس مسلم بن عقيل، وتأتّ له بغاية التأتي .
فانطلق الرجل حتى دخل المسجد الأعظم، ثم نظر إلى رجل يكثر الصلاة إلى سارية من سواري المسجد، فجلس الرجل، حتى إذا انفتل من صلاته، فدنا منه وجلس، فقال: جعلت فداك، إني رجل من أهل الشام مولى لذي الكلاع، وقد أنعم الله علي بحب أهل بيت رسول الله ﷺ وحب من أحبهم، ومعي هذه الثلاثة الالاف درهم، أحب إيصالها إلى رجل منهم، بلغني أنه قدم هذا المصر داعية للحسين بن علي، فهل تدلني عليه لأُوصل هذا المال إليه؟ ليستعين به على بعض أموره ويضعه حيث أحب من شيعته، قال له الرجل: وكيف قصدتني بالسؤال عن ذلك دون غيري ممن هو في المسجد ؟ قال: لأني رأيت عليك سيما الخير، فرجوت أن تكون ممن يتولى أهل بيت رسول الله ﷺ. قال له الرجل: ويحك قد وقعت عليّ بعينك، أنا رجل من إخوانك، واسمي مسلم بن عوسجة، وقد سُرِرت بك، وساءني ما كان من حسي قبلك، فإني رجل من شيعة أهل هذا البيت، خوفاً من هذا الطاغية ابن زياد، فأعطني ذمة الله وعهده أن تكتم هذا عن جميع الناس، فأعطاه من ذلك ما أراد، واستطاع الشامي في نهاية المطاف الوصول إلى مسلم بن عقيل، فكان يغدو إلى مسلم بن عقيل فلا يحجب عنه، فيكون نهاره كله عنده فيتعرّف جميع أخبارهم، فإذا أمسى وأظلم عليه الليل دخل على عبيد الله بن زياد، فأخبره بجميع قصصهم، وما قالوا وما فعلوا في ذلك، وأعلمه نزول مسلم بن عقيل في دار هانأى بن عروة . وهكذا استطاع ابن زياد أن يعرف أخبار مسلم بن عقيل وتحركاته .
2 ـ سجن هانأى بن عروة:
كان محمد بن الأشعث وأسماء بن خارجة يدخلون على ابن زياد مُسَلّمين، فقال لهما: ما فعل هانأى بن عروة؟ فقالا أيها الأمير، إنه عليل منذ أيام، فقال ابن زياد: وكيف ؟! بلغني أنه يجلس على باب داره عامّة نهاره، فما يمنعه من إتياننا وما يجب عليه في حق التسليم؟ قالا: سنعلمه ذلك، ونخبره باستبطائك إياه فخرجا من عنده، وأقبلا حتى دخلا على هانأى بن عُروة، فأخبراه بما قال لهما ابن زياد، وما قالا له، ثم قالا له: أقسمنا عليك إلاّ قمت معنا إليه الساعة لَتُسل سخيمة قلبه. فدعا ببغلته فركبها ومضى معهما، حتى إذا دنا من قصر الإمارة خبُثت نفسه فقال لهما: إن قلبي قد أوجس من هذا الرجل خيفة. قالا: ولم تحدث نفسك بالخوف وأنت بريء الساحة؟!
فمضى معهما حتى دخلوا على ابن زياد، فأنشأ ابن زياد يقول متمثلاً:
أريدُ حياتَه ويريدُ قتلي
عَذِيرَك من خَلِيلِكَ من مراد
قال: هانئ وما ذاك أيها الأمير؟
قال ابن زياد: وما يكون أعظم من مجيئك بمسلم بن عقيل وإدخالك إياه منزلك، وجمعك له الرجال ليبايعوه؟ فقال هانأى: ما فعلت وما أعرف من هذا شيئاً، فدعا ابن زياد بالشامي، وقال: يا غلام، ادع لي معقلاً. فدخل عليهم. فقال ابن زياد لهانئ بن عروة: أتعرف هذا؟ فلما راه علم أنه إنما كان عيناً عليهم. فقال هانئ: أصدُقُك والله أيها الأمير، وإني والله ما دعوت مسلم بن عقيل وما شعرت به، ثم قصّ عليه قصّته على وجهها. ثم قال: فأمّا الان فأنا مخرجه من داري لينطلق حيث يشاء، وأعطيك عهداً وثيقاً أن أرجع إليك. قال ابن زيـاد: لا والله لا تفارقني حتى تأتيني بـه. فقال هانأى: أو يجمل بي أن أسلم ضيفي وجاري للقتل، والله لا أفعل ذلك أبداً. فاعترضه ابن زياد بالخيزرانة، فضرب وجهه، وهشم أنفه، وكسر حاجبه، وأمر به فأدخل بيتاً . فبلغ الخبر عمرو بن الحجاج الزبيدي: أن هانئاً قد قتل، فأقبل في قبيلة مذحج، وأحاط بالقصر، ونادى بأنه لم يخلع الطاعة، وإنما أراد الاطمئنان إلى سلامة هانأى، فأمر ابن زياد القاضي شريح بأن يدخل على هانأى، وينظر إليه، ويخبرهم أنه حي. ففعل . فقال لهم سيدهم عمرو بن الحجّاج: أما إذا كان صاحبكم حياً فما يعجلكم الفتنة؟ انصرفوا فانصرف.
3 ـ استخدام ابن زياد للأشراف للقضاء على تمرد الكوفة:
لما بلغ مسلم بن عقيل خبر ضرب وجه هانأى بن عروة، أمر أن ينادى في أصحابه الذين بايعوه، واستخدم كلمة السر وهي: يا منصور أمت، فتنادى أهل الكوفة فاجتمعوا إليه، وكان عدد الذين حضروا أربعة الاف رجل ، فعقد مسلم لعبيد الله بن عمرو بن عزيز الكندي على ربع كندة وربيعة، وأمره أن يسير أمامه بالخيل، ثم عقد لمسلم بن عوسجة الأسدي على ربع مذحج وأسد وأمّره على الرجّالة، وعقد لأبي ثمامة الصائدي على ربع تميم وهمدان، وعقد لعباس بن جعدة الجدلي على ربع المدينة، ثم قدم نحو القصر.
ولما بلغ ابن زياد إقباله تحرّز وتمنّع بالقصر ، وكان ابن زياد يملك قدراً كبيراً من الدهاء والمكر والخداع، حيث إنه بمجرد دخوله القصر جمع وجوه الكوفة واحتفظ بهم عنده حتى يكونوا وسيلة ضغط مهمة عنده ستثمر عن نتائج إيجابية جداً لصالح ابن زياد . وتقدم مسلم بهذه الجموع، صوب قصر الإمارة التي يتحصن بها ابن زياد، وهنا طلب ابن زياد من أشراف الناس وزعماء الكوفة الذين معه أن يعظوا الناس ويخذلوهم ويخوفونهم بقرب أهل الشام، وصار هؤلاء الأمراء والزعماء يثبطون الناس، ويذكرونهم بالسلامة والأمن، وأنهم إن لم ينصرفوا سيحرمون من العطاء، وسيساقون إلى الثغور وسينالهم العقاب الشديد ، ولم يكن التثبيط مقصوراً على الأمراء فقط، بل إن النساء كان لهن دور كبير في إضعاف عزيمة المناصرين لمسلم، إضافة إلى الاباء وكبار السن، فقد كان لهم نفس الدور. وكانت المرأة تأتي ابنها وأخاها وتقول: انصرف، الناس يكفونك، ويجيء الرجل إلى ابنه وأخيه ويقول: غداً يأتيك أهل الشام فما تصنع بالحرب والشر ؟! انصرف .
وأخذت هذه الحرب النفسية التي جوبه بها المؤيدون لمسلم بن عقيل من التهويل والتخويف تعمل عملها بين صفوف الناس، فبدؤوا ينصرفون عن مسلم بن عقيل وأخذ العدد يتضاءل سريعاً حتى إنه لما قرب المساء لم يبقَ مع مسلم بن عقيل إلا عدد بسيط يتراوح بين الثلاثمئة والخمسمئة رجل ، وكان غالبية الذين بقوا مع مسلم بن عقيل من مذحج فأمر ابن زياد عبيد الله بن كثير بن شهاب الحارثي أن يخرج فيمن أطاعه من مذحج ويسير بالكوفة ويخذل الناس عن ابن عقيل، ويخوفهم بالحرب وعقوبة السلطان، ثم أمر ابن زياد محمد بن الأشعث أن يخرج فيمن أطاعه من كنده وحضرموت ويرفع راية الأمان لمن يأتيه من الناس، وقال مثل ذلك للقعقاع بن شور الذهلي، وشبت بن ربعي التميمي، وحجار بن أبجر العجلي، وشمر بن ذي الجوشن العامري، وأبقى سائر وجوه الناس معه .
وأمام هذه الإجراءات السريعة من ابن زياد، وأمام الشد النفسي الذي نازع غالبية من انضموا إلى مسلم بن عقيل أخذ هذا العدد يتضاءل حتى وصل إلى ستين رجلاً ، ثم حدثت معركة بين مسلم وأتباعه وبين ابن الأشعث، والقعقاع بن شور، وثبت بن ربعي عند الرحبة، ويبدو أن هذه المعركة لم تدم طويلاً عندما تنبه القعقاع بن شور إلى أن المقاتلين إنما يقاتلون لأجل النجاة، عند ذلك أمر بإفساح الطريق لهم، فهربوا نحو المسجد، ولما أمسى المساء تفرق الناس، وبقي مسلم بن عقيل وحيداً في طرقات الكوفة .
4 ـ القبض على مسلم بن عقيل وقتله:
أصبح مسلم بن عقيل وحيداً يتردد في طرق الكوفة، فأتى بيتاً فخرجت إليه امرأة، فقال: اسقني، فسقته، ثم دخلت، ومكثت ما شاء الله، ثم خرجت، فإذا به على الباب، فقالت: يا هذا، إن مجلسك مجلس ريبة، فقم، فقال: أنا مسلم بن عقيل، فهل عندك مأوىً؟ قالت: نعم، فأدخلته، وكان ابنها مولى لمحمد بن الأشعث، فانطلق إلى مولاه فأعلمه، فبعث عبيد الله الشُّرَط إلى مسلم، فخرج وسل سيفه، وقاتل فأعطاه ابن الأشعث أماناً فسلّم نفسه .
وفي الطريق نحو ابن زياد بكى مسلم، فقيل له: إن من يطلب مثل ما تطلب لا يبكي إذا نزل به مثل الذي نزل بك. قال: إني والله ما لنفسي أبكي وما لها من القتل أرثي وإن كنت لم أحب لها طرفة عين تلفاً، ولكني أبكي لأهلي المقبلين إلى الكوفة، أبكي حسيناً وال الحسين.
وأقبل مسلم على محمد بن الأشعث فقال: يا عبد الله، إني والله أراك ستعجز عن أماني، فهل عندك خير تستطيع أن تبعث رجلاً على لساني يبلغ حسيناً عني رسالة؟ فإني لا أراه إلا قد خرج إليكم اليوم أو غداً هو وأهل بيته، وإن ما تراه من جزعي لذلك، فتقول: إن ابن عقيل بعثني إليك وهو في أيدي القوم أسير لا يدري أيصبح أم يمسي حتى يقتل، وهو يقول لك: ارجع بأهلك ولا يغرنك أهل الكوفة، فإنهم أصحاب أبيك الذي كان يتمنى فراقهم بالموت أو القتل، إن أهل الكوفة قد كذبوك وكذبوني وليس لكاذب رأي.
فقال محمد بن الأشعث: والله لأفعلن، ولأعلمن ابن زياد أني قد أمنتك. ودعا ابن الأشعث إياس بن العباس الطائي، وقال له: اذهب فالقَ حسيناً فأبلغه هذا الكتاب، ثم أعطاه راحلة وتكفل له بالقيام بأهله وداره ، وأدخل محمد بن الأشعث مسلم بن عقيل على ابن زياد، وأخبره بما أعطاه من الأمان، فقال ابن زياد: ما بعثناك لتؤمنه، ولم يقبل أمانه ، واستسقى مسلم وهو بباب القصر، فجاءه عمار بن عقبة بماء بارد، ولكنه لم يستطع أن يشرب لما كان يختلط به من دمه، فتركه ودخل على ابن زياد فقال له: إني قاتلك. قال: كذلك؟ قال: نعم. قال: فدعني أوصي إلى بعض قومي، قال: أوصِ. فنظر مسلم في جلسائه وفيهم عمر بن سعد بن أبي وقاص، فقال: عمر، إن بيني وبينك قرابة، ولي إليك حاجة، وهي سر، فقم معي إلى ناحية القصر حتى أقولها لك، فأبى أن يقوم معه حتى أذن له ابن زياد، فقام فتنحى قريباً من ابن زياد، فقال له مسلم: إن علي ديناً في الكوفة سبعمئة درهم، فاقضها عني، واستوهب جثتي من ابن زياد فوارِها،
وابعث إلى الحسين، فإني كنت قد كتبت إليه أن الناس معه، ولا أراه إلا مقبلاً، فقام عمر، فعرض على ابن زياد ما قال له: فأجاز ذلك كله، وقال: أما حسين فإنه لم يردنا ولا نرده، وإن أرادنا لم نكف عنه، ثم أمر ابن زياد بمسلم بن عقيل، فأصعد إلى أعلى القصر، وهو يكبر ويهلل ويسبح ويستغفر ويصلي على ملائكة الله، ويقول: اللهمّ احكم بيننا وبين قوم غرونا وخذلونا، ثم ضرب عنقه رجل يقال له: بكير بن حمران، ثم ألقى رأسه إلى أسفل القصر، وأتبع رأسه بجسده .
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC9(1).pdf
الجزء الثاني:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC139.pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com