الإثنين

1446-11-07

|

2025-5-5

تأملات في الآية الكريمة:

{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}

من كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ

الحلقة: 191

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

جمادى الآخرة 1444ه/ يناير 2023م

ينظر المسلم فإذا له نسب عريق وماضٍ طويل وأسوة ممتدة على آماد الزمان، وإذا هو راجع إلى إبراهيم لا في عقيدته فحسب، بل في تجاربه التي عاناها كذلك، فيشعر أن له رصيداً من التجارب أكبر من رصيده الشخصي، وأكبر من رصيد جيله الذي يعيش فيه، وإنَّ هذه القافلة الممتدة في شعاب الزمان، من المؤمنين بدين الله، الواقفين تحت راية الله، قد مرَّت بمثل ما يمرُّ به، وقد انتهت في تجربتها إلى قرار قد اتخذته، فليس الأمر جديداً ولا مبتدعاً ولا تكليفاً يشقه على المؤمنين، ثم إنّ له لأمة طويلة عريضة يلتقي معها في العقيدة، ويرجع إليها إذا انبتت الروابط بينه وبين أعداء عقيدته، فهو فرع من شجرة ضخمة باسقة عميقة الجذور كثيرة الفروع وارفة الظلال، الشجرة التي غرسها إبراهيم - عليه السّلام -(1).

‌أ- {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ}:

{قَدْ} كان {لَكُمْ}: يا معشر المؤمنين، و{أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} أي: قدوة صالحة وائتمام ينفعكم(2)، ونموذج طيب في عمل الخير تتأسون به وتفعلون مثله(3)، و{فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ}: من المؤمنين؛ لأنكم قد أمرتم أن تتبعوا ملة إبراهيم حنيفاً، فقد مرَّ إبراهيم - عليه السّلام - والذين معه بالتجربة التي يعانيها المسلمون المهاجرون وفيهم أسوة حسنة(4).

 

‌ب- {إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}

تبرأ إبراهيم - عليه السّلام - ومن معه من المؤمنين من قومهم المشركين ومما يعبدون من دون الله، ثم صرّحوا عداوتهم غاية التصريح(5)، وكانت بشكل واضح ومسموع، ليس منهم فحسب بل منهم ومما يعبدون، فكلهم سواء في تلك البراءة(6).

 

‌ج- {كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}:

{كَفَرْنَا بِكُمْ}: وهذا بيان فيه أن ما نعتقد به نحن المؤمنون بالله سبحانه مخالف لمعتقدكم، وإن ممارساتنا التعبية تختلف كل الاختلاف عن ممارستكم، بل وحتى تلك التي تتشابه أو لها شيء من انحرافكم وبدعكم سنتركها من أجل أن لا تتلوث عقيدتنا السليمة بأفعالكم المشينة، ولأنّ المؤمنين يوالون الله سبحانه وتعالى ورسله عليهم السلام، فهم يكفرون بمن يكفر بالله سبحانه وتعالى؛ لأنَّ الولاء يقتضي النصرة، والله سبحانه وتعالى سمّى من يكفر به عدو، قال تعالى: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} ]فصلت:19[، وعدو الله سبحانه وتعالى هو عدو المؤمنين، فمن أجل ذلك يكفرون به(7).

{وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا}: ظهر وبان البغض بالقلوب، وزوال مودتها والعدوان بالأبدان، وليس لتلك العداوة والبغضاء وقت ولا حد، بل ذلك {أَبَدًا} ما دمتم مستمرين على كفركم(8)، هكذا عداء وكراهية، لأننا على طرفي النقيض ولا يجتمع الإيمان أبداً مع الكفر(9).

فهي البراءة من القوم ومعبوداتهم وعبادتهم، وهو الكفر بهم والإيمان بالله، وهي العداوة والبغضاء لا تنقطع حتى يؤمن القوم بالله وحده، وهي المفاصلة الحاسمة الجازمة التي لا تستبقي شيئاً من الوشائج والأواصر، بعد انقطاع وشيجة العقيدة وآصرة الإيمان، وفي هذا فصل الخطاب في مثل هذه التجربة التي يمرُّ بها المؤمن في أي جيل وفي قرار إبراهيم والذين معه أسوة حسنة لخلفائهم من المسلمين إلى يوم الدين(10).

{حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} أي: فإذا آمنتم بالله وحده، زالت العداوة والبغضاء، وانقلبت مودّة وولاية، فلكم أيها المؤمنون أسوة حسنة في إبراهيم - عليه السّلام - ومن معه، في القيام بالإيمان والتوحيد ولوازم ذلك ومقتضياته، وفي كل شيء تعبدوا به الله وحده(11).

 

‌د- {إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ}:

أي: لكم أن تتأسوا بإبراهيم - عليه السّلام - ببراءته من قومه إلا من استغفاره لأبيه فلا تتأسوا به، فإن إبراهيم قد وعد أباه أن يستغفر له، وبيّن له أنه لا يدفع عنه عذاب الله إن عصاه وأشرك به، ولهذا لما تبيَّن لإبراهيم أن أباه أقام على الكفر وأصر عليه، تبرأ منه، قال تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} ]التوبة:114[(12).

 

‌ه- {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}:

وفي دعاء إبراهيم - عليه السّلام - هذا تفويضه أمره كله لله، وتوجه إليه بالتوكل والإنابة، والرجوع إليه في كل حال(13).

{رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا} أي: اعتمدنا عليك في جلب ما ينفعنا ودفع ما يضرّنا ووثقنا بك يا ربنا في ذلك(14)، والتوكل عمل القلب وليس عمل الجوارح، فالجوارح تعمل والقلوب تتوكل(15).

{وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا} أي: رجعنا إلى طاعتك ومرضاتك وجميع ما يقرّب إليك، فنحن في ذلك ساعون وبفعل الخير مجتهدون(16).

{وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} أي: المرجع يوم القيامة(17)، فنستعد للقدوم عليك، ونعمل ما يزلفنا إليك، فإلى الله مرجعنا(18).

وهذا التسليم المطلق لله هو السّمة الإيمانية الواضحة في إبراهيم- عليه السّلام - يبزرها ليوجه إليها قلوب أبنائه المسلمين، كحلقة من حلقات التربية والتوجيه بالقصص والتعقيب عليه، وإبراز ما في ثناياه من ملامح وسمات وتوجيهات على طريقة القرآن الكريم، ويستطرد لهذا في إثبات بقية دعاء إبراهيم ونجواه لمولاه(19).

 

مراجع الحلقة الواحدة والتسعون بعد المائة:

(1) في ظلال القرآن، سيد قطب، (6/3542)

(2) تفسير السعدي "تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان"، ص1813.

(3) تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، (24/15120).

(4) في ظلال القرآن، سيد قطب، (6/3542).

(5) تفسير السعدي "تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان"، ص1814.

(6) ملة أبيكم إبراهيم، عبد الستار كريم المرسومي، ص146.

(7) ملة أبيكم إبراهيم، عبد الستار كريم المرسومي، ص146.

(8) تفسير السعدي "تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان"، ص1814.

(9) تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، (24/15120).

(10) في ظلال القرآن، سيد قطب، (6/2542).

(11) تفسير السعدي "تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان"، ص1814.

(12) التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم، (8/181).

(13) في ظلال القرآن، سيد قطب، (6/3542).

(14) تفسير السعدي "تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان"، ص1814.

(15) تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، (24/15122).

(16) تفسير السعدي "تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان"، ص1814.

(17) التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم، (8/181).

(18) تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، (24/15122).

(19) في ظلال القرآن، سيد قطب، (6/3543).

 

يمكنكم تحميل كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ

من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي

http://www.alsallabi.com/salabibooksOnePage/27


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022