(قصة إبراهيم عليه السّلام في سورة الزخرف)
من كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ
الحلقة: 190
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
جمادى الآخرة 1444ه/ يناير 2023م
قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28)} ]الزخرف:26-28[:
كانت قريش تقول: أنّها من ذرية إبراهيم - وهذا حق-، وإنها على ملّة إبراهيم - وهذا ما ليس بحق-، فقد أعلن إبراهيم كلمة التوحيد قوية واضحة، لا لبس فيها ولا غموض، ومن أجلها هجر أباه وقومه بعد ما تعرّض للقتل والتحريق، وعليها قامت شريعته وبها أوصى ذريته، فلم يكن للشرك فيها ظلٌّ ولا خيط رفيع،
وفي هذا الشوط من السورة، يردهم إلى هذه الحقيقة التاريخية، ليعرضوا عليها دعواهم التي يدعون، ثم يحكي اعتراضهم على رسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم وقولهم كما جاء في سورة الزخرف(1).
إنَّ دعوة التوحيد التي يتنكّر لها القرشيّون، هي دعوة أبيهم إبراهيم - عليه السّلام - وهي الدعوة التي واجه بها أباه وقومه مخالفاً بها عقيدتهم الباطلة، غير مُساق إلى عبادتهم الموروثة، ولا متمسك بها لمجرد أنه وجد أباه وقومه عليها، بل لم يجاملهم في إعلان تبرئه المطلق منها في لفظ واضح صريح يحكيه القرآن الكريم بقوله: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27)}.
وإنه يبدو من حديث إبراهيم - عليه السّلام - وتبرئه مما يعبدون إلا الذي فطره أنهم لم يكونوا يكفرون ويجحدون وجود الله أصلاً، إنما كانوا يشركون به ويعبدون معه سواه، فتبرأ من كل ما يعبدون، واستثنى الله ووصفه بصفته التي تستحق العبادة ابتداءً وهو أنه فطره وأنشأه، فهو الحقيق بالعبادة بحكم أنه الموجود، وقرّر يقينه بهدية ربّه له، بحكم أنه هو الذي فطره، فقد فطره ليهديه وهو أعلم كيف يهديه، قال إبراهيم هذه الكلمة التي تقوم بها الحياة، كلمة التوحيد التي يشهد بها الوجود، قالها {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}.
ولقد كان لإبراهيم - عليه السّلام - أكبر قسط من إقرار هذه الكلمة في الأرض، وإبلاغها إلى الأجيال من بعده عن طريق ذريته وعقبه، ولقد قام بها من بنيه رسل، كان منهم ثلاثة من أولي العزم: موسى وعيسى ومحمد خاتم الرسل عليهم صلوات الله وسلامه(2).
ولقد عرفت البشرية كلمة التوحيد قبل إبراهيم عليه السّلام، ولكن هذه الكلمة لم تستقر في الأرض إلا من بعده، عرفتها على لسان نوح وهود وصالح - عليهم السّلام - وغيرهم من الرسل الذين لم يتصل لهم عقب يقوم على هذه الكلمة ويعيش بها ولها، فلما عرفتها على لسان إبراهيم ظلت متصلة في أعقابه، وقام عليها من بعده رسل متصلون لا ينقطعون، حتى كان ابنه الأخير من نسل إسماعيل وأشبه أبنائه به محمد صلّى الله عليه وسلّم خاتم الرسل، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى كلمة التوحيد، وجعل لها أثراً في كل نشاط للإنسان المسلم، وكل تصور(3).
1. قول ابن كثير:
يقول تعالى مخبراً عن عبده ورسوله وخليله إمام الحنفاء، ووالد من بعث بعده من الأنبياء الذي تنتسب إليه قريش في نسبها ومذهبها، أنه تبرأ من أبيه وقومه في عبادتهم الأوثان فقال: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِه} أي: هذه الكلمة وهي عبادة الله تعالى وحده لا شريك له، وخلع ما سواه من الأوثان، وهي "لا إله إلا الله" أي: جعلها دائمة في ذريته يقتدي به فيها من هداه الله من ذرية إبراهيم - عليه السّلام - {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي إليها(4).
2. قول السعدي:
يخبر تعالى عن ملّة إبراهيم الخليل - عليه السّلام - الذي ينتسب إليه أهل الكتاب والمشركون وكلهم يزعم أنه على طريقته، فأخبر عن دينه الذي ورثه في ذريته فقال: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ} الذين اتخذوا من دون الله آلهة يعبدونهم ويتقربون إليهم {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} أي: مبغض له مجتنب معادٍ لأهله {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي}، فإني أتولاه وأرجو أن يهديني للعلم بالحقِّ والعمل به، فكما فطرني ودبرني بما يصلح بدني ودنياي، {فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} لما يصلح ديني وآخرتي.
و{وَجَعَلَهَا} أي: هذه الخصلة الحميدة، التي هي أهم الخصال وأساسها، وهي إخلاص العبادة لله وحده والتبرّي من عباده ما سواه، و{كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} أي: في ذريته، {لَعَلَّهُمْ} إليها {يَرْجِعُونَ} لشهرتها عنه وتوصيته لذريته، وتوصية بعض بنيه كإسحاق ويعقوب لبعض كما قال تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} ]البقرة:130[ إلى آخر الآيات الكريمة، فلم تزل هذه الكلمة موجودة في ذريته - عليه السّلام - حتى دخلهم الترف والطغيان(5).
3. قول الشنقيطي:
ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة أنّ إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام قال لأبيه وقومه: إنه براء أي بريء، من جميع معبوداتهم التي يعبدونها من دون الله، أي: يعني أنه بريء من عبادة كل معبود إلا المعبود الذي خلقه وأوجده فهو وحده معبوده.
وقد أوضح الله تعالى في هذا المعنى الذي ذكره عن إبراهيم - عليه السّلام - في مواضع أخرى في كتابه، كقوله تعالى: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78)} ]الشعراء:75-78[، وقوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) } ]الأنعام:78-79[.
وزاد جلَّ وعلا في سورة الممتحنة براءته أيضاً من العابدين وعداوته لهم وبغضه لهم في الله، وذلك في قوله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} ]الممتحنة:4[، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} ذكر نحوه في قوله: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ}، وقوله تعالى: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} ]الصافات:99[، وقوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} ]الأنعام:77[، وقوله تعالى: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} أي خلقني، يدلُّ على أنه لا يستحق العبادة إلا الخالق وحده جلَّ وعلا.
وهذا المعنى الذي دلَّت عليه هذه الآية، دلَّت عليه آيات أُخر من كتاب الله العزيز، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} ]البقرة:21[، وقوله تعالى: {وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ} ]الشعراء:7[، وقوله تعالى: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} ]الرعد:16[، وقوله تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ} ]النحل:17[، وقوله تعالى: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3)} ]الفرقان:2-3[ إلى غير ذلك من الآيات(6).
وقال أيضاً: الضمير المنصوب في {جَعَلَهَا} على التحقيق راجع إلى كلمة الإيمان المشتملة على معنى لا إله إلا الله المذكورة في قوله: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي}؛ لأنَّ لا إله إلا الله نفي وإثبات، فمعنى النفي منها هو البراءة من جميع المعبودات غير الله في جميع أنواع العبادات، وهذا المعنى جاء موضحاً في قوله تعالى: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27)}، ومعنى الإثبات منها هو إفراد الله وحده بجميع أنواع العبادات على الوجه الذي شرعه على ألسنة رسله، وهذا المعنى جاء موضحاً في قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ}(7).
مراجع الحلقة التسعون بعد المائة:
(1) في ظلال القرآن، سيد قطب، (5/3184).
(2) في ظلال القرآن، سيد قطب، (5/3184).
(3) في ظلال القرآن، سيد قطب، (5/3184).
(4) تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير)، (6/224).
(5) تفسير السعدي "تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان"، ص1608.
(6) أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، محمد الأمين الشنقيطي، (7/229-230).
(7) أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، محمد الأمين الشنقيطي، (7/231).
يمكنكم تحميل كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ
من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي