(في ظروف مقتل عماد الدين زنكي)
من كتاب عصر الدولة الزنكية ونجاح المشروع الإسلامي بقيادة نور الدين الشهيد في مقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي
الحلقة: 79
بقلم: د. علي محمد الصلابي
جمادى الأول 1444 ه/ نوفمبر 2022م
تجمع المصادر على أن زنكي اغتيل ليلة الخامس من ربيع الاخر عام 541هـ خلال حصاره لقلعة جعبر، عندما انقض عليه ـ وهو نائم ـ غلام أو عدة غلمان من مماليكه المقرَّبين، الذين كانوا يقومون على حراسته أثناء نومه، وإنهم هربوا ـ بعد قتله ـ إلى القلعة، ونادوا أصحابها بحقيقة الأمر، ففتحوا لهم الأبواب، وإنه ما إن انتشر نبأ الاغتيال في معسكره حتى اضطرب، وتشتت، وسادته الفوضى، فلم يرَ قادته بُداً من فك الحصار والرَّحيل(1)، قال ابن الأثير: «..ختم الله بالشهادة في أعماله».
لاقــــــــــــــــــــى الحِمـــــــــــــــام ولـــــــــــم أكــــــن مُستَيقنــــــــــاً أنَّ الحِمـــــــــــــــــــــــام سَيُتْلَـــــــــــــــــــــــــــــى بحِمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــامِ
فأضحى وقد خانه الأمل وأدركه الأجل، وتخلَّى عنه العبيد والخول، فأيُّ نجم للإسلام أفل، وأيُّ ناصر للإيمان رحل، وأيُّ بحر ندى نضب، وأيُّ بدر مكارم غرب، وأيُّ أسدٍ اُفْتُرِسَ، ولم يُنْجِه قُلَّةُ(2) حصنٍ، ولا صهوةُ فرسٍ، فكم أجهد نفسه لتمهيد الملك وسياسته، وكم أدَّبها(3) في حفظه وحراسته.
فأتاه مبيد الأمم، ومقسيها في الحَدَث والقدم، فأصاره بعد القهر للخلائق مقهوراً، وبعد وثير المضاجع في التراب معفراً مقبوراً، رهين جَدَثٍ لا ينفعه إلا ما قَدَّم، قد طُوِيَتْ صحيفةُ عمله، فهو موثوق في صورة مستسلم(4).
وقد اختلفت المصادر في تفاصيل عملية القتل، وهوية القاتل، وسبب القتل، فمن حيث تفاصيل عملية القتل؛ يشير العماد الأصفهاني إلى أنَّ عماد الدين زنكي إذا نام ينام حول سريره عدد من خدمه، يشقون عليه في حالتي يقظته، ومنامه، ويذودون عنه ذود الآساد في ملاحمه، ويزورونه زور الخيال في أحلامه، وهو يحبُّهم أعمق الحب، ولكنه مع الوفاء منهم يجفو فهم أبناء الفحول القروم من الترك، والأرمن، والروم، وكان من دأبه أنه إذا نقم على كبير؛ أرداه، وأقصاه، واستبقى ولده وخصاه.
فهم على أنهم من ذوي الاختصاص ينتهزون فيه فرصة الاقتصاص، فنام تلك الليلة وحوله مماليكه، فانتبه وهم قد شرعوا في اللعب، وأخذوا في الطرب، فزجرهم، وتوعدهم وهم ساكتون، لكن كبيرهم المدعو «يرنقش» أسرَّ ذلك في نفسه، وراح ينتظر الفرصة للأخذ بثأره، وما إن عاد سيده إلى النوم ثانية حتى أسرع إليه، وبرك عليه، وذبحه، واستطاع ـ بعد ذلك ـ أن يتسلل من المعسكر إلى أسوار جعبر، دون أن يشكَّ أحد فيه باعتباره كبير حراس زنكي، وهناك أخبر أهل القلعة وحراسها بما أقدم عليه، وأراهم الأدلة، والعلامات(5)، فأسرعوا بإشاعة الخبر في داخل القلعة، وبين صفوف قواته؛ كي يشيعوا الاضطراب فيها، ويجبروها على الانسحاب، وقد نجحوا في ذلك(6).
ويتفق كلٌّ من ابن القلانسي، وسبط ابن الجوزي، مع العماد الأصفهاني في هذه الرواية مع اختصار وحذف بعض التفاصيل(7).
وأما ابن العديم فإنه يذكر: أنَّ زنكي تهدد يرنقش خلال النهار، فخاف الأخير منه، وأسرع باغتياله ليلاً(8). وأما من حيث هوية القاتل؛ فيشير كلٌّ من ابن القلانسي، ورنسيمان، وأليسييف إلى أن القاتل كان من أصل إفرنجي.
أما حسن حبشي فيقول: «ولعل القاتل كان باطنياً»(9). ومن حيث سبب القتل فيبدو أن صاحب قلعة جَعْبَر هو الذي حرَّض على قتله كي يتخلص من الحصار، وأنه كان على صلة بالقاتل، بدليل ما أورده ابن العديم من أن حساناً البعلبكي صاحب منبج تقدم إلى أسوار القلعة، ونادى على ابن مالك، وقال له: «يا أمير علي! أيش بقى يخلصك من أتابك؟».
فقال له: «يا عاقل! يخلصني الذي خلَّصك من حبس بلك». يعني حين قُتل بلك على منبج، وخلص حسان، يضاف إلى ذلك أن يرنقش التجأ إلى القلعة بعد حادثة الاغتيال(10)، والراجح أن يرنقش نفَّذ عملية الاغتيال مدفوعاً لثلاثة عوامل: شخصية، ونفسية، وسياسية(11).
أما العامل الشخصي: فيتمثَّل بتهديد عماد الدين زنكي له، وخشيته عاقبة هذا التهديد، فأسرع باغتيال سيده دفاعاً عن نفسه.
ويتجلى تأثير العامل النفسي في انزعاج يرنقش من معاملة عماد الدين زنكي القاسية له، وزجره إياه، ثم شعوره العميق بما أصابه من ظلم(12)، ولعب إحساسه بمرارة الإهانة دوره، فاندفع لحماية كرامته، وذبح سيده، ويصور الأصفهاني حركات يرنقش أثناء الاغتيال بالشكل الذي يبرز أثر الانفعال النفسي فيها: «فأسرع إلى زنكي، وبرك عليه وذبحه في نومه»(13).
وأما الدافع السياسي للاغتيال: فيقوم على وجهين: أولهما: اتفاق يرنقش ـ سراً ـ مع أصحاب قلعة جعبر لاغتيال عدوهم، وإنهاء أزمتهم بعد أن كاد حصنهم يوشك على الاستسلام، ويدخل ضمن هذا الاحتمال كون يرنقش ذا ميول باطنية، وربما تسلل إلى خدمة زنكي مُنذ زمن بعيد لتحقيق هدفه هذا، كعادة الباطنية في التستر، والانتظار الطويل لتنفيذ اغتيالاتهم، لكبار الشخصيات السياسية السنية، التي كانت تشكّل خطراً على دعوتهم، خاصة إذا ما عرفنا العطف، الذي كان يبديه أمراء جعبر تجاه الباطنية. أما ثاني الاحتمالات السياسية: فكون يرنقش ذا أصل «إفرنجي». كما أكّد ابن القلانسي، وابن واصل، ورنسمان، ويحتمل أن يكون قد أقدم على فعلته؛ إما باتفاق سري مع الصليبيين، أو بدافع شخصي مرتجل؛ يعود إلى حرصه على مصالح قومه، التي بدأ زنكي يوجه إليها ضربات حاسمة.
ولا نستطيع الجزم بأيٍّ من هذه الدوافع الثلاث لاغتيال زنكي، ذلك أن المصادر ـ كما رأينا ـ لم تعطِ القول الفصل في هذا المجال، ومن الخطأ الاعتقاد بأن يرنقش ذا الأصل الفرنجي اغتال سيده وهو في قمة انتصاره على الجبهتين الصليبية والإسلامية بدافع شخصيٍّ، أو نفسيٍّ محض، ولا ريب أن وراء هذا الاغتيال الخطير في هذه المرحلة الصعبة دوافع سياسية أبعد مدىً، وأشد خطورة، ربما تعود إلى الأصل الفرنجي للقاتل، أو إلى ميوله الباطنية، وربما تعود إلى اتفاقه سراً مع أمراء قلعة جعبر لقاء ما منَّوه به إذا أتم تخليصهم من عماد الدين زنكي، الذي غدا قاب قوسين، أو أدنى من اجتياح حصنهم.
واتجه القاتل بعد أن اغتال زنكي، إلى أسوار قلعة جعبر بسكينه الملطخ بالدم، وصاح في الحرس: شيلوني، فقد قتلت زنكي. فلم يصدِّقوه، فأراهم السكين، وعلامة أخرى، كان قد أخذها من سيده، وعند ذلك أصعدوه إلى القلعة، وتحققوا صدق ما كان يقول(14). وعندما بُشِّرَ صاحب جعبر بالنبأ؛ لم يصدقه أوّل الأمر، واوى يرنقش إلى القلعة، وأكرمه، وعرف حقيقة الأمر، فسرَّ بذلك، واستبشر بما أتاه من الفرج بعد الشدَّة الشديدة(15).
ويشير ابن العديم إلى ردِّ الفعل الذي أحدثه القاتل في أهل القلعة، فعندما ناداهم: إني قتلت زنكي؛ أجابوه: اذهب إلى لعنة الله، فقد قتلت المسلمين كلهم بقتله(16).
ولم يقبض القاتل ثمناً لخيانته إلا المطاردة والخوف، ذلك أن حكام جعبر قاموا بطرده بعد وقت قصير من التجائه إليهم، ولم يكافئوه على عمله؛ ربما خوفاً من قيام نور الدين محمود زنكي أمير حلب بالانتقام منهم لأبيه. وأخيراً تمَّ إلقاء القبض على القاتل، وأرسل مخفوراً إلى الموصل حيث قتل هناك(17).
وعندما انتشر خبر اغتيال زنكي في معسكره انقسم إلى قسمين: اتجه أحدهما إلى حلب بقيادة نور الدين محمود، واتجه القسم الاخر إلى الموصل بقيادة جمال الدين الأصفهاني، حيث قام هو وكبار الأمراء بتنصيب سيف الدين غازي أميراً على الموصل(18). وحملت جثة زنكي إلى الرقَّة حيث دفنت هناك، في منطقة قبور شهداء صفين(19).
مراجع الحلقة التاسعة والسبعون:
(1) ذيل تاريخ دمشق ص 284 عماد الدين زنكي ص 183.
(2) القلة: أعلى الجبل، وقلة كل شيء أعلاه.
(3) كتاب الروضتين أخبار الدولتين (1/154).
(4) المصدر نفسه (1/155).
(5) عماد الدين زنكي ص 183 تاريخ دولة ال سلجوق ص 190.
(6) تاريخ الزنكيين في الموصل وبلاد الشام ص 160.
(7) المصدر نفسه ص 160.
(8) زبدة حلب (2/281 ـ 282) عماد الدين زنكي ص 184.
(9) نور الدين والصليبيون ص 40 تاريخ الزنكيين ص 184.
(10) تاريخ الزنكيين في الموصل ص 160.
(11) المصدر نفسه ص 160 عماد الدين زنكي ص 184.
(12) تاريخ الزنكيين في الموصل ص 161.
(13) تاريخ دولة ال سلجوق ص 189 ـ 190 عماد الدين زنكي ص 185.
(14) عماد الدين زنكي ص 186.
(15) عماد الدين زنكي ص 186.
(16) المصدر نفسه ص 186.
(17) عماد الدين زنكي ص 187.
(18) عماد الدين زنكي ص 187.
(19) المصدر نفسه ص 187.
يمكنكم تحميل كتاب عصر الدولة الزنكية ونجاح المشروع الإسلامي بقيادة نور الدين الشهيد في مقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي
من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي